صفحات ثقافية

ســـــــوف تــحــيــــا مـــن بَـــعــــدِكَ

عقل العويط
“كان طيفاً رأيتُه، ولم أصدِّق./ كنتُ طيفاً، رآني ولم يصدِّق./ وترك لي أوراقه في مكان ما. وحين عثرتُ عليها بمحض المصادفة، وجدتُ أنها أوراقي./ ولم تكن لي أوراق. ولم يكتب يوماً./ ربما كان آخر سوانا. لستُ أنا الراوي. وليس هو الراوي. ومن يروي لم يرَ شيئاً. لم يعرف شيئاً. لذا كتب حكاية الرجل الذي أحبّ الكناريّ./ أو ربّما لم يكتبها بعد./ لن يكتبها أحد” (حكاية الرجل الذي أحبّ الكناريّ، بسّام حجّار، دار الجديد، 1996).
ليس مثل الطيف يعبّر عنكَ شخصاً وشعراً. الطيف وحده أقرب إليكَ. ربيبكَ التوأم والصنو. الشمس والقمر والمنام. كهواءٍ يسأل عن ظلّه وليس من ظلٍّ إلاّ هو. لا تعبر لكنكَ تنسرب في ضمير الخفية التي لا تنكشف تحت مجهر ولا تحت تخييل. رؤيةٌ بالرؤيا، أو سوى ذلك من تأويل. وما الشعر آنئذٍ سوى كلماتٍ تقال بالكلمات وهي ليست سوى طيف. وإذا أنتَ قلتَ بالطيف رأيتُ أنكَ توارب لكي لا تقول باللطف الشبيه بالعدم. وكم هو شجيٌّ وذكيٌّ هذا الشعر إذ ينخرط في اللهو المستحيل. كالرقّة إذا شاءت أن تنسحب من حال العبور خشية القول إنها تعبر. كالوجع منفصلاً عن جسمه وجسمكَ. كالجسم الروحي وقد صار من مادة الوجود بالذات. وما المادة سوى العبث وقد صار عدماً. وأنتَ القائل يومذاك “أربعون عاماً من الألم” ولم تفسّر. وقد فسّرتَ بما يكفي مومئاً الى الشرط الوجودي. شرط الكلمات لتكون طيفاً. وبودّكَ أن تقول الآن خمسين عاماً، أو ثلاثة وخمسين، أكثر قليلاً، أقلّ قليلاً، لا فرق جمّاً. إنْ ذلك سوى طيفٍ بالعمر بالكلمات بالكائنات ذات الهشاشة. وما أعمق. وما أدلّ. وقديماً قيل، ويقال الآن بقوة الضمير نفسها، بل بجبروت القيمة المصفّاة بعد هدوء العاصفة وأثناءها وقبل الهبوب: العيش هو الشعرُ الشاعرُ وهو الشخص شاعراً في الكلمات. فكيف إذا كان العيش صمتاً يقتل الصمت ليحيا به. وفيه. كنبتةٍ هي ألم النبتة. كنبتةٍ هي موت النبتة. كطيفٍ لا يسأل عن شكله ولا عن الحجم ولا عن ارتطامه بالهواء وبسوى ذلك من كائنات شبيهة. وفقط لأنه طيف. ولأنه اللطف رقيقاً كأربعين عاماً، كخمسين عاماً، كثلاثة وخمسين. أكثر قليلاً، أقلّ قليلاً، وهو كصفحةٍ من الألم المنسرب في أعمار السرو. وما الألم وما الأعمار وما الشعر إنْ لم يكن صمتاً كانخراط شجر السرو في أغصانه. كانخراط الأغصان في شجوها الشجريّ ولكنْ من دون صوت. كأغصان هي الغصن وحيداً. من فرط الشقاء ومن وجع اتحاد بعضه ببعض. وسيقال الآن ما سيقال. فالراوي لن يروي. وإذا روى فسيجد أحداً مثلي يقول إنه لم يروِ لأن الكلمات تحبّر البياض بدون جلبة. ولا أحد ليشهد سوى ما تشهد به الكلمات لنفسها. فكأنها هي الراوي الذي يروي ذاته. بل كأن الراوي يروي لأنه يخاف أن يرى بعينيه، وأحياناً لا يرى لكي لا يقال إنه كان الشاهد الذي يروي. وكم يسهل الزعم بهذا وبغيره، وكم يصعب الشعر العدمّي الصامت هذا. أيكون بسببٍ من هذا بالذات، لا يرى الطيف ذاته وإن كان يرى. ألهذا أيضاً، بل للسبب إياه، يرى الطيف ذاته وإن كان لا يرى. وسيحصل ذلك بدون مشقّة. وبالمشقّة التي تمثل عند الأفق المستحيل. وسيظل الطيف يتحصل بالكلمات التي تحيا بذاتها ومن دون أب. وهي المشقّة المستحيلة عينها ربيبة النوع الشبيه بالفلسفة، وبالعقل الفلسفي. وهذا هو الألم الكينوني بالذات. وهو ليس بالجسد فحسب. وإنما بالمستحيل. فكأن الروح تعظ طيفها وتصنع له إخوةً وأخواتٍ بالمادة الطيفية نفسها التي سرعان ما تستجلب الضوء، ولا سيما الصامت منه. كضوءٍ يبحث عن أخته. ولا أخت إلاّ الطيف إياه. وإن تكن طيف يد. ولا مرايا لأن المرايا لا تريد أن تعكس وتنعكس، لئلاّ يقال إن الفيزياء وعلوم المادة تتلاعب بأعمار الطيف، ولا مادة للطيف سوى روحه. وقد يستشعر النزف أنه ينزف ولكن بدون منافسة. فمثل هذا النزف لا يزعم بل يحيا. وإذا كان حيّاً وينزف، فسيظل يحيا بعد أن يجفّ النزف. وحينذاك يسلّم بشجن المصير. وقد كان مسلِّماً منذ البدء لأنه يعرف بالطيف ما لا يعرفه سواه بالملء. ويجدر بي أن أسلِّم معه لأنه الطيف. وما أرقّ وما أبعد مراماً. فمثله لا يكون للكثيرين وإنما للندرة النادرة لأنه يذهب عميقاً كذهاب العدم في هشاشة الفلسفة إذا شاءت أن يكون لها جسد. وقد يأخذ الطيف باللعب سبيلاً الى تجذير الكسل العارف. فمن سواه يستطيع أن يجاري العدم المتألم من كونه يحسّ ويرى. يا للشعر إذا كان كذلك. وكيف تستطيع الكلمات أن تتحمّل نوعاً من الألم كهذا. وأن تصطنع رقةً هشّةً كإفتاء الجسد بانفلات أشلائه عنه. يا للشاعر إذا كان كذلك. وما الحياة آنذاك، وبعذاك؟ وما الشعر؟ كأني لا أعرف وأنا العارف بكَ أيها الشاعر. وبالمستحيل. وأنا الأقرب إليكَ من طيفكَ الى طيفكَ. ومن ألمكَ الى ألمكَ. ومن عمركَ الى عمركَ. وهي الرقّة الهشّة إياها التي تجرّد المستحيل لتجعله عيشاً ببضعٍ من الكلمات وبعمرٍ هو بعض العمر. فيا لمهن القسوة هذه. ومنها مهنة العيش. وأنا الأدرى. ومنها مهنة الشعر. وأنا الأشدّ امتثالاً لموجبات الشجو الناشف الذي لا دمع له سوى طيفه وبدون دمع. لا أصعّب القول ولا أسهّل أحماله. فالقول مستحيل المنال، ولذا هو طيف. والشظف هو الشظف ولا بدّ من أخذه بشظف جسده العقلي وهو طبع الكلمات الشاعرة إذا شاءت أن تحفظ الوصية فتتقشّف وتتّقي. سوى ذلك هراءٌ بهراء. وأنتَ لا تكتب الهراء أيها الشاعر. لأنكَ فيلسوف الالفة والمنزل واليأس والعدم والموت، بالطبع والمراس. وهذا هو الشعر. ولأن الفلسفة تعي أنها طيف ومعها يستشعر الطيف أن لا جسد له سوى الشعر. وهو الحياة وقد كانت طيفاً، وعيشت طيفاً. وتظلّ. ولا يُسأل أحدٌ هل يصدّق. وأنتَ لا تسأل. فالسؤال هو الغلط لأنه لا يستطيع اللحاق بالشعر. كأحوال الضمير إذا شاء أن يستيقظ في الدم وفي أمثولة العينين الرائيتين. ويجدر بي أن لا أسأل. فالسؤال عجز السائل عن الدخول في سلوى العبث الفلسفي. وهو دوماً مأزق الشعر. كمأزق الطيف لأن لا جسد له إلاّ كونه فلسفة كلمات. وهو ليس بمأزق. وهو ليس ببرهان. وإذا أردتُ أن أوضح لقلتُ تلك خدعةٌ موصوفةٌ من ألاعيب الفلسفة. وأنتَ العارف بخدعة الفلسفة حتى عصيانها. وهي التي حين تخرج على أسوارها تصير شعراً هو الشعر. وقد فعلتَ ما يحلو لكَ ان تفعل. فكان ما فعلتَه هو الشعر وصنوه والربيب. وما أدراني بمثل هذا القول وبمشقّاته إذا لم أكن قارئاً أشعركَ أيها الشاعر فيُعطى لي أني لا أقرأ فحسب بل أصير أنا معكَ الطيف المرويّ والراوي. ولا تصدّقوا. فليس لأحد أن يصدّق أو لا يصدّق. ذلك يكون كإحساس السرو بأنه شجرٌ ويتكلم. ولا كلام سوى ضوئه وقد صار صمتاً. وأنا يعزّ عليَّ أن أكتب الآن. فالكلمات تكتب أطيافها عنّي. وكما يعزّ عليَّ أن أصف الألم يعزّ عليَّ أن أجدني أعثر على هذا الألم جارحاً صنفه ليعثر على دمه الميمون. وحين يعثر ماذا سيقول للحياة سوى أنها سماء تسقط من سمائها لتضرّج الأرض. وماذا بعد أيها الشعر ماذا بعد أيها الشاعر. ثم ماذا بعد أيتها الحياة. يجنّنني أني أهذي في حين أن الشعر ليس هذياناً إلاّ حين يشفّ فيصير خلو العقل وخلو العاطفة وخلو الجسد فليس عنده آنذاك سوى الطيف يعتصم به. وما أعظم جسدكَ أيها الطيف. وما أشجاك. وما آلمكَ. وما أكثركَ شعراً في العدم الغنائي هذا الذي يدفّئ الكلمات في الزمهرير الوجودي الكلب. وهذا هو مديح الخيانة كما يحلو لكَ أن تسمّي. ويشجيني أني أقع من علوّ سروة لأني لا أجدّ علوّاً أعلى. وإذ أقع فلكي أقيس قامتكَ من فوق الى تحت، ولكي أعود فأنحني انحناءً فلسفياً على سروتكَ الممهورة بسماء ساقطة من عل. ورأس سروتكَ هي السماء ذاتاً أيها الشاعر. وقد كلّمتكَ مراراً وكلّمتني. ولم نتكلّم. فما ذلك سوى سرابٍ بسراب. وأنتَ قد قلتَ لي إن حياتنا سراب والشعر هو أيضاً. وإن حياتنا تحيا بعدنا. والطيف. والكلمات. وعندكَ من هذه الكثير لتحياه وتكتبه. وعندكَ شجر السرو. والهواء. والعدم. وهو فقط لن يكون غنائياً هذه المرة. لكنه الأبد الذي يمحض الكلمات قدرتها على الديمومة. وما أدراني أنا بالديمومة إذا لم أكن عارف نفسي وعارفكَ بالتمام والكمال، وأنتَ فيلسوفها الطيفيّ الرقيق الهشّ كشجرة هواء في الهواء.
في الهدوء الكامل أيها الشاعر. الهدوء الذي يشغل المرء عن ذاته حتى لتصير الذات هي الهدوء صنواً وذاتاً. وذلك يكون بالحياة وبالشعر. وأنتَ كريمٌ فيهما كرم العلاقة بين غصن السروة وأمّه. ولا تمدح الخيانة بعد الآن ولا تتعب، وإن يكن هذا الذي تتعبه “مجرّد تعب”. ولا تقل إنك ستصاحب الظلال لأنكَ صاحبْتَها منذ أول الطريق. وستظلّ. ولا تزعم أن معجم الأشواق يستدعيكَ لأنكَ المستدعى في جواهر الكلمات. وهي القسوة الماحقة التي تمحق لا الجسد وإنما جسد الروح وقد صار أغنيةً أكثر من الأغنيات. وذلك يكون شقّ الراوي عن شقّه الثاني. فأيها الغريب يا شقيقي. الآن، أراك لا تزال تقول، أعرف لماذا كنتُ أبكي ولماذا كانت الهاوية التي أسقط فيها تشبه صفحةً بيضاء وخطّين في أسفلها ونجمةً بالحبر الصيني، ومع ذلك تلمع. ولمعانها كان يعذّبني. الآن أعرف لماذا يقول الغريب يتألمون لشدّة ما أحببتهم ولشدّة ما احببتهم نجوتُ وما حسبتُ الألم نجاتي. أتبصر شرفةً مضاءةً، أيها الشاعر؟ إنها قلبي أيها الغريب.
هي بضعة أشياء، بضع كلمات، بضعة كتب، بضعة أطياف. وهي شجرة سرو يا الحبيب الشاعر. وقامتها منكَ. وقامتكَ منها. وعالية. وهي كافية لكي تحيا من بَعدكَ. ومن بَعدنا. ومديداً. أيها الشاعر.
أطـــــيــــــــــافـــــكَ شـــــــــــــعــــــراً
“مشاغل رجل هادئ جداً”
(دار العالم الجديد، بيروت، 1980).
“لأروي كمن يخاف أن يرى”
(دار المطبوعات الشرقية، بيروت، 1985).
“فقط لو يدكِ”
(دار الفارابي، بيروت، 1990).
“صحبة الظلال”
(دار ميريم، بيروت، 1992).
“مجرّد تعب”
(دار النهار، بيروت، 1993).
“مهن القسوة”
(دار الفارابي، بيروت، 1993).
“معجم الأشواق”
(دار المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 1994).
“حكاية الرجل الذي أحبّ الكناريّ”
(دار الجديد، بيروت، 1996).
“مديح الخيانة”
(دار المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1997).
“بضعة أشياء”
(دار الجمل، المانيا، 1998).
“كتاب الرمل”
(دار المسار، بيروت، 1999).
“سوف تحيا من بعدي”
(المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001).
“ألبوم العائلة”
(المركز الثقافي العربي، بيروت 2003).
“تفسير الرخام”
(المركز الثقافي العربي، بيروت، 2007).
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى