صفحات الشعرعلي جازو

يتعذب الموت في جسدي كما لو أنه سجين حبّي

null
علي جازو

لوحة لخليل مفرّج.
حينما تضربنا عاصفةٌ بكلّ قوّتها،
مكشوفين وحيدين،
كصخورٍ بسطها الليل تحت قدمين باردتين،
حينها، من فمٍ كالأرجوان الطموح،
يجدر بهذه الشفاه أن تبدأ الغناء.
الغناء السعيد نفسه؛
بثّتْه في النهار أوراقٌ خضر كابتسامة،
إلى سورٍ من حجارة صغيرة كالدمى.
لا أقول البكاء،
بل الانحناء السخي كوجهٍ على حجر.
اللذة، لا تُنسى، في قلب الجحيم،
وليس لنا سوى نداء،
لا يجدر بغير السماء أن تمدحه.
***
سواءٌ أكنتَ شجرةً، أمْ بياضَ جدار خفيض.
سواءٌ أكنتَ الحجرَ، أم الخضرةَ المباحة.
يتسرّب ضوء الشمس عبر كيانك،
كما لو كنتَ الهواء يصلُكَ بشبكات الوجود،
أو اللحظة الذاهلة؛ تفتّحتْ كجرح، كغشاء ممزق،
وصار من الهباء خيطُها إلى فمكَ المغلق.
***

تكاثرت الصيغ كأشكال الزهور الهجينة.
مثلّثات ناعمة صفراء،
حوافٌّ يخيفنا لمسها.
***

يا لطراوة الصباح!
رضيعٌ كأنما من رغبة مجهولة،
حوّل جسمَه الصغير ملامساتٍ بلا ثقل.
أي جوعٍ كاللهب هذا، يا الوجه المشتهى!
بأي كلمة ينبغي نداؤكَ الآن،
لئلا تستيقظ مذعوراً، لكنْ
تُسمَعُ هذه التنهيدة؛ لم تكن لسواك.
***

كأنها العافية، سلام الصباح،
وقد غدت إطار لوحةٍ،
أو الحلمُ خيالٌ لا يُتجاوَز.
جئتَ مضاءً إلى العالم،
منديلاً أزرق الثنيات،
على يد الربّ، فوق جبينكَ.
***

إلى العدم يلتئم النقاء،
بهواءٍ ثقيل تمتلئ أفواهنا.
حالما نتكلم نضيّع الاثنين.
الأنفاس التي برقّةٍ كتيمة صاغت تموّجَها،
والشفاه، الشفاه – يا لحزنها الضئيل المتناظر
كم بدتْ منيرةً كخطوط على يدٍ عجوز.
***

أيُّ مجهول لا يُدرَك، كالسحب، بعيدٌ،
يغطي شمس المفاجآت كلّها؟
سوى وجه الموت، الوجه العريق؛
لطالما نخفق في رؤيته.
نظرة وحيدة.
كم هي تتضوّر إزاء أقدارنا!
حيوانٌ – في الوجود الأبهى صفاءً –
خطوة محفورة في قلب السماء.
شهوةٌ كالأثر، دمٌ راقص في بقع ضيقة،
عشبٌ هناك بلون الصمت، داكنٌ وغزير.
لا قلق، ولا ارتواء.
الليالي كلّها ملكُ الرياح،
أغنياتٌ كالسحب إثر أغنيات.
***

سُحِبنا في الظلام، مسروقين،
كما تُنزَع الخواتم من أصابع القتلى.
كقطع متباعدة،
سُحِبْنا، من أقفاص قلوبنا،
إلى ساحات عارية،
جُرَّتْ أطرافنا الميتة.
أغمضنا عيوناً لا تشبه نظراتنا؛
واهٍ! نظراتٌ مسحورة،
كم مرة، غارتْ في البهجة،
مَنحْناها إلى أوراق الورود!
***

خلف وجهِ صبيّةٍ بلهاء،
نورٌ أخذتْه السكينة،
إلى أرضٍ مرحة، برفقٍ أخذتْه.
وجهٌ يعكس كلّ شيء سواه.
ليلٌ أبيض قديم،
سرَّبَ بسماتِ حيرةٍ،
لفحةً أبردَ من الصفاء.
***

ها نحنُ – أسفل أضواء العوالم كلّها –
نكبر، نتدافع، كدوائر مياه مرتعشة،
كلما اتسّعت عن مركزها الجريح،
صارت أقرب إلى التلاشي،
بطيئة مستسلمة.
طفولتنا اللامرئية،
نسغٌ داخل لحاء،
بصمتٍ متّقد، تتصاعد.
تُرى من يجرؤ – يمدّ يداً،
فليشعل الزهور،
فوق ليل المياه،
ليشعلْها الآن.
***

أخيراً عدتُ لا أحداً؛
كما ينبغي أن أكون منذ البداية.
تعرفني حجارة الجدران القديمة،
والساحات ذوات الرئات الفارغة،
عليها مضت العربات المثقلة بلهاث البغال.
والليالي كلّها تعرفني؛
الليالي التي يقلِّد فيها الهواءُ أنفاسَ البشر.
***
حوصرتُ كما تضيق دمعةٌ بعين ملتهبة.
سُجِنْتُ، ولم أكترث.
ما شكوتُ، وما صبرْتُ صبر المتعفن،
ولا توسّلْتُ كوجه المخذول.
كان عليَّ التجرّد من كلّ شيء،
كان عليَّ تقديم نفسي كقربان إلى العدم.
***

فراغان كبيران: قلبي ورأسي.
يتعذب الموت في جسدي
كما لو أنه سجين حبّي.
إلهي، صديق المرضى،
امنحْ موتي عافيةَ فصلٍ من فصولك،
امنحْهُ سكون طائر في الليل،
أو رقّةً عابرة وجه الصباح.
***

ملائكة، في الزوايا،
حشرات داكنة،
ملائكةٌ موّلت الصيف أجنحةً من ذهب.
خساراتُ بهاءٍ لا توصف.
***

اكتملت الساعات، الساعات كلّها.
إلى البئر قفلتْ أفواه المعاول،
وفوق الحجارة نمت الطحالب.
اكتملت الساعات، والمراثي نضجت كالثمار.
نفد النحيب، نفدت العظام وأقمشة الدمى.
وبين صرخاتٍ زرقاءَ، قضى وجد الليالي.
آن للعشب أن يضرب هذا الصدر،
بمياه الصباح الثقيلة، أن يضرب.
والصمت، عبْر العيون، يرسل ضوء الأسى.
***

لم أنم.
هواء كائنات حية،
داخل صمتٍ غزير.
ثم، رفعتُ رأسي عن ألف عام، رفعته.
هناك، تحت كلمات العناء،
خُطَّتْ كموجةٍ  زهرةٌ ضئيلة.
***

أيها الصمتُ؛ أكثر فتنةً من أي شحوبٍ ممكن،
يا من عميقاً وأكثر قرباً من الموت تحفر الوجوه،
وحدكَ، مثل نغمة منفردة طويلة،
تعلم وتلمس كلّ شيء بيدٍ كيد الخوف.
وبهذا تتجاوز الإله الذي يحيط بك
مثل صدر يحمل ويحتكر خفايا قلبٍ تالفة.
يا من ترى الدموع ساخنة متألقة،
وهي تقتل كآبة المحرومين،
وتراقب الأزهار التي لا يراها أحد
وهي تتفتحُ، أو تسقط من ذبولها
في غابات مظلمة أو قرب نوافذ مشرعة.
أيها الصمت المقتنى مثل كنزٍ من الصخور القاسية،
يا من تلمس نتف الثلج، ثلج الجبال النائية
تلك التي لا يصلها غير بياض البرد السريع
وفم الريح منشورة عبر شبكات الضوء الخانقة.
يا من تحس بأماكن لا يعيش فيها أحد
سوى آلام المعذبين
وصرخات اليائسين المكتومة كأسرار مرعبة،
أنت وحدك تعرف الفقر الذي لا يرحم أحداً.
إليك تنحدر هذه الكلمات،
لأنك القاع الذي يظل مصدر كل خوف وكل حب،
وأنت وحدك الذراع التي تسند ملاك الآلام،
الآلام التي تحيا مثل أشباح خلف الوجوه.
ياه،
إليك تنحدر كلماتٌ
مثل قطيع من الطيور العمياء،
هي ذاتها الكلمات التي كانت وجوهاً للأمل والرغبة،
قبل أن تصعقها أيامُ الأرض برؤيتك وأنت تنظر فيها
كما لو كنت حديد الشمس تهبط ذائباً على فم طفل ميت.
يا صمتاً لا يقاوَم ولا يهنأ ولا يغادر،
يا ولهاً معافى لا يعيش في قلبه أحد
سوى الثلج الأقوى من كل صورة،
وطرقٍ تعلوها الرياح التي تحمل ضوء العالم،
كمن ينشل الغرق ليعيده إلى قلب السماء ¶

ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى