اسرائيلصفحات العالمقضية فلسطين

هستيريا الكزبرة والبصل!

الياس خوري
لم اعرف ان الكزبرة تحتل موقعا خاصا في خريطة المشروع الصهيوني، الى ان قرأت مقال عميرة هاس في ‘هآرتس’ (الجمعة 7 ايار- مايو 2010). حيث كشفت الصحافية الاسرائيلية ان الكزبرة على رأس قائمة البضائع الممنوعة من دخول غزة لأسباب أمنية! الى جانب الكزبرة هناك ممنوعات اخرى كالجامبون والقصعين والشوكولاته والفواكه المجففة والعاب الأطفال والى آخره…
اثارت مسألة الكزبرة جدلا قانونيا في اسرائيل، ومع ان الأجهزة الرسمية الاسرئيلية اعترفت بوجود تعاميم تؤكد الممنوعات، الا انها رفضت الافصاح عنها لأن ذلك يهدد الأمن القومي الاسرائيلي و/او قد يسيء الى العلاقات الدبلوماسية الاسرائيلية، اي قد يضرّ بسمعة اسرائيل وصورتها في العالم!
لم استطع فهم منطق منع الكزبرة، الا اذا كان الاسرائيليون يسعون الى حرمان اهل غزة من طهي الملوخية، التي لا ‘تزبط’ من دون نكهة الكزبرة، او يعتقدون انه يمكن استخدام الكزبرة في الاعداد للمتفجرات، كأن الكزبرة صارت سلاحاً استراتيجياً فلسطينياً يعادل في خطره الصواريخ!
في الماضي اصيب الاسرائيليون بهستيريا البطيخ والفجل، كان ذلك في زمن بدايات العمل الفدائي، ونستطيع ان نقرأ حكايات البطيخ في ادب اميل حبيبي، اما ان تصل الأمور الى الكزبرة والقصعين، فهذا يذكرنا بالقرار الاسرائيلي بمنع فلسطينيي الداخل من قطف الزعتر البري، باعتباره ملكية للدولة، ويجب منع الفلسطينيين من قطفه واستخدامه في صناعة المناقيش او سندويشات الزعتر والزيت، التي يقال والله اعلم انها تفتّح اذهان التلاميذ في الصباح!
غير ان غلاة المستوطنين اضافوا مؤخرا حكاية البصل الى قاموسهم الاستيطاني. السيد ارييه كينغ، وهو ناطق باسم المستوطنين، ومؤسس لجمعية ‘ صندوق ارض اسرائيل’، التي تسعى الى شراء الأراضي والاستحواذ عليها في مدينة القدس، بشّرنا بقرب تطويق الأحياء العربية في القدس وعزلها واختراقها، مستخدماً استعارة البصل كي يبرهن على صحة نظريته الاستيطانية.
الحقيقة انه لم يخطر في بالي ان يكون في وسع اي اسرائيلي عاقل استخدام تعبير البصل، بعد حكاية ‘حانة البصل’، التي اوردها غونتر غراس في رائعته ‘الطبل’. الكاتب الالماني كتب عن حانة في المانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية لا تقدم لزبائنها سوى البصل. يجلس الزبون امام صحن مليء بالبصل ويبدأ في تقشيره. ومع البصل تتساقط الدموع.
من الواضح ان الكاتب الألماني الكبير اراد لحكاية حانة البصل ان تكون مجازاً لحال الألمان بعد المجزرة الوحشية التي ارتكبها النازي في غرف الغاز. لكن السيد كينغ لا يقرأ، او انه في لاوعيه يريد ان يتماهى مع السفّاح لا مع الضحية.
‘الفكرة ان نحاصر المركز طبقة فوق طبقة، مثل البصلة’. قال السيد كينغ.
وعندما سُئل لماذا البصل اجاب: ‘لأن القدس مثل بصلة، تزداد حلاوة عند وضعها في النار، كلما تزايد الضغط ، تزايدت النتائج الجيدة’!
السيد كينغ متيقن من ان معركة القدس قد حسمت على طريقة البصل، وهو في سعيه الى تهويد المدينة لا يخفي خطابه العنصري، الذي يمزج الكراهية بمسيانية هستيرية لا افق لها سوى تأسيس الحروب.
استطيع ان افهم العلاقة بين الكزبرة والبصل في المنطق العنصري الاسرائيلي، لكن ما فات الاسرائيليين فهمه ان هذه العلاقة لها دلالات اخرى في المطبخ الشامي الفلسطيني، لأنها تعطي نكهة الطعام، وتجعل من اكل الفقراء المطبوخ بزيت الزيتون متعة للتذوق والشم. لكن الصراع على المطبخ وعلى الحمص لم يعد يجدي، لأن الاسرائيليين قرروا على ما يبدو تحويل الطعام الى سلاح استراتيجي من اجل قهر الفلسطينيين واستكمال التطهير العرقي عبر احراق البصل!
لا ادري ماذا توقّع الثلاثمئة مثقف يهودي اوروبي في بيانهم الذي يدعو اسرائيل الى الانسحاب من الضفة الغربية ومن الاحياء العربية في القدس. فالمثقفون اليهود، وبينهم صهاينة عتاة، بدأوا يشعرون بأن المسار الذي اختطه اسرائيل لنفسها يقودها الى ما يشبه الكارثة. وهم على ثقة بأن ما يقومون به لا يهدف سوى الى انقاذ اسرائيل من نفسها. فالاحتلال ومواصلة بناء المستوطنات هي ‘خطأ سياسي وخطيئة اخلاقية يغذيان عمليات انتزاع الشرعية عن اسرائيل كدولة’، مثلما جاء في البيان.
الايجابي في البيان، انه يكشف نصف الحقيقة الذي يقول بأن الخطر على اسرائيل آتٍ من اسرائيل نفسها، وان كل الأخطار الأخرى التي يدّعيها حكام الدولة العبرية وقادة جيوشها ليست سوى اوهام واكاذيب.
لكن ما يتناساه البيان هو ان الجريمة الأخلاقية الاسرائيلية لم تبدأ مع احتلال الضفة وغزة والقدس عام 1967، وانها تعود الى التطهير العرقي الذي مورس عام 1948، وانه لا يوجد صراع فلسطيني- اسرائيلي، بل هناك احتلال اسرائيلي ومقاومة فلسطينية. المساواة بين الجلاد والضحية لا هدف لها سوى انقاذ اسرائيل من نفسها، اي التلميح الى الخطر الديموغرافي الذي يهدد يهودية الدولة. هنا ايضا يتناسى اصحاب البيان ان يهودية الدولة مناقضة لديموقراطيتها، وان اهل البلاد الاصليين وهم يشكلون الآن وسط نكبتهم المستمرة 20’ من عدد السكان، لا يتمتعون بأية حقوق كأقلية قومية، يتعرض مناضلوهم للسجن او النفي، وتحرم مؤسساتهم من التمويل وتعاقب، مثلما حدث مؤخرا مع مؤسسة ‘مدى الكرمل’، كما تفرض عليهم قوانين عنصرية بنيت على نكبتهم ومأساتهم المستمرة.
لكن حتى اصوات هؤلاء المثقفين الصهاينة، الذين يرون في بصل العنصرية ناراً سوف تهدد شرعية الدولة، يحجبها صوت صهيوني متطرف كايلي فيزيل لا يرى في استيطان القدس سوى تحقيق لوعد خرافي!
الكزبرة ليست هي الموضوع ولا البصل، الموضوع في مكان آخر، لكن الى ان نصل الى الموضوع سوف يحاول الاحتلال الاسرائيلي الهاءنا بمنع الكزبرة، وقهرنا بالبصل. كأنهم لا يعملون انهم لا يصنعون لنا الحضيض فقط بل يسبقوننا اليه.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى