صفحات سورية

مجموعة الأزمات الدولية: كيف سيتم التحاور الأميركي مع دمشق

null
كيف سيتم التحاور مع دمشق؟ يطرح هذا السؤال في الوقت الذي تعكف فيه الإدارة الأميركية المقبلة على دراسة خيارتها حيال الموضوع، و في الظاهر فإن أي تقارب بين الولايات المتحدة و سوريا، إضافة إلى معاهدة سورية – إسرائيلية سوف تغير معطيات المنطقة بصورة جوهرية. وفي هذا السياق فإن التجربة الفرنسية تقدم دروسا مهمة تستحق التفكير والتأمل. إنها تجربة التزمت بدفع الحوار ولكنها في الوقت ذاته مستعدة لقطعه، وهي تجربة خلاقة في مقاربتها التي تحددت ضمن إطار معروف وواضح، كما تميزت فرنسا في هذه التجربة عبر تلمس الفرص غير المرئية عندما تصبح مهيأة وجاهزة.
بعد فترة من القطيعة والمواجهة التي وصفت بالشديدة بين باريس ودمشق، فإن التلاقي بين الطرفين بدا غير مؤكد بل صعبا للغاية على الرغم من قدوم رئيس فرنسي غير نموذجي ومستعد للحوار إضافة إلى كونه متلهفاً للتمايز عن إرث سلفه كما انه يفضل البراغماتية عن الإيديولوجيا. إن التجربة الفرنسية مع سوريا تميزت بكونها انتقلت من موقع إلى آخر أي من طرفي نقيض ولم تخضع لمخطط مسبق ومحكم بل سلكت حافة الهاوية بمعنى إبداء مرونة عالية وفي الوقت ذاته إعادة فحص دائمة لكل خطوة وتميزت بفترات اتصال وتواصل كثيفة كما بانقطاع عميق وجذري.
وفي الوقت الذي تبحث فيه فرنسا في ارتدادات ما يحدث في غزة على مجمل الصراع العربي – الاسرائيلي والسيادة اللبنانية أو مكافحة الارهاب، وأيضا ما يتعلق بالملف النووي الإيراني فإن مقاربتها تسلك الطريق دائما و تظل في كثير من الحالات غير محددة المعالم. وفي نظر الولايات المتحدة لم تكن هذه المنهجية صالحة أو فعالة إلا إذا أظهرت بالملموس عن المسائل التي يمكن أن تكون فيها شريكا ذا صدقية وعنصر استقرار في المنطقة.
وستشكل هذه الحالة احد التحديات في الأسابيع والأشهر المقبلة، وخلال هذه الفترة تستطيع كل من دمشق وباريس بلورة الخطوط العريضة لتطبيع العلاقات على الأقل في ثلاثة ملفات مهمة: ففي لبنان يكمن التحدي الرئيسي في تقليص كل الأخطار التي يمكن ان تعود بالأوضاع إلى المواجهة من جديد وذلك عبرالاستجابة الواقعية للمطالب الأكثر شرعية للغالبية الحالية في الحكومة اللبنانية، كمسألة ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، مراجعة الاتفاقيات البينية الموقعة أيام الهيمنة السورية على لبنان والقبول بمبدأ الوساطة الدولية فيما يتعلق بالمفقودين اللبنانيين في السجون السورية.
وفي العراق يمكن فرنسا ان تعتمد على شبكة قوية من العلاقات بنتها سوريا، ويمكن فرنسا أن تقوم بدور الكشاف لإدارة أوباما في اتجاه الانفتاح والتحاور مع جزء مهم و ذي تمثيل واسع للعرب السنة، وبصورة خاصة تلك الأوساط التي لاتزال خارج العملية السياسية وخارج ظاهرة الميليشيات القبلية أوالصحوات. إن دور الوساطة الذي يمكن أن تضطلع به فرنسا في هذا الموضوع يمكن أن يساهم في إطلاق تعاون بين واشنطن ودمشق لن ينحصر بالتأكيد حول الفكرة الوهمية لـ”إغلاق” الحدود السورية-العراقية.
الملف الثالث والأخير يتمحور حول المسألة الفلسطينية. إذ أن الصراع الدائر حاليا في غزة يوفر لباريس فرصة لتفحص جاهزية دمشق لممارسة تأثير إيجابي على حركة “حماس”، ضمن سياق الوصول إلى وقف عملي لإطلاق النار، لقبول حل عادل وقابل للحياة مع حركة “فتح” أو الموافقة على خطة السلام العربية إذا كان ذلك آخر عقبة أمام حكومة وحدة وطنية. لذلك يجب على فرنسا أن تتبنى مقاربة أوروبية تتكامل مع الجهود الامريكية ولا تكون بديلا منها، مقاربة تبحث في السبل الممكنة والشروط الضرورية للتحاور مع الحركة الإسلامية.
تلك هي نجاحات وحدود التجربة الفرنسية، المتميزة بالحيوية وأحيانا بالحدسية وفي بعض الحالات تتصف بالتناقض، ومع ذلك فهي تجربة غنية مليئة بالدروس للإدارة الامريكية.
• في البداية و بعد مرحلة طويلة من العلاقات المقطوعة، يصبح من الضروري- أو هكذا يفترض- الانتظار امام مرحلة من المراقبة المتبادلة وفحص إمكانات وفرص إعادة بناء علاقات الثقة، وبعد ذلك وحتى تتهيأ الظروف لنجاح الحوار يجب أن توضع أهداف واضحة وثابتة وليس عبر قائمة من التمنيات المتقلبة. بالنسبة لباريس كان الهدف واضحا وتمثل بصورة خاصة بانتخاب رئيس توافقي في لبنان، وهو هدف تم تحديده عبر اختيار ميشال سليمان رئيسا توافقيا.
• كما يجب، وبصورة موازية، أن يكون هناك قدر من الصبر في مرحلة التفاوض بقدر التحرك بالسرعة اللازمة حين تبرز الفرصة المناسبة، إن التسرع الذي صبغ التحرك الفرنسي عام 2007 عندما أطلق الرئيس ساركوزي حزمة سياسية شاملة وعلى كل الصعد، في أحسن الحالات لم يكن مفيداً وأما في اسوئها فإنه شجع دمشق على زيادة التصلب في مطالبها إضافة أن ذلك مكنها من ربح الوقت. وفي المقابل عندما سعت فرنسا إلى مكافأة سوريا على إشاراتها الاولى فإنها أكدت صدقيتها وحملت دمشق على الانخراط في العملية بصورة أكثر تقدما. إضافة إلى ذلك يجب عدم التردد في قطع الحوار إذا كانت الأحداث تبرر ذلك ولكن يجب ان يترافق ذلك مع الابقاء على خطوط اتصال مفتوحة وذلك للتحرك بسرعة عندما تتوافر من جديد شروط الانفتاح. إن الادارة الاميركية المقبلة يمكنها أن تستلهم من مقاربة حيث كل تقدم تتم مكافأته وكل تراجع يتعرض للعقاب.
• وفي النهاية هناك البعض في الولايات المتحدة يحلمون بقطع العلاقات السورية-الإيرانية، إن ذلك لن يحدث على الأقل ضمن المعطيات الحالية. ولكن يجب أن نلحظ أن سوريا عندما بدأت تلعب ورقة التقارب مع فرنسا أظهرت استعدادا كبيرا لتوسيع تحالفاتها الاستراتيجية، إن تنوعاً هكذا يجب أن يلقى تشجيعا من قبل الإدارة الأميركية فهو سيسمح بصورة خاصة بإضعاف أهمية إيران في عيون دمشق ويساعد عملية التقدم في إعادة تعريف وتحديد الحلفاء الاقليميين لسوريا.
إن العلاقات بين إدارة أوباما وسوريا سوف تمر بظروف صعبة دون شك، فإضافة إلى الموضوعات المثيرة أصلا للتوتر والقائمة حاليا كالتحقيق الذي تجريه وكالة الطاقة الذرية حول المزاعم عن برنامج نووي سوري، أو ما يتعلق بالمحكمة الدولية الخاصة بمقتل رفيق الحريري، فإن هذه العلاقات عرفت بالأصل في الماضي حالة غير صحية مليئة بعدم الثقة وسوء التفاهم وهو الامر الذي زادته إدارة بوش قتامة ولكنها في الحقيقة لم تخلقه، ضمن هذا السياق فإن فريق أوباما سوف يكون مخطئا إذا لم يستلهم دروسا من تجربة ساركوزي.

تقرير “مجموعة الأزمات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى