صفحات ثقافية

خبرة العائدين من رحلة موتهم

null
عناية جابر
شرح لي بائع الخضار كل شيء. يُمكن لشاريات الخسّ ـ قال ـ أن يتجاهلن الأوراق الخارجية الصدئة والمجعلكة التي تُغلّفها. العِبرة ـ استعمل العِبرة حرفياً ـ في التفاف أوراقها الداخلية جهة القلب. كان يُطلق علي شاريات الخضار اسم الملعونات . يُفترض باللوبيا المقطوفة حديثاً ـ أضاف ـ أن تُحدث تكتكة ندية، لكن الأمر لن ينجح مع المبتدئات، وسترينهن يركزن علي كثافة اللون الأخضر، كما لو ينظرن الي لوحة مرسومة. كما أن الحُمرة الفاقعة ـ أضاف البائع ـ لحبّات البندورة ليست شرطاً لجودتها، السرّ في النسغ وفي الأحشاء الصمغية. قشّر ضحكة خليعة ورماها في وجهي. لم أبادله ضحكته ولا حتي بابتسامة.
لدي عودتي من سميث كان كل ما أحتاجه يرقد في كيس بلاستيك واحد. حين تكون مشّاء مثلي، تتعلم أن كتفك اليمني محجوزة فحسب لمحفظتك الضخمة، لتتدبّر يدك اليسري أمر مشترياتك مجتمعة: كرتونة بيض بلدي، معجون أسنان، ربطة خبز أسمر، علبة معكرونة بالحبق، جوز نيئ ولوز، من دون ملح، باختصار القائمة التي علّقتها صباحاً علي باب البرّاد.
يمرّ صديق وتحار، هل تضع أشياءك أرضاً وتتمهّل في تحيّتِهِ أم تكتفي بإيماءة تشي باستعجالك؟ هذه الأشياء تحدث. من أجل العناق الذي باشر فيه الصديق وضعت الكيس علي الأرض وفتحت ذراعيّ كي أنتهي من الأمر سريعاً. لا بد من وقفة تلامس، يقول الصديق شامتاً بارتباكي. بالنسبة لهذه الفلسفة المتحذلقة عن اللمس كشرط أساسي للحب، اشعر أنني أحتضر. لن يُمكّنني وقتي ـ أُجيبه ـ من احتساء فنجان من القهوة معك: مشغولة كتير، وحياتك . كثيرون يحسبون أن احتساء فنجان من القهوة حقهم الطبيعي والضروي، كما لو كانوا أنجزوا باكراً مشاغل العالم كله، وآن أوان قهوتهم اللعينة. الأسوأ، أن يطلبوا منّي أنا مشاركتهم قهوتهم. أقول له شكراً ـ وهو يحاول سحبي من يدي ـ فيما بعد أقول، ربما ، إن شاء الله ، بينما رأسي يلتمع من الغضب.
فيمَ أتورّط في بداية هذا النهار؟ يوماً ما سأموت من غير ندوب، لكن سأترك خلفي ذكري امرأة امتلكت عينين خلابتين وجسداً نحيلاً خالياً من العيوب، ومزاجاً خاسراً. ما يحدث في الشارع لا يُمكن التعبير عنه بكلمات. أصافح الصديق وأحمل كيسي مبتعدة فيما صوته يتردّد في الشارع: ماذا عن القهوة؟
أنتَ لا تشعر بسوء الفهم أبداً كما تشعر به في الشارع، حاملاً كيساً بلاستيكياً ثقيلاً، واقفين أنت والآخر تحت ضوء النهار وسط العابرين. في التفاتة عجلي خُيّل إليّ أنه منحوت من الخشب. لهاث وصخب في الشارع كأنك في صالة تدريب.
عندما وصلت الي البيت ـ لا أُقفل التلفزيون أثناء غيابي عن البيت ـ كانوا يعرضون علي الناشيونال جيوغرافيك فيلماً وثائقياً عن نفق، وضوء يقودك الي نهاية النفق. بدت خبرة الموت علي أحد المتحدثين العائدين من رحلة موتهم، عذبة جداً. لقد أراد الناجي بشدّة أن يصف لنا كيف ارتفع جسده طافياً في الهواء.
أجلس الي الكومبيوتر متصفّحة بريدي وأكتب كيفما اتفق قصائد ثلاثا من تلك الأشعار اليابانية (الهايكو) ثم أدخل الي المطبخ لإنجاز المعكرونة بالحبق تلك. فقط حين تخسر كل شيء، تغدو حراً في عمل أي شيء. قرأت هذه الجملة في مكان ما وأعجبتني، ولا أظنها تعني هنا المعكرونة بالحبق.
أغسل الكسرولة وأملأها بماء نقي أدعه يغلي علي النار مع إضافة نقطة زيت ورشة ملح علي أعواد المعكرونة، وتغلي الآن، لئلا تتشابك وتغدو عجينة. إن أكثر الناس وحدة هم الذين يطبخون لأنفسهم. بعد بضع طبخات يقلّ إحساسك بالوحدة. لو ضحّيت بنصف ساعة وذهبت لآكل عند أمي لما انتابني مثل هذا الشعور الثقيل. الفجوة في روحي تتسع، تأبي أن تبقي علي حالها حتي. لكني ما زلت أؤدي عملي الصغير وأقول مرحباً لكل شخص في العمل. مرحباً! كيف الأحوال؟ مرحباً! أنظروا إليّ. مرحباً! إنني أتألّم. مرحباً! إنني قويّة. مرحباً، كل يوم ألف مرحباً.
في غرفة نومي أتأمّل أسناني في المرآة وأفكّر أنني لطالما حلمت بوظيفة ساقية في بار. قميص أبيض وسروال أسود، ومئزر أسود أيضاً يبدأ يلتفّ من تحت معدتك تماماً حتي يصل أعلي عجيزتك، كل ما تحتاج إليه لتعمل ساقياً. ثم إن مسألة الأرق هذه، سوف تُحل تلقائياً ما دمت تعمل ليلاً، ولا تجاهد الي النوم.
حين تدخل قطتي أراها في المرآة، خارجة كأنها حيلة سحرية.
في الحمام، شيء صاف سميك ماسك بالأحري، أدهنه علي خدّي محاذرة الاقتراب من محيط العينين علي ما تقوله الإرشادات المكتوبة علي العلبة. ماسك من وحل البحر الميت مع القليل من الغليسيرين. يلتمع أثر شفتي العارية، متوهّجاً أحمر. أشطف وجهي بالماء الفاتر بعد أن تقنّع تماماً وتكسّرت ابتسامتي البلهاء وتساقطت ذروراً. وجهي متورد ونديّ وبيجامتي بيضاء منقّطة بالزهري.
من اختلاط المعكرونة والحبق لا أشمّ شيئاً. آكل من دون نفس من الشيء الذي بلا رائحة. أضع الكسرولة في البراد وأغسل طبقي وأقول بصوت عال: كل شيء علي ما يرام. يبدو هذا مضحكاً كأنني متكلمة من البطن.
في الليل لا أغلق نافذتي. لا في الصيف ولا في الشتاء. الأضواء في الشارع تلتمع أكثر علي الإعلان عن شقة للإيجار: (For Rent). شعرت أن هذه الشقة المُعلن عنها مركز اهتمام العابرين، لكنها منفصلة تماماً عن إيواء أي منهم. بلا سبب واضح، أنا الآن أمام الطاولة في المطبخ أقرأ أهالي دبلن . أكثر شيء أريده الآن، الشعور الذي تثيره في رؤية يدين معروقتين. أخبرني أحدهم يوماً أنني في البرية لا أري الحيوانات المُسنّة، لأنها بمجرد أن تشيخ، تموت. لو مرضت أو أبطأت يقتلها شيء أقوي. الحيوانات ـ قال لي ـ لم تُخلق لتتقدّم في العمر. هرّتي تقدّمت في العمر ويداي باردتان بسبب أنني فكّرت أنها تموت قريباً. أتحسس وبرها الدافئ وأفرك جزءاً صغيراً من أذنها فتأخذ تصدر أصواتاً راضية حتي تجد أن أصابعي توقفت فتنظر في عينيّ مباشرة. أحكي لها حكاية، وحينما أنتهي نغدو كل منّا ـ الهرة وأنا ـ مختلفتين عمّا كنّا.
يرنّ التلفون ثانية وحالما أرفع السمّاعة يبادرني: أنتِ أردت ذلك. أنتِ فجّرت كل شيء. أقول له: أجل، معك حقّ، وأعرف أن هذا ما يريد أن يسمعه.
آوي الي فراشي. كلّنا يأوي أخيراً الي فراشه. بهذه الطريقة نكفّ عن الخوض في الماء، ونفعل شيئاً دافئاً لحياتنا. كان عليّ أن أغفو لأنني تعبة، سوي أن صوت المدام يلوح عالياً من نافذتها القريبة، وتقول انها ستذبحه لو حاول فقط أن يلمسها. فليلمسك يا مدام ، ليلمسك. تمدّدي واهدئي وليلمسك فماذا لو لمسك؟ كنت علي وشك النوم، ثم ها هي لا تريد أن يلمسها أحد. كنت علي وشك النوم، وتجهل المدام حالي الآن، ما دامت، بصوت عال، هدّدته بالذبح، إن حاول لمسها.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى