صفحات سوريةغسان المفلح

اللبرلة كخيار سياسي: الطبقة الجديدة شريكة للاستبداد السلطاني

null
غسان المفلح
نهب مستمر للمجال العام، نهب رمزي ومادي، المجال العام لا يمتلك ثروات مادية ورمزية غير محدودة، المجال العام اقتصاد معروف ومحدد القدرة، شرائح اجتماعية متنوعة الانتماءات تتبادل التعايش في ما بينها كسلعة، وعندما لا تحتاجها لا تشتريها، أما تعايشها مع مزيد من المركزة السلطوية، فهي سلعة تباع لهذه الشرائح عنوة، من دون توقف ومن دون حد، تباع عنوة وتقبض السلطة ثمنها رمزيا وماديا، رمزيا من خلال تأليه نفسها وتأليهها من قبل هذه الشرائح: لنلاحظ سريعا، عند فعاليات الأقليات الدينية والطائفية السلطة تحميها من أي تغير يحدث بحجة أن الأكثرية المسلمة السورية ستنتج سلطة إرهابية تقضي على هذه الأقليات، متناسين حتى التاريخ السوري نفسه، وعند فعاليات الأكثرية السنية السلطة حامية للدين والمقاومة، وتعزز مرتكزات خصوصيتنا الثقافية والدينية، أما شريحة المثقفين ماعدا قلة منهم، فاستمرأت كل شيء مذل وكل ما هو اعتداء على كرامة البشر، ونهب لأرزاقهم، وإفقار لأسرهم، وتيه لأطفالهم في الشوارع يبحثون عما يسكتون به جوعهم من أكوام القمامة في أحياء الأغنياء (تقرير اليونيسيف الأخير عن عمالة الأطفال في سورية)، كل هذا وشريحة قليلة العدد أمام ناظرهم تستولي على كل شيء، وتوزعه بمحض إرادتها، حيث تراتبيات الحظوة والولاء بكل أشكاله بات حاضرا، المثقف الديني يجد لها سندا في دينه، والمثقف اللاديني يجد لها سندا في شعاراته العلمانية أو الحقوقية أو القومية أو اليسارية، يجد سندا لهذا الفتك اليومي بالفرد السوري.
عماذا يتحدث هؤلاء عن حقوق مدنية، وفلان رجل الأعمال الأول في سورية، صار في كل بيت، وفي كل مدرسة ومؤسسة، صار في كل قانون يسن، وفي كل تشريع، في الجامعات، وحملات تنظيف المدن، ثروات تقدر بمليارات الدولارات، باتت تحت يديه، يصنع تلفزيونات وجرائد ومؤسسات خيرية! لدعم مركزة ومزيدا من مركزة السلطة هذه وبالذات، هنالك من يقول انه أصبح يمتلك عقارات في سورية تعادل ربع لبنان! وهذا التملك ليس فقط بالاسم، بل بالحيازة أيضا يفتتح مطعما على جبل من أملاك الدولة فيصبح كل الجبل تحت تصرفه، أو يقيم مشروعا على حيز من شاطئ ما، فيصبح كل الشاطئ تحت تصرفه، لهذا تتحدث بعض المصادر عن هذه الملكية العقارية. كلما زادت ملياراته مليونا تم افقار أسر عديدة مقابلها وتحطيم مستقبلها ومستقبل أطفالها، والسبب بسيط جدا: إن ازدياد المليارات لا يأتي عن طريق الاستثمار الاقتصادي فقط، بل يأتي عن طريق حيازة وسائل السلطة والسيطرة غير القانونية على مصادر الثروة، أحيانا بالتشارك المفروض بالقوة من أجل حماية الاستثمارات الوافدة كالفتوات تماما، وأحيانا أخرى عبر ما يسمونه الخصخصة او تعهيد القطاع العام وتلزيمه، ذكرتني بقائد احدى الفرق العسكرية في الثمانينيات، قام ببناء فيلا- استراحة القائد كما تسمى- على رأس هضبة وبعد فترة قصيرة قام بتسوير الهضبة كلها بالأسلاك الشائكة وزرعها. هذا مثال لما يدور الآن بشكل أكثر عمقا واتساعا، ووضوحا مبهرا لمن يريد رؤيته ‘وقال شو عفوا منكم سنتحدث بالعامية قال فلان هذا الذي تحدثنا عنه في الأعلى ليبرالي’ وكي يلطفوا تواطؤهم يسمونه من دون ذكر اسمه ‘ ليبرالي متوحش’ ويشتمون السيد عبد الله الدردري نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، لأنه يسمح لهذا الليبرالي بالتصرف. في الواقع لم أكن اعرف أن السيد الدردري هو المتحكم باقتصاد البلد، كنت أظن المتحكم هو وزير المالية، لأنه يمتلك القدرة على فرض الضرائب على كل رجال الأعمال فهل يمتلك هذه السلطة؟ أعتقد ومن باب الزعم أيضا، أن من له حد أدنى من المعرفة الاقتصادية، وآليات عمل الاقتصاد في ظل أنظمة تشكل استثناء الاستثناء، لا يمكن أن يخطر بباله للحظة واحدة أن السيد نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، هو المتحكم أو لنقل هو صاحب القرار في الحقل الاقتصادي، فكما هي الحال في مصادرة القرار السياسي والمستوى السياسي في البلد، أيضا تمت مصادرة القرار الاقتصادي، وبنفس الطريقة تقريبا. إن المورد النفطي والفوسفاتي السوري لم يعد كافيا للنظام السياسي لكي يترك القطاع الخاص ينمو بدرجة من الحرية الاقتصادية المقوننة، كما هي الحال في دول الخليج، بل كان يجب على النظام السياسي أن يمركز بيده الثروة الاقتصادية أيضا، وهذا ما جعله يتمدد عبر إجراءات جديدة لكي يستولي على القطاع الخاص بصمت فاعل، وضجيج فارغ عن اللبرلة من قبل مثقفي اليسار واقتصاد السوق الاجتماعي من قبل مثقفي السلطة.
الليبرالية بعدما أصبحت حالة تاريخية مجربة، منذ بدء العصر الرأسمالي في أوروبا، أضحت الآن خيارا عالميا بالنسبة لكل الدول التي كانت ولاتزال تعيش في ظل أنظمة استثنائية وديكتاتورية، لها طابع مشخصن، الليبرالية ليست هنا نتاج تطور طبيعي كما حدث في بداياتها، لم تستطع الملكيات المطلقة الأوروبية تجاهله، ورغم ذلك بقي خيارا ثوريا آنذاك، سلميا أم غير سلمي.
هل الليبرالية الآن هي نتاج تطور طبيعي في سورية؟ أم أنها نتاج قرار سياسي؟ هذا إذا افترضنا أن ما يحدث في سورية في العقد الأخير هو عملية لبرلة.. فهل يمكن تخيل اللبرلة الجارية في سورية وآلياتها يمكن أن تستمر من دون قرار سياسي واضح؟
اللبرلة المعاصرة في كل الدول التي عرفت أنظمة شمولية أو ديكتاتورية أو استبدادية أو سلطانية، هي خيار سياسي أولا وقبل أي شيء آخر. السؤال هل اتخذ هذا القرار
في سورية؟ كيف يتخذ؟ وعلى أي أساس؟ وما هي الآليات القانونية التي تمت من أجل قوننة هذا الخيار؟ والسؤال الأهم برأيي وفقا للحالة السورية وإشكالياتها المزمنة: هل من مصلحة النظام السياسي اتخاذ قرار باللبرلة وحمايتها قانونيا؟ الليبرالية تعني قوانين وقضاء مستقلا يحمي هذه القوانين ويطبقها، بتسمية أخرى اقتصاد السوق الاجتماعي هو لحماية للفقراء ولذوي الدخل المحدود جراء الخوف من نتائج إعادة هيكلة الاقتصاد، هل ما يجري على الأرض هو حماية لحقوق هؤلاء أم ما يجري يمكن لنا تكثيفه بنتيجتين: الأولى- مزيد من المركزة السلطوية وامتداد هذه المركزة لتصل للحقل الاقتصادي كله.
الثانية- التحكم الشديد بمنطق بسيط: من من حقه في سورية أن يكون رجل أعمال باستقلال عن معادلة الولاء للسلطة السياسية؟ فإما بالتشارك معها أو مع شركائها أو ألا يكون هنالك أي موضع شك بولائه السياسي والأمني للسلطة القائمة. لهذا يتحدث الكثير من المهتمين عن أن الطبقة الجديدة شريكة للاستبداد السلطاني. بالتالي يمكننا القول وبدون مجازفة معرفية أو أيديولوجية متحاملة: أن مصادرة الحقوق السياسية للمجتمع السوري، باتت تحتاج إلى مصادرة اقتصادية لثروته تتناسب طردا مع المصادرة السياسية، لاعتبارات تخص واقع السلطة السياسية واستمراريتها على هذه الشاكلة. لهذا كلما ازدادت مركزة السلطة كان هنالك مزيد من انتقاص الحقوق السياسية والاقتصادية للمواطن السوري. لماذا بات يشتكي الكثير من رجال الأعمال والمستثمرين السوريين والأجانب، من التدخل الأمني والسياسي في فرض شركاء لهم تقررهم السلطة، وإلا واجه هؤلاء المستثمرون مزيدا من التعقيدات البيروقراطية التي تخرجهم من اللعبة الاستثمارية في سورية خاسرين. نحن هنا لم نتناول الفساد ودوره في إعاقة العملية الاستثمارية، نحن تكلمنا فقط عن طبيعة ما يسمى بالخيار’ الليبرالي السوري’ وعلاقته بطبيعة النظام السياسي فقط.
مزيد من الارتجال الاقتصادي لمركزة أسرع للثروة متناسب مع انتشار الفقر، هو مستقبل الأجيال القادمة.

‘ كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى