دلور ميقريصفحات ثقافية

النصّ والسينما : بداية ونهاية لصلاح أبو سيف

null
دلور ميقري
1
يمكن القول ،  بلا إفراط في المبالغة ،  أنّ دخول نجيب محفوظ للإستديو ،  كاتباً للسيناريو ،  قد أدخل السينما المصرية في طريق جديد ،  مغاير تماماً لما كانت قد ألفته قبلاً . وكان مما له مغزاه حقا ،  أن هذا الفتح الفنيّ ،  البالغ الأهميّة ،  قد إرتبط أيضاً بإسم مبدع آخر ،  لا يقلّ موهبة عن حامل ” نوبل ” ،  العربي . إنه المخرج العظيم صلاح أبو سيف ،  من كان قد فتحَ باب ذلك الإستديو لرفيق الإبداع . عن ذلك اللقاء الأول مع محفوظ ،  الذي جرى عام 1945 ،  يقول أبو سيف في حديث صحفي : ” قلتُ له أنّ في أدبه تعبيراً قوياً بالصور ،  وبناءً درامياً ،  وأنّ هذا هو الأساس في السيناريو ؛ البناء والتعبير بالصور . وقدمت إليه بعض الكتب الأجنبية عن السيناريو ” ( مجلة ” الأفق ” ـ قبرص / العدد 338 ) . ذلك العام ،  إستهلّ عملهما المشترك بفيلم ” مغامرات عنترة وعبلة ” . وبعد عقد واحد من السنين  ،  حقق أبو سيف إحدى تحف الفنّ السابع ؛ وهوَ فيلم ” شباب إمرأة ” ( إنتاج عام 1955 ) ،  عن سيناريو لنجيب محفوظ تمّ إقتباسه من رواية بلزاك ” إمرأة في الثلاثين ” . هذا العمل المميّز ،  أسهمَ في ترسيخ حضور بطليه ،  شكري سرحان وتحية كاريوكا ،  في وجدان محبي السينما ،  فضلاً عن أنه كان أجرأ فيلم حتى ذلك الوقت ؛ لناحية لقطاته الإيروتيكية ،  المطوّلة ،  التي عرضتْ جسدَيْ بطليه ،  الموسوميْن ،  المُجسدَيْن دورَيْ ” إمام ” ، الشاب المراهق القرويّ  ، وعشيقته ” شفاعات ” ،  المرأة المدينيّة اللعوب .
2
” بداية ونهاية ” ،  التي صدرَتْ طبعتها الأولى  عام 1949 ، هيَ بحق رواية الطبقة المتوسطة ؛ صعودها وإنحدارها ،  مصرياً . وكان نجيب محفوظ ،  في فيض إنتاجه ،  قد أضحى صوتَ طبقته هذه ، عبّر بصدق وعمق ووعي عن آمالها وتطلعاتها ،  كما عن آلامها وإحباطاتها . لعل روايته تلك ،  الموسومة ، هيَ الأكثرَ تجسيداً لرؤى كاتبها ،  فيما يخصّ الطبقة المتوسطة ،  علاوة على كونها المثال الأبرز ، فنياً ، على أسلوبه الواقعيّ النقديّ ،  المتأثل مؤلفاته آنذاك والمستمرّ لحين إصداره ثلاثية ” بين القصرين ” في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم .  ” بداية ونهاية ” ،  من ناحية اخرى ،  تفارقُ شقيقاتها ،  المُنتمين للمرحلة تلك ،  في نقطة مهمّة ؛ ألا وهيَ إستعاضتها عن وصف الأماكن الحميمة للحارَة الشعبية ، القاهرية ،  لصالح تفاصيل داخلية ،  دقيقة ،  للمنزل المُحتبي حيوات الأبطال ومقاديرهم . ما كان إتفاقاً  ،  على رأينا ،  إختيار المكان وتفاصيله  ،  وإنما عن خطة موافقة لفكرة الرواية هذه ؛ والمتحددة بالتغيّرات التي تشهدها أسرة ،  متوسطة الحال ، بعيدَ فقدانها لمعيلها الموظف الحكوميّ . فكل قطعة أثاث ضرورية ،  أو حتى تحفة تزيينية ، في بيت الأسرة تلك ،  كان لها موقعها الأثير في نفوس أفرادها . وبكلمة اخرى ، فإنّ هذه الأشياء ،  المُعيدة لذاكرة أعضاء الأسرة ماضياَ سعيداً ،  مُضاعاً ، قد صارتْ ولا غرو رمزاً لكرامتهم المُستنزفة ،  المهدورة ؛ خصوصاً ،  وهم يرون الأمّ في سعيها ، اليوميّ ،  لمقايضة الأشياء تلك مقابل مبالغ تافهة ،  ولكنها مُلحّة لإستمرارهم أحياءً ،  على الأقل .
3
في حديثه ذاك ،  الصحفيّ ،  يؤكد المخرج صلاح أبو سيف أنّ كتابة السيناريو ،  هيَ أهم مراحل إعداد الفيلم .  وفي ” بداية ونهاية ” ،  المُنتج عام 1960 ،  أسهمَ مخرجنا بنفسه في كتابة السيناريو مع صلاح عز الدين . وبالرغم من عديد الأعمال السينمائية ،  التي سبق وتعاون فيها نجيب محفوظ مع أبو سيف ـ كسيناريست ،  إلا أنّ هذا الفيلم ،  الذي نحن بصدد دراسته ،  كان الأول المأخوذ عن رواية له . بالمقابل ،  فإنّ إنتظار أبو سيف كلّ تلك الأعوام ،  الفاصلة بين تأليف ” بداية ونهاية ” وإخراجها سينمائياً ،  إنما يعود بحسب وجهة نظرنا إلى تهيّبه من هكذا عمل أدبيّ ،  سامق ،  مفضلاً تأجيله المرة تلو الاخرى ،  لحين إكتمال مقدرته الفنية والحرفية . هذه الرواية ،  المُتشابكة الأحداث والمتخمة بالتفاصيل ، كانت تحتاج حقا لموهبة مخرج مقتدر ،  قادر على إكتناه آفاقها وسبر رموزها ودلالاتها . ثيمة ” المكان ” ،  التي إهتمّ بها مؤلف الرواية ،  كما سبقَ وألمحنا ،  كانت شاغلَ مخرج الفيلم ،  حتى أنّ المرء ليدهشه إنحصار الأحداث في منزل العائلة ،  عدا عن لقطات سريعة ،  عابرة ،  لأماكن اخرى . على أنّ هذا المنزل ، بدوره ،  سيتمّ تبديله أكثرَ من مرة ،  تبعاً لحالة الأسرة ،  الإقتصادية والإجتماعية . الأمّ الشجاعة ، المتفانية ( الممثلة القديرة أمينة رزق ) ،  لا تأبه بإحتجاجات الأبناء ،  حينما ترى أنه حان أوان مغادرة المنزل الأول ،  الفاره ،  والإنتقال للعيش في قبو وضيع ( بدروم ) ،  بُعيد فقدان معيل العائلة . ولكنها تضطر للرضوخ ،  وتبديل هذا المقر ،  بعدما صارت سمعتهم على ألسنة الجيران ،  بسبب مطاردة البوليس لبكرها .
” حسن ” هذا ،  البكر،  بدا منذ البداية كما لو أنه مُشكل الأسرة . لقد إختار طريقاً منحرفاً ،  هرباً من ثقل المسؤولية الملقاة على كاهله إثرَ وفاة الأب . ولكنه بطيبته وإخلاصه ،  كان على إستعداد دوماً لمدّ يد المساعدة لأخوته وأمه . النجم فريد شوقي ،  قام بأداء هذا الدور ،  الثانويّ ؛ هوَ من كان قد حقق شهرة طاغية ،  بعد نجاح مأثر ة المخرج أبو سيف ” الأسطى حسن ” ( إنتاج عام 1952 ) ،  والذي إشتركت في بطولته الفنانة الكبيرة هدى سلطان . في ” بداية ونهاية ” ،  كان فريد شوقي أكثرَ نضجاً  ، بطبيعة الحال ، وبالرغم من قصر دوره ،  إلا أنّ أداءه الصادق ،  المؤثر ،  قد أسهمَ في إنجاح هذه التحفة السينمائية ،  الخالدة . وسنظل نذكر حميميّة ذلك المشهد ،  الذي جمعَ ” حسن ” بشقيقه الأصغر ،  ” حسنين ” ( النجم عمر الشريف ) . هذا الأخير ، وقد اضحى الآن ضابطاً مُهاباً ،  كان قد ألحّ على أخيه تركَ ” طريق الحرام ” وتسليم نفسه للسلطات . فيجيبه ” حسن ” بنبرة حزينة ،  متماهية بالتهكم المرير : ” وإذاً لم لا تخلع عنكَ البذة الرسمية هذه ؛ أنتَ من صارَ ضابطاً بفضل فلوس الحرام ! ” . وكانت أكثر لقطات الفيلم مفارقة ، حينما يتعيّن على ” حسن ” إحياء حفل عرس إبن أحد وجهاء الحارَة ـ كفتوّة حام في واقع الأمر . لم يكن في وارد بال هذا الرجل ، العتيّ  ،  أنّ ذلك العريس ( الممثل الكبير صلاح منصور ) ،  قد سبق له وغرر بشقيقته ،  الوحيدة ، وأضاع عذريتها ومستقبلها .
في تتبعه إنحدار أسرة ” بداية ونهاية ” ،  ركز صلاح أبو سيف على شخصيتين انثويتين ؛ هما الأمّ وإبنتها ،  ” نفيسة ” . لقد عهدَ مخرجنا بدور الإبنة للممثلة سناء جميل ، والتي أبدعت حقا في تجسيده ؛ حدّ أنّ إسمها ـ كفنانة موهوبة ،  قد إرتبط بإسم هذه الفتاة المُحبّة ، التعسة . فما أن توفي الأب ،  حتى بادرتْ إلى إقناع أمها بضرورة إحتراف مهنة الخياطة ؛ هيَ المُتفننة في الحياكة والتي دأبتْ على إشغال وقتها خلف الماكنة المنزلية . شقيقها الأصغر ،  ” حسنين ” ،  المهتاج لمجرد التفكير بإمكانية عملها ـ كخياطة محترفة ،  لا يكون منه سوى الإذعان ومن ثمّ إستجداء نقودها يوماً بعد الاخر . بيْدَ أنّ التعاسة ،  كانت طي قدَر المسكينة ” نفيسة ” . طيبتها ،  المُتناهية حتى السذاجة ،  أوقعتها بين براثن ذلك الشاب الماجن ،  المستهتر . غبّ مغامرتها تلك ،  الغرامية ، تجدُ الفتاة نفسها منتهكة ، ضائعة ،  هيَ المراوحة سنواتها على أعتاب سنّ العنوسة . بمضيّها في ” طريق الحرام ” ،  المتوغلة فيه كل ليلة إقتناصاً لملاليم قليلة من طالبي الرغبة ،  لكأنما كانت تنتقم من قدَر أسرتها قبل كل شيء ؛ الأسرة المنتمية أساساً للطبقة المتوسطة ؛ للطبقة المتغنية بالشرف الرفيع والأخلاق الفاضلة : إذا كان علينا أن ننحدر ، وأن ننهار من ثمّ ،  فليكن سقوطنا إذاً مدوّياً ،  مزلزلاً !
ربما ما كان ليدور في خلد عمر الشريف ،  أنه وبمجرد أن ينتهي من أداء دوره في ” بداية ونهاية ” ، سيكون على موعد مع بداية عالميّته ؛ المتحققة وفقَ مصادفةٍ قادت خطاه الفنية ،  المبدعة ،  إلى استديوهات الغرب الأوروبيَ ومن ثمّ الأمريكيّ . شخصية ” حسنين ” ،  كانت النقطة المركزية في حلقة أحداث الحكاية ؛ هوَ الشاب الطموح ،  المتقلب المزاج والأهواء . وبمعنى آخر ،  تتمثل في هذا الشاب أخلاق الطبقة الوسطى ،  خصوصاً في حضيض مصيرها . ما أن يغادر ” حسن ” الأسرة ،  نهائياً ،  ليستقرّ في العالم السفليّ ،  حيث البلطجة والمخدرات ،  حتى يكون الدور قد أتى على ” حسنين ” لكي يضحي مُشكل عائلته . حينما يتخرّج ضابطاً ،  يُبتده لديه الشعور بالفارق الطبقيّ بينه وبين خطيبته ،  المتوسطة الحال ،  التي كان يحبها منذ الصغر ،  فلا يتردد بتركها ما أن تداعب خياله إمكانية الزواج بإبنة ذاك المحسن ،  الغنيّ ، الذي ساعده في الإنتساب للكلية الحربية . تحاول الأمّ ،  عبثا ، كبحَ جماح طموح إبنها هذا ،  وكذلك الأمر مع شقيقه ” حسين ” ( الممثل كمال حسين ) ،  المتواضع والدمث الخلق . ثمّ لا تلبث الضربة القاصمة أن تأتي لأحلام ” حسنين ” وأوهامه . يأتيه إستدعاء من مركز الشرطة المحلية ،  فيعتقد أن الموضوع يتعلق ببكر الأسرة ،  المنحرف . ثمة ،  في حضرة ضابط البوليس ،  يُباغت بمرأى شقيقته ” نفيسة ” ، وكان قد تمّ التحفظ عليها بتهمة ممارسة الدعارة . المشهد التالي ،  تصاحبنا فيه الكاميرا نحو الجسر ( الكوبري ) الفاصل بين حيّ ” بولاق ” ،  الشعبيّ ،  وحيّ ” الزمالك ” ،  الأرستقراطي . ها هنا ، تطلب ” نفيسة ” من شقيقها أن يدعها ترمي نفسها في النهر . إنّ الفتاة الرائعة هذه ،  ترغب الموتَ إنتحاراً كيلا يفقد أخيها الحبيب سمعته ومركزه . لحظة اخرى ،  ويطوي الهلاكُ ” عروسَ النيل ” . وفي اللحظة التالية ،  يمرّ شريط ٌ خاطف من ذكريات ” حسنين ” مع تلك الأخت الهالكة ،  التعسة . ها هوَ هنا ،  إذاً ، على الجسر الفاصل بين فقر ماضيه ،  الوضيع ،  وغنى مستقبله ،  الداني : إنّ صلاح أبو سيف ،  المخرج العبقريّ ،  بهذا المشهد الفذ ،  النادر في تعبيره ،  قد إستوفى رمزَ رواية ” بداية ونهاية ” وأفقها ومراميها ؛ بداية تلك الأسرة الشعبية ،  المنتمية للطبقة الوسيطة ،  المتدهورة ،  ونهايتها الفاجعة على جسر طموحاتها المتداعي ،  المنهار .
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى