صفحات العالم

السودان وبعض الأقلام والجُحر الاستعماري!؟

معن بشور
كنا نعتقد ان درس العراق بعد سنوات ست على احتلاله، وبعد المعاناة غير المسبوقة التي عاشها أهل العراق على كل المستويات، سيكون ماثلاً لدى الكثير ممن اعتقدوا للحظة واحدة  ان الاحتلال يمكن أن يكون “تحريراً”، وان العدوان يمكن أن يُسقط “الاستبداد”، وان التدخل الاجنبي يمكن أن يكون “ضامناً” لحقوق الانسان وللحريات العامة والخاصة.
بل كنا نظن أن تعثر المنظومة الامبراطورية الاميركية وسقوط دعاتها ورموزها في واشنطن سيؤدي بالضرورة الى سقوط منظومة ثقافية وفكرية واعلامية متكاملة في بلادنا لعبت دوراً كبيراً في التمهيد لحروب تلك المنظومة الاستعمارية، وعكفت على مدها بكل التبريرات والذرائع لكي تنفذ مشروعها…
لكن من يتابع بعض ما يكتب ويقال حول الازمة الحالية في السودان، وحول تبرير تصرفات المحكمة الجنائية الدولية التي باتت محرجة حتى لبعض اصحابها، خصوصاً مع صمت هذه المحكمة، ومدعيها العام السيد اوكامبو، امام الجرائم الاسرائيلية في فلسطين ولبنان والجرائم الاميركية في العراق وافغانستان، يكتشف ان هناك تصميماً خطيراً على تعريض بلد آخر، عربي واسلامي وافريقي، كالسودان للكارثة التي تعرّض لها العراق.
ينسى هؤلاء مثلاً ان “مطاردة” المجتمع الدولي بقيادته الاميركية وبتوجيهاته الصهيونية للسودان قد بدأت قبل أزمة دارفور التي يعرف الكثيرون ان اندلاعها، وتصاعد اهتمام ما يسمى بالمجتمع الدولي بها، أتى “للمصادفة” في مثل هذه الايام قبل ست سنوات، أي فيما كان جورج بوش ومحافظوه الجدد يعتقدون ان “مهمتهم” في العراق قد استكملت، وان احتلالهم لافغانستان قد نجح، وان الدور قد حان لضرب دول عربية واسلامية أخرى، تملك من الخيرات والموارد ما يشبه خيرات العراق وموارده، وتحتل في الجغرافيا السياسية والاستراتيجية مواقع مشابهة لموقع العراق ودوره وأهميته.
لم تكن محنة دارفور، ولا معاناة أهلها (التي لا يقبلها انسان، والتي تتطلب بالتأكيد تحقيقاً ومحاكمة ومحاسبة لكل من يثبت تورطه في انتهاكات تمس حياة البشر وحقوقها) مطروحة على مدى العقدين الماضيين حين صدرت قرارات دولية تحاصر السودان في أواسط التسعينات، وحين شنت غارات جوية على منشآت طبية وانسانية على أرضه في أواخر التسعينات، وحين طُلب الى الشركات الغربية، قبل ذلك وبعده، وقف استثماراتها داخل ذلك البلد لافقاره وتجويع اهله وتشريد شبابه وليبقى السودان عنواناً للتناقض الصارخ بين ما تكتنزه أرضه من موارد في باطنها وبين ما يعانيه أهله من فقر وجهل ومرض، بل قبل أزمة دارفور بسنوات جرى “تحريك” أكثر من دولة مجاورة لتعلن حرباً على السودان او لتحتضن مؤامرات ضده.
فماذا كانت الذريعة، قبل دارفور، لتلك الحرب السياسية والاقتصادية والامنية وحتى العسكرية ضد السودان. لقد كانت هناك ذرائع وأكاذيب شبيهة بأكذوبة اسلحة الدمار الشامل في العراق، وبأكذوبة العلاقة بين النظام العراقي وتنظيم “القاعدة”، بل بأكذوبة حرب “الابادة الجماعية” في دارفور نفسها، وهي اكذوبة فضحتها شهادات وتقارير غربية ودولية رفضت  ان تتهم حكومة السودان بارتكابها، واكتفت بالحديث عن انتهاكات لحقوق الانسان، (وهي انتهاكات مرفوضة، بالنسبة الينا، جملة وتفصيلاً ومن أية جهة أتت، سواء من قبائل تُتهم الحكومة بدعمها، او من حركات متمردة تقر كل الجهات المتقصية بمسؤولياتها عن ارتكاب جرائم قتل وسلب ونهب بحق مواطنين سودانيين، كما بحق قوات حفظ السلام “الهجينة” التي ارسلها الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة الى دارفور، بل بحق بعض العاملين في منظمات الاغاثة السودانية).
واذا كانت الذريعة اليوم حماية أهل دارفور، وهو أمر واجب بكل المقاييس والمعايير، فلماذا تزامن التصعيد ضد السودان في السنوات الاخيرة مع تراجع العنف وضحاياه في دارفور، بشهادة كل المتابعين لملف تلك المنطقة الغارقة في حرب اهلية دامية، متعددة الطرف والهدف والغرض، بل لماذا تزامن صدور مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني مع تقدم المساعي لحل سلمي لازمة دارفور، وخصوصاً لتزامن صدور المذكرة مع الوصول الى اتفاق اعلان نوايا في الدوحة بين حكومة السودان وحركة العدل والمساواة.
واذا كان هذا البعض المرحب بمذكرة اوكامبو يدعي حرصه على أن يأخذ القضاء الدولي مجراه، ويؤكد استقلاله وبعده عن التسييس، فكيف يفسر لنا هذا البعض ان الاعلان عن قرار اوكامبو الاتهامي ودعوته لتوقيف الرئيس البشير قد صدر عن مسؤول في الخارجية الاميركية قبل أن يصدر عن اوكامبو نفسه في تموز الماضي، وان “النبأ السار” بصدور قرار الغرفة الادارية الاولى في المحكمة الجنائية الدولية في مطلع شهر آذار 2009 قد أعلنه مسؤول اميركي ايضاً، ومن واشنطن، قبل أن تعلنه المحكمة ذاتها في لاهاي، علماً ان الولايات المتحدة، كالسودان، ليست من الدول الموقعة على “ميثاق روما” الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية عام 1988، وبالتالي ليست عضواً في المحكمة، ولا يحق لها الاطلاع على سرية
المداولات فيها والتي ينبغي ان تكون نموذجاً للقضاء المستقل.
الأمر باختصار بات واضحاً، اذ ان السودان كسوريا وايران وكوريا الشمالية، كان هدفاً لحرب استباقية اميركية في مخطط متعدد الحلقة بدأ بافغانستان والعراق واراد الانتقال الى الدول الاخرى، لكن التعثر في العراق على يد المقاومة العراقية اولا، ثم التعثر في افغانستان، استبعد فكرة الغزو العسكري لاستحالة تطبيقه، ولتحل مكانها فكرة “الغزو القضائي” الذي يحاول محاصرة القيادة السودانية اولا لينتهي الى الاجهاز على السودان، وقد بدأ يخطو خطوات مهمة على طريق التنمية الاقتصادية والاستقلال السياسي والاصلاح الداخلي وايجاد حلول للبؤر المتفجرة لاسيما في الجنوب.
لو كان الامر في السودان يرمي فعلا الى محاكمة جناة انتهكوا حياة اناس ابرياء، لصفقنا جميعا لعدم افلات اي مجرم من العقاب، فمن قتل نفسا بغير حق فقد قتل الناس جميعا، خصوصا ان بعض المتحمسين لهذه المحاكمة في السودان غارقون في جرائم ومجازر لم تشهد البشرية لها مثيلا بدءا من تل ابيب ووصولا الى واشنطن التي ودعت قبل اسابيع رئيسا يستحق بكل جدارة لفقب “مجرم العصر”.
اما الخيط الصهيوني في القضية السودانية، بل الحبل الصهيوني فقد شاءت الايام ان تكشفه بجلاء مبين على يد بعض المتورطين في محنة دارفور، حيث ان احدهم قد اعلن وهو يزور تل ابيب ان اول ما سيفعله لدى تسلمه الحكم في السودان هو اقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، وانه سيفتح لتل ابيب قنصلية في كل ولاية من ولايات السودان، والأنكى من هذا كله ان هذه الزيارة، ومعها التصريح، قد تمت فيما العالم بأسره يتظاهر مستنكراً جرائم تل ابيب في غزة…
وما انكشاف قصة القصف الصهيوني للشرق السوداني بذريعة ملاحقة شحنة سلاح “مهربة” الى المقاومة في غزة الا العنوان الآخر لمدى التورط الصهيوني في التحريض على السودان والسعي لتفتيته وهو تورط شهدناه ولا نزال في لبنان منذ عقود، بل يشبه كذلك تورطا بات مكشوفا في العراق، في مرحلة التحضير للحرب العدوانية، وخلالها، وبعد الاحتلال بشكل خاص.
فهل يجوز بعد اتضاح كل هذه الحقائق ان يختبىء مثقف او كاتب او سياسي خلف معاناة اهل دارفور، وهي معاناة مرفوضة ومدانة بشدة من كل الاحرار، او يبرر مخططات استعمارية وصهيونية ضد السودان، بل ضد الامة كلها من خلال السودان، وهي مخططات تعقد ازمة دارفور نفسها؟
هل يجوز ان يتكرر في السودان ما رأيناه في العراق وافغانستان، بل في غزة وجنوب لبنان، حتى يطمئن هؤلاء الى ان رهانهم لم يكن خائباً.
هل يجوز ان يكون النظام الرسمي العربي اكثر تحسساً بالمخاطر التي تحاصر السودان، واكثر اقترابا من المزاج الشعبي العام من بضع الاقلام والاصوات التي تدّعي
“الليبرالية” والديموقراطية فيما هي تبتعد كل يوم عن ارادة شعوبها.
لصادقي النوايا من هؤلاء، اذا لم يزل هناك صادقو نوايا بينهم، نقول: المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين… فكيف اذا كنا نلدغ منذ عقود من الجحر الاستعماري المرة تلو المرة.
(•) تذكّر “قضايا النهار” بأنها فتحت النقاش حول الموضوع بمقال الزميل محمد علي الاتاسي تحت عنوان “المحكمة الجنائية الدولية والبشير: في نقد ردود الفعل العربية” والمنشور بتاريخ 24/3/2009.
(أمين عام تجمع اللجان والروابط الشعبيّة)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى