صفحات ثقافية

بلا ضفاف لجوزف سماحة، أمل دائم للكتابة الصحافية

null
نديم جرجورة
هل إن قراءة مقالات منشورة سابقاً تفيد قارئها إذا صدرت في كتاب واحد بعد مرور وقت معيّن على نشرها في صحيفة أو مجلّة؟ إلى أي مدى يُمكن للقارئ أن يعثر في طياتها على مادة تُثري وعيه المعرفي، هي المقبلة إليه في كتاب من زمن مضى؟ إلى أي مدى تستطيع المقالة المنشورة سابقاً أن تذهب بهذا القارئ إلى ملامح تلك الفترة التي كُتبت المقالة فيها؟
إذا استعان القارئ بمقولة ألبير كامو القائلة بأن الصحافي مؤرّخ اللحظة، فإن المقالات الصادرة في كتاب واحد بعد أعوام على نشرها للمرّة الأولى تُقدّم اختزالاً معيناً لهذه «اللحظة»، وتمنح القارئ إضافة نوعية على المعطيات الأخرى المتوفّرة له في كتب أو تقارير أو مذكّرات، شرط أن يمتلك الكاتب الصحافي قدراً كبيراً من الوعي والثقافة وبُعد النظر وحيوية المعاينة الدقيقة للآنيّ على ضوء الاختبارات القديمة، وللراهن بحثاً عن أفق المقبل من الأيام. وهذا الشرط أساسي جداً في تحويل المقالة اليومية إلى مرآة شفّافة تعكس هموم البيئة المحيطة بكاتبها وتفاعلاته مع أحداثها، وتؤرشف معالمها وتفاصيل عيشها وأشكال السلوك البشريّ لناسها، وتعبّر عن التزام الكاتب الصحافي موقفاً أو منهجاً أو مسألة أو فكراً.
المقالة الابداعية
ليس تنظيراً في أمور بديهية. لكن طرح هذه التساؤلات مجدّداً نابعٌ من لحظتين لبنانيتين اثنتين: وطأة المناخ المتشنّج في السياسة والثقافة والإعلام في ظلّ النزاع المذهبيّ الخانق، وصدور كتاب «بلا ضفاف» للزميل الراحل جوزف سماحة (بالتعاون بين جريدة «الأخبار» و«أصدقاء جوزف سماحة»)، متضمّناً عدداً من مقالاته المنشورة في المجلة الأسبوعية «اليوم السابع» بين العامين 1986 و.1991 ذلك أن الدرك البائس الذي انحدر إليه نصّ المقالة الصحافية اللبنانية، سياسياً وثقافياً بصورة خاصّة، بات لا يُحتمل إزاء غياب قامات كبيرة حمت نفسها ونصّها التحليلي المرتكز على سجال نقدي سوي وجادّ من الوقوع في فخّ الانهيار المزري، إثر جريمة اغتيال الحريري قبل أربعين شهراً. وقراءة «بلا ضفاف»، الصادر بعد أشهر على التحية التي قدّمتها «السفير» للراحل نفسه في كتاب «الآن.. هنا» (مختارات مما كتبه في بين العامين 2001 و2006 أثناء تولّيه رئاسة تحريرها)، يدفع القارئ إلى استعادة نمط صحافي في الكتابة السياسية الثقافية يكاد يفقد حضوره وتأثيره في ظلّ التسطيح الكتابي اللبناني والعربي الطاغي حالياً في المشهد الصحافي والثقافي، على الرغم من أن الصحافة اللبنانية والعربية لا تزال تتمتّع بحضور جميل لأسماء لامعة يتضاءل عددها (للأسف) في مقابل سطوة النصّ الانفعالي والتحريضي والمفرّغ من أي رغبة في إثارة سجال نقدي تحليلي سوي. فبعد استشهاد الزميل سمير قصير ورحيل جوزف سماحة، بدا المشهد اللبناني شبه قاحل، لولا كتابات قليلة لا يزال أصحابها منزّهين عن خطأ الارتهان للنمط المسطّح والمفرّغ من أي نقاش حيوي وفاعل، بعيداً عن مضامين نصوصهم ومواقفهم السياسية. فالغالب هنا براعة المقالة في تقديم مزيج المعلومة والرأي والتحليل، المستندة كلّها على قوّة ثقافية وسجالية قادرة على تفتيت المشهد وإعادة صوغه، المنسجمة والتزاماتهم السياسية والثقافية والفكرية. والبارز في مقالات هؤلاء كامن في أسلوب الكتابة بحدّ ذاته: جملٌ قصيرة (غالباً)، مليئة بسلاسة التحليل وعمق القراءة، ومحمّلة برؤية واضحة للأمور، ما يجعلها أقرب إلى «ضمير» نابض برغبة المعاينة والمواجهة والنقاش السوي.
يُمكن القول إن مرحلة الثمانينيات المنصرمة شكّلت امتحاناً جدّياً لجوزف سماحة، في لحظة نضوج صحافي وثقافي لبناني وعربي أدركه مغتربون عرب وعاشوه بحيوية في منافيهم ومهاجرهم الأوروبية تحديداً. شكّلت اختباراً مهنياً جديداً أفضى به إلى اكتساب مهارة ثقافية واضحة في تحويل المقالة إلى نصّ إبداعي متكامل شكلاً ومضموناً ومعطيات. إن قراءة «بلا ضفاف» تستعيد تلك المرحلة عبر مقالات سماحة، وتجعل القارئ يُدرك أي محلّل كأنه الرجل حينها، وتدفعه إلى متابعة كيفية تثبيته نمطاً كتابياً عربياً يستعين بشتّى أنواع الثقافات والقراءات لتقديم وجبة متكاملة من المعلومة والتحليل والمعاينة النقدية والتحريض على السجال السوي والحثّ على قراءة كتب ومقالات قرأها هو وأضاء عليها لأنها أعانته على الفهم فوضعها أمام القارئ المهتمّ، وصولاً إلى اعتماده شكلاً مختلفاً في الكتابة العربية: جمل قصيرة، ابتعاد مطلق عن أي ثرثرة إنشائية ميّزت الكتابة العربية سنين طويلة ولا تزال تميّزها في صحف ومؤلّفات عربية عديدة، تكثيف تحليلي لمسائل وأحداث آنيّة.
سرد ممتع
إلى جانب الأناقة الواضحة في تصميم كتاب «بلا ضفاف»، غلافاً وورقاً وطباعة وشكلاً (الغلاف ليوسف عبدلكي)، بدت المقالات سرداً ممتعاً لحكايات متفرّقة تستلهم التاريخ والأدب والفنون في تشريح حالة أو مناقشة حدث. وعلى الرغم من جمالية الإحساس الإنساني المعتملة في مقدمة بلال الحسن (رئيس تحرير مجلة «اليوم السابع»)، مختزلاً فيها قصّة العلاقة المهنية والإنسانية والحياتية القائمة بينه وبين سماحة؛ وبالإضافة إلى النصّ الجميل للزميل نجيب نصر الله، الذي أضاء ملامح ثقافية ومهنية في شخص الراحل وكتاباته وتوجّهاته ومشروعه؛ إلاّ أن «بلا ضفاف» احتاج إلى نصّ نقدي تحليلي يتناول مهنيّة الرجل وأسلوبه الكتابيّ و«فن المقالة» عنده، لإكمال الدائرة المعرفيّة الخاصّة به. لا تفتقر مقدّمة نصر الله إلى هذا الجانب المهمّ، لكن الكتاب محتاج إلى تحليل مستقلّ بحدّ ذاته يقرأ بنية المقالة وكيفية كتابتها وشكلها التقني. فالقراءة النقدية للمقالة الصحافية غائبةٌ بشكل عام، مع أنها ضرورية لقدرتها التحليلية على كشف خلل ومناقشة حالة إيجابية، ولمساهمتها في تصحيح خطأ، وللعبها دوراً في تطوير البنية الكتابية بالمعنى التقني البحت، في ظلّ حالة التردّي الفظيع الذي تعانيه الصحافة اللبنانية والعربية. إن قراءة كهذه تفيد القارئ والمعنيّ بالمهنة، وما كتابات سماحة إلاّ نموذجٌ جدّيٌ للمعنى الأسمى والأجمل لكيفية كتابة مقالة صحافية حقيقية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى