سلامة كيلةصفحات مختارة

في ظل البحث في أزمة اليسار يكون السؤال: أي يســار.. وأيــة أزمــة؟

سلامة كيلة
نعود إلى متابعة سيل من الكتابات حول أزمة اليسار، ولقد فرضت الأزمة العامة، سواء الأزمة المالية العالمية أو الأزمة المجتمعية التي نعيشها. هذه العودة، انطلاقاً من أن الوضع المحيط يفرض أن يلعب اليسار دوراً محورياً. إذاً، الحاجة هذه المرة هي التي فرضت العودة إلى البحث في أزمة اليسار، لكن كل ما كتب، تقريباً، ظل في العموميات، ومال إلى توصيف الوضع، وأشار إلى وجود الأزمة، وبالتالي تكررت أفكار تلازمنا منذ عقد الثمانينات على الأقل، حين بدأ الحديث عن الأزمة، أزمة حركة التحرر الوطني حينها.
السؤال الأول الذي أفترض أنه الأساس في البحث هو، أي يسار؟ فكل ما كتب، تقريباً، انطلق من أزمة اليسار، كأن اليسار تكوين محدَّد، ومتوافق عليه، وبديهي. وهذه أول إشكالية في البحث في الأزمة، لأنه يجب الانطلاق من أواليات واضحة وليس من مصطلحات ضبابية، غير محدَّدة، ودون معنى. ومن يتابع ما يكتب يلمس أن معنى اليسار يتراوح بين الأحزاب الشيوعية والقوى الماركسية، إلى كل القوى التي لعبت دوراً «تغييرياً» في العقود الماضية، أي القوى القومية والتحررية إضافة إلى الأحزاب والقوى الشيوعية والماركسية. لهذا كانت الأزمة تتمثل في أن هذه القوى لم تستطع تحقيق أهدافها، وهي أهداف التحرر والوحدة والتقدم والدمقرطة، إنها فشلت في تحقيق هذه الأهداف. ولم تستطع تحقيق أهدافها هو توصيف لما حصل وليس تحليل للأسباب التي جعلت تحقيقها غير ممكن، أو أدت إلى الفشل في تحقيقها. وربما لن يتجاوز البحث هذا التوصيف لأن الأساس الذي انطلق منه لن يوصل إلى نتيجة أخرى. فما الذي يجمع بين أزمة الأحزاب الشيوعية من جهة، والقوى الماركسية التي نهضت بعد هزيمة حزيران سنة 1967 من جهة أخرى؟ وما الذي يجمع بين أزمة هذه من جهة، وأزمة الأحزاب القومية التي وصلت إلى السلطة من جهة أخرى؟ ما الذي يوحد أزمة حزب يؤسس على نظرية يقول انها علمية، وآخر يؤسس على مفاهيم مثالية؟ بين حزب ينطلق من أنه يسعى إلى تحقيق مصالح الطبقة العاملة وآخر ينطلق من أنه يعبّر عن الشعب؟
الذي يوحد هو، فقط، الأزمة. وبالتالي هنا الفشل في تحقيق الأهداف التي عبّرت عن مرحلة كاملة من الحلم بالاستقلال والوحدة والتطور. لكن ما هو شكل تمظهر الأزمة لدى هذا أو ذاك؟
وفي هذه العموميات لا بد من أن نلاحظ أن هناك أحزاباً انتصرت، وحققت فئات فيها مصالحها كاملة، مثل ما حدث مع قوى قومية ووطنية وصلت إلى السلطة، وفرّخت مافيات و«رجال أعمال جددا». وهناك أحزاب لم تكن تفكّر في الوصول إلى السلطة وظلت تعتقد بأنها تدافع عن «مبادئ». بالتالي هل يمكن أن نعتبر أن الأزمة متشابهة في الحالين؟
ما أود قوله هو أن البحث في أزمة اليسار يجب أن يبدأ بتحديد معنى اليسار من أجل أن يكون ممكناً البحث في أزمته، وخصوصاً التحديد بما يعطي الجواب حول هل ان الانطلاق من السياسي، من تحديد اليسار انطلاقاً من الأهداف العامة، ومن كل من يسعى إلى تحقيق التطور، هو أمر كافٍ للوصول إلى تحديد الأزمة؟ إن الربط بالأهداف يجعل التماثل أساسياً في النظر إلى مختلف قوى اليسار، فهي جميعاً لم تحقق الأهداف التي طرحتها. لماذا؟ سيكون الجواب، لأنها عجزت. لكن لماذا عجزت؟ وهل هي متساوية في ذلك؟
الإشكال الأول في البحث يتلخص في التعميم، حيث يجري الحديث عن «أزمة حركة التحرر الوطني» (كما كان في السابق)، وعن «أزمة اليسار» (الآن)، وفي التعميم لا نتائج ممكنة، وليس من الممكن الوصول إلى تحديد صحيح للأزمة. بالتالي لا بد من الميل للتحديد، حيث ان هذا التوافق السياسي على أهداف عامة، يحوي اختلافات فكرية ومصالح طبقية، وحيث ان كل اتجاه فكري طبقي ينظر إلى الأهداف العامة من منظور مصالحه ووعيه. وهنا لن تكون الأزمة واحدة، ولن يكون المآل المتماثل هو نتاج مقدمات واحدة. وحيث لا بد من أن تناقش الأزمة ليس انطلاقاً من الفشل، بل يجب أن يفسر الفشل انطلاقاً من طبيعة وعي ورؤية كل اتجاه، ومكمن هذا الوعي وهذه الرؤية.
في هذا الوضع يصبح ضرورياً البحث في طبيعة الأحزاب الشيوعية: وعيها والأهداف التي طرحتها، والطبقات التي عبّرت عنها فعلياً. كما يصبح البحث ضرورياً في طبيعة الأحزاب القومية: وعيها وأهدافها والمصالح الطبقية التي عبّرت عنها، وهكذا.
من هذا المنطلق يمكن الفرز بين منظومتين، الأولى هي الأحزاب الشيوعية والقوى الماركسية، والثانية هي الأحزاب القومية والوطنية. الثانية طرحت الأهداف القومية العامة، التي عبّرت عن الميل لتحقيق التطور في فترة محدَّدة. ولقد وصلت إلى السلطة في عدد من البلدان العربية، لكنها لم تحقق من أهدافها سوى الجزء اليسير، وقادت إلى إعادة إنتاج «الوضع التبعي» المتسم بسيطرة طبقة كومبرادورية، هي «تجديد» لتلك الطبقة الكومبرادورية التي نشأت في أحضان الاستعمار واستلمت السلطة منه بعد تحقيق الاستقلال. وبالتالي فقد كسبت فئة ممن انخرط في صفوف الأحزاب القومية دون أن تتحقق الأهداف القومية. بمعنى أن الأحلام تكسرت لكن فئة حققت تحوّلها الطبقي من برجوازية صغيرة (وربما فئات مفقرة) إلى مافيات تسمى رجال الأعمال. هنا نجاح لفئة وفشل للمشروع التحرري الوحدوي، لماذا هذا النجاح وهذا الفشل؟
في المقابل لم تطرح الأحزاب الشيوعية على ذاتها مسألة التغيير واستلام السلطة، وكانت تضغط من أجل تحقيق إصلاحات في البنية القائمة، حيث كانت تسيطر بقايا الإقطاع، ثم الكومبرادور. ولم تتحقق هذه الإصلاحات بعد، لكن الأحزاب تفككت وتهمشت، وتكاد تتلاشى. ولقد إتبعت سياسات مربكة على المستوى الوطني ، وكذلك في ما خص المسألة القومية، وهو الأمر الذي كان يؤثر في وضعها، ويعطي الأسبقية لقوى أخرى (الأحزاب القومية، المقاومة الفلسطينية، القوى الأصولية). وبالتالي هل هي في أزمة ما دامت مطامحها «بسيطة»، وميلها التطوري هو المهيمن؟
هذا هو اليسار فما هي أزمته؟ وأساساً هل يمكن أن نشملها في «وصفة» واحدة؟

-2-

إذا كانت قوى اليسار في أزمة، كما يتضح في الواقع، وكما باتت تعترف هي ذاتها، فلا بد من أن نلحظ أن تمظهرها مختلف بين طرفين انطلاقاً من تحديد التعبير الطبقي لكل منهما. والطرفان هما: الأحزاب التي تمثل الطبقة العاملة، وهي هنا الأحزاب الشيوعية والقوى الماركسية التي تبلورت منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، والأحزاب القومية والوطنية الأخرى التي تطرح ما هو أعم، فتقول انها تمثل الشعب أو الطبقات الكادحة، وهي تمثل في الواقع الفئات الوسطى. وهذه الأحزاب الأخيرة لعبت في الغالب دوراً تغييرياً في المرحلة الماضية.
ولأنها لعبت هذا الدور سوف أتناولها أولاً، حيث يمكن البَدء من أن هذه الأحزاب تعاني من «أزمة بنيوية» في ما يتعلق بمقدرتها على تحقيق الأهداف التي طرحتها هي بالذات، وهي أزمة العجز عن حلّ التناقض بين الأهداف التي تطرحها (ويطرحها الواقع أساساً كونها تعبّر عن أهداف التطور العام) من جهة، والميل الامبريالي للسيطرة من جهة أخرى. حيث انها تسعى إلى تحقيق هذه الأهداف انطلاقاً من مصالحها التي ترتبط بالتطور الرأسمالي. أو فلنقل في إطار استمرار الملكية الخاصة، وفي «تقديسها»، رغم الشعارات «الاشتراكية» التي رفعتها، والتي لم تكن تعبّر سوى عن ميل يخصّ الفئات الوسطى ما دامت تنطلق من التمسك بالملكية الخاصة، ومن حلمها بأن تتملّك، أو تضخم ملكياتها الصغيرة. وهذه المصالح التي تفرض السعي للتملّك تجعلها في وضع مرتبك، ومأزوم.
بالتالي قلت «أزمة بنيوية»، بمعنى أن تحقيق هذه الأهداف العامة، أهداف التحرر والاستقلال والوحدة والتطور، يفرض تعميق التناقض مع الرأسمالية المهيمنة عالمياً، التي تصوغ الواقع وفق مصالحها، إلى حدّ القطع مع النمط الرأسمالي بمجمله ما دام تحقيق هذه الأهداف ليس ممكناً بالتوافق مع الرأسمالية في إطار النمط الرأسمالي ذاته. إن تأسيس دولة صناعية موحدة وحديثة هو أمر يتناقض مع نمط رأسمالي لا يقبل سوى باخضاع الأطراف لهيمنته، وبالتالي لنهبه. وهنا ليس من خيار إلا تحقيق «القطع»، من أجل تأسيس مفاعيل تطور داخلي مستقل، بعيداً عن كل تأثير النمط الرأسمالي. وفي المقابل ليس من خيار لدى الرأسمالية سوى قطع كل طريق على أي خيار يهدف إلى تحقيق التطور. التطور «محشور» هنا، وليس من إمكانية لزحزحته باتجاه يلغي جذرية تناقضه مع النمط الرأسمالي، لأن ذلك يعني العودة إلى فرض قوانين السيطرة الإمبريالية.
ولقد كانت الفئات التي قادت الحركة القومية والقوى الوطنية الأخرى في وضع يفرض عليها خوض الصراع والحلم بتحقيق التطور، لكونها كانت تعيش حالة انسحاق طبقي أو وطني، وتخضع لاضطهاد حقيقي، وهو الأمر الذي كان يدفعها إلى تبني كل تلك الأفكار التي سادت مع نشوء الميل للتحرر والوحدة. لكنها لم تكن ترى أن تناقضاً جذرياً يحكم علاقتها بالقوى الامبريالية، أو يمكن التدقيق بالقول انها كانت ترى أن التناقض هو تناقض سياسي يتعلق بالسيطرة أو تحقيق الاستقلال، أو أنه يمكن الوصول إلى توافق مع تلك القوى في حال مقدرتها على فرض ذاتها. ورغم شعاراتها العالية النبرة فقد وضعت التناقض معها في مرتبة الاختلاف، و«الحلم» بإمكانية التفاهم. فكانت تناور بين التحالف مع السوفيات بدون الثقة بهم، وتطوير العلاقة مع البلدان الرأسمالية، أو مع بعضها (أوروبا مثلاً، واليابان كذلك)، خصوصاً في المجال الاقتصادي (التبادل التجاري، أو الاستيراد تحديداً). ولقد كانت ترى أن تموضعها الطبيعي هو في الصف الرأسمالي، هذا برغم كل الشعارات وكل الخطاب الاعلامي الحماسي الذي كان يُردَّد آنئذ.
إن ميلها القوي للملكية الخاصة، وتأكيدها أنه «حق طبيعي»، كان يفرض هذا التصور وهذه الممارسة، في العلاقة مع «السوق الرأسمالية»، وفي تطوير «التبادل التجاري» معها. وكذلك الحلم بالاندماج بالنمط الرأسمالي وفق ما يحقق مصالحها.
وهذا الوضع كان يبقي «المنطق الرأسمالي» قوياً، بل على العكس كان يفتح الأفق لتوسعه من خلال تلك العلاقة، التي كانت تؤسس لنشوء مصالح لفئات هي على تماس مع السوق الرأسمالية، ويغذي الميل المحلي لانعاش العلاقات الرأسمالية المحلية التي كانت قد خضعت لهيمنة الدولة، ويعزز الميل لانشاء مصالح خاصة لتلك الفئات التي باتت هي السلطة، والتي باتت تتحكم بالاقتصاد والأمن. في وضع يفرض تعزيز تجاوز الرأسمالية من أجل تحقيق مجمل الأهداف المطروحة، والتي تطرحها هي بالذات. الأمر الذي كان يفتح على تغلغل الميل الرأسمالي أكثر فأكثر في بنى الفئة الحاكمة، ويضعف الفئات التي ما زالت تتمسك بالمشروع العام، رغم أن تناقضها مع الملكية الخاصة لم يكن جذرياً، وكانت تحاول الاستمرار في الدفاع عن هذا المشروع في مواجهة السيطرة الامبريالية.
ولهذا كان الضغط الامبريالي فاعلا هنا، حيث فرض اضعاف القوى التي تتمسك بالأهداف، وتعزيز وضع الفئات التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، والتي منها خرج رجال الأعمال الجدد، أي تلك النخب الكومبرادورية التي تترابط مع النمط الرأسمالي من جديد من موقع تبعي، والتي باتت هي السلطة. وهو ما فرض «الفرز»، حيث ربحت فئات وخسرت أخرى، لكن الأهداف العامة كانت قد أصبحت من الماضي، أصبحت من ذكريات الماضي لكون الحاضر عاد يفرض التكوين ذاته الذي يخدم السيطرة الامبريالية. بمعنى أن الأحزاب التي وصلت إلى السلطة أعادت إنتاج التكوين التبعي الكومبرادوري ذاته، وتهميش الفئات الوسطى ذاتها من جديد بعد التمركز المالي الذي حصل وأسَّس لنشوء طبقي جديد. وأساساً تجاهل المشروع ذاته.
إن طابع «الأزمة البنيوية» يكمن هنا، حيث لا إمكانية لأن تتجاوز هذه الفئات مصالحها، ما جعل بعضاً منها يكسب ويرتقي طبقياً، ومعظمها ينهار، ويفقر. ويتلاشى المشروع الذي حملته ولم تحقق منه سوى تهديم البنية الإقطاعية التي كانت سائدة، والتي كان التطور العالمي أصلاً يتجاوزها.
إذاً، الأزمة تكمن في طبيعة مصالح هذه الفئات التي جعلتها في تناقض مع تحقيق الأهداف التي طرحتها، وهي أزمة كل حزب لا يقطع علاقته جذرياً مع الرأسمالية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى