صفحات العالمميشيل كيلو

الشفافية كحق يحمي الإنسان

ميشيل كيلو
طرح نشر وثائق وزارة الدفاع الأمريكية على موقع “ويكيليكس” الإلكتروني مسألة على قدر عظيم من الأهمية، هي التذكير بحق الإنسان في معرفة كل شيء بما في ذلك أسرار الدول والجيوش، باعتبارها – المعرفة – أداة لحماية حياة الأفراد والشعوب، ولصيانة استقلال الدول والقيم الإنسانية  التي إن لم تقم عليها علاقات المجتمع الدولي، ينهار النظام العالمي، وتفقد الشرعية الدولية معناها ووظيفتها، وتصاب منظماتها المختلفة بالشلل والموت .
لعل أعظم ما فعله الموقع الأمريكي هو قيامه – ربما من دون قصد – بتوسيع حقل الشفافية الدولي إلى أبعاد لم تكن معروفة من قبل على مر التاريخ البشري، وترسيخ حق أي فرد في أن يكون مواطناً عالمياً يعرف ما تفعله الدول، كبيرها وصغيرها، من أفعال قد تؤثر في حياته، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه، وما إذا كان غنياً أم فقيراً، متخلفاً أم متقدماً، ظالماً أم مظلوماً . قالت وثائق الموقع الإلكتروني الأمريكي بكل بساطة: يا حكام العالم ويا أصحاب القوة والثروة والسلطة فيه، انتبهوا جيداً إلى أفعالكم، ولا تقرروا أمراً باستهتار أو من دون تفكير، والتزموا أمن وسلام من يعيشون تحت سلطانكم أو حتى من تناصبونهم العداء، لأن ما ستفعلونه لن يبق سراً يخصكم، وسيعرف العالم بأسره تفاصيله وخباياه، وستواجهون حساباً عسيراً إن ألحق ما تريدون إخفاءه بحجة أنه سر من أسرار الدولة، الضرر أو الأذى بالجنس البشري الذي سيكون أمنه وسلامه من الآن فصاعداً أكثر قدسية من أي سر رسمي، عسكرياً كان أم سياسياً، لذلك ستقاس أسراركم بعد اليوم بمقياس قيمي كوني، يجعل مصلحة البشرية فوق أية مصلحة جزئية، حتى إن كان صاحبها دولة حاكمة ومتحكمة كالولايات المتحدة التي لن تكون وطناً يحترم الإنسانيون من أبنائه أسراره وأمنه إلا بقدر ما تحترم سياساته وخياراته المصلحة الإنسانية العامة .
هذه هي العبرة الرئيسة، كما أعتقد، من نشر وثائق موقع “ويكيليكس” الإلكتروني الذي كشف بشفافية ومبدئية يحسد عليهما، وثائق تتضمن أسرار مؤسسة شبه خفية ومقدسة هي عسكر أمريكا، الدولة التي ينتمي ناشر الموقع إليها، علماً، أن الشفافية ترتبط عموماً بتوافر عاملين رئيسين:
قدر كبير من الحرية يتيح لنصيرها نشر ما لديه من أسرار من دون أن يخشى على حياته وأمنه، ومن دون أن تستطيع دولته الانفراد به ومحاسبته خارج أي إطار قانوني أو علني .
سيادة قانون تمكن مؤيد الشفافية من حماية نفسه عبر الرأي العام، وعند اللزوم من خلال مقارعة السلطات قانونياً وتجريمها قضائياً، بتهمة القيام بأعمال ضد الإنسانية التي يصدقها قطاع واسع من الناس، فهي تنتمي إذاً، إلى حقل يتجاوز سلطة بعينها، ويجب فضحها وكشفها وعدم الاكتراث بما فيها من سرية، لأنها بالأساس والجوهر منافية للحرية والقانون وحقوق الإنسان التي لم يعد الكائن البشري قادراً على العيش من دونها، مثلما لا تستطيع مجتمعات البشر الحديثة الاستمرار من دونها، وتجاهل قيمتها ودلالتها في وجودها .
هذه الخطوة التي أقدم موقع “ويكيليكس” عليها، وبحجم الوثائق الهائل الذي كشفته للعلن وللعمومية الإنسانية، ستكون بداية قفزة بالنسبة إلى حرية بني الإنسان وحصانتهم الحياتية، وإلى سبل مقاومتهم للظلم وللسياسات غير الشرعية أو العدوانية . وهي، بتوجهها إلى عنوان عريض هو الرأي العام العالمي، تسهم في قيام مجتمع دولي مادي ومعنوي موحد القيم والإرادة، موحد المعارف والمواقف، يفيد من الحرية التي تتيحها النظم المتطورة لمواطنيها، ومن الثورة العلمية التقنية، التي تنقل إلى وعي الناس حقائق مشتركة وجامعة ترقيه وتوحده، حتى إن كانت هي نفسها لم تصل بعد إلى حيث يعيش هؤلاء، أو كان من يتلقون المعلومات عبرها لا يمتلكون أجهزتها ووسائلها . يعرف معظم سكان العالم اليوم، بفضل الحرية والثورة العلمية التقنية والقيم التي وجهت سلوك ومواقف أصحاب الموقع الإلكتروني الأمريكي، ما وقع من مآس في حربي العراق وأفغانستان، ويعلمون كيف تحاك المؤامرات، وترسم خطط التدخل العسكري في البلدان الأخرى وضد الدول والشعوب الضعيفة، وكيف تنشر الأكاذيب التي تبرر جرائم القوة المفرطة، وتفضح آليات فبركتها وطرق ووسائل فرضها على الناس، لتحويلهم إلى أنصار للإجرام يساندونه ويقبلونه . ومع أن هناك بالتأكيد خلفيات عديدة وراء قيام الموقع بنشر الوثائق السرية الأمريكية، فإنه من غير الجائز الاستخفاف بما كشفته بالنسبة إلى وعي البشرية، فالذي خدع بالأمس قد لا يخدع اليوم أو غداً بأكاذيب حكامه، والذي أيد عملاً عسكرياً لا معرفة لديه بخلفياته، سيفكر وسيطالب من الآن فصاعداً بمزيد من المعلومات حول سلوك حكامه وقراراتهم وطرق تطبيقها، وربما كان سيصير أكثر صعوبة بكثير إقناعه بحجج تستثير عاطفته القومية أو الوطنية أو العنصرية، تقدم له صورة زائفة عن الآخرين، كما عن سياسات بلاده التي تتذرع بالعمل على تحقيق أنبل القيم والأهداف، بينما هي تلاحق أكثرها فساداً وسفالة وعداء للبشرية .
ثمة مجتمع دولي يتخلق تدريجياً، بفضل الشفافية التي تستند إلى قدر من الحرية يكفل للبشر في كل مكان حق المعرفة، وتالياً حق وواجب مقاومة ما قد يقع عليهم من عدوان وقسر . ولا أظنه بعيداً ذلك اليوم الذي سنقرأ فيه وثائق خاصة بالاقتصاد وسياساته، والدول وخباياها، والحكومات وكواليسها، والمجتمعات ومشكلاتها، والانتخابات وعجائبها، ووثائق حول اغتيال تم هنا، وإعدام وقع هناك، وعمليات إبادة بالمفرق والجملة تعرضت لها الشعوب على أيدي أعدائها، و(هنا المصيبة) حكامها، وعمليات سرية وقع خلالها تسميم حياة مناطق بكاملها من خلال الكحول والمخدرات، ونصب كمائن للمخالفين في الرأي أو المصلحة . . . إلخ . وإذا كان هناك من نشر اليوم وثائق تخص جيش أمريكا وبريطانيا وحلفائهما، فإنه لن يكون بعيداً اليوم الذي سنقرأ فيه غرائب عن ثورات نظمت أو أفشلت، وحكومات نصبت أو أسقطت، وقادة صعدوا أو أزيحوا من الطريق، وجرائم لم يعلم أحد بحدوثها، مع أن خلقاً كثيراً يلمس أثرها في حياته ووجوده .
بعد اليوم، إذا حجبوا عنك المعرفة في بلدك، فإنها ستتدفق عليك من أربع أقطار العالم، حيث يتشكل نظام قيمي شفاف جداً يؤمن بحقك في الحرية والمعرفة، وبقدرتك على أن تكون سيد نفسك ومصيرك، وشريكاً في شؤون بلادك والعالم . قال بعض من قرؤوا الثورة العلمية التقنية ثقافياً إن لها سمات (مزايا) ثلاثاً، فهي:
ستغير العالم والواقع وستوسعهما إلى حدود غير مسبوقة، وستضفي معنى جديداً عليهما . وستغير وظيفة الإنسان في الوجود، وتجعله سيداً له، وستبدل معنى الزمن، فلا يبقى الماضي بعده الأطول والأكثر فاعلية، وإنما سيتراجع أمام المستقبل الذي لن يكون الحاضر غير مجرد لحظة تأخذ إليه أو تندرج فيه .
يقول ما سيترتب على نشر وثائق “ويكيليكس” من شفافية إن العالم يغدو أكثر فأكثر ملك من كانوا هامشيين ومنبوذين حتى في البلدان الفقيرة والمتأخرة، وإن الإنسان لا يجوز أن يبقى موضوعاً تنصب عليه أفعال الآخرين، ولا مفر من تحوله هو نفسه إلى فاعل يشارك في صنع مصيره، بينما تمس حاجة البشرية إلى إلغاء الهوة بين التقدم والتأخر باعتبارهما زمنين مختلفين ينتميان إلى عالمين مختلفين . نحن في الطريق إلى عالم كوني شفاف ويقاتل بالحرية، يصير أكثر فأكثر ملك من يعيشون فيه . هذه هي الثورة التي لن يكبحها أو يحبطها شيء، ولن يصمد أمامها طغيان أو جهل أو تأخر أو استبداد .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى