صفحات الناس

بلاد السمن واللبن

null
سعاد جروس
من يزر المناطق الشرقية السورية يصب بنوبة من الكآبة وهو يرى ما آل إليه حال البيئة في أرض السمن واللبن، ولعل أصدق دعاء يرفع في رحابها دعاء إعرابي: “اللهم إنا نبات نعمتك فلا تجعلنا حصاد نقمتك”. فعندما زرنا مدينة الرقة قبيل عيد الأضحى تلبية لدعوة كريمة من مديرية الثقافة للمشاركة في مؤتمر تحت عنوان (السياسة والإعلام) أتيحت لنا فرصة زيارة مدينة عزيزة عزة أهلها، لكن حالها هذا العام ليس كما كانت عليه قبل عامين. عندما زرناها أيضا تلبية لدعوة مماثلة للمشاركة في مؤتمر عن الرواية، فالوضع البيئي كان سيئاً حينها، لكنه هذا العام أسوأ بكثير، انعكس على وجوه الناس في الشوارع فبدت كئيبة كالحة، يسيرون تحت سماء سرق منها العجاج لونها الأزرق ليمنحها لون الغبار المصفر، في محيط تعاونت فيه موجات الجفاف مع التلوث والإهمال على إزهاق روح نهر الفرات فتراه يترقرق شحيحاً معلولا،ً ليؤكد وجوده ليس إلا.
حال الرقة وربما سائر مناطق شرق سوريا لا يسر أحد، ومع ذلك مازال فيها من يكافح كي تبقى على خارطة الاهتمام المحلي والعربي، فترى مديرية الثقافة في الرقة تخترع مناسبات فكرية وأدبية وإعلامية رغم إمكاناتها المحدودة قياساً بما يغدق بإسراف في العاصمة، تدعو إليها مثقفين وإعلاميين سوريين وعربا وأجانب. فعدا الموضوعات التي تطرح للنقاش والمساهمة في تحريك الأجواء الثقافية، هناك فرصة لإبقاء واحدة من أثرى بقاع العالم تاريخياً وحضارياً على قيد التداول الإعلامي والأهم الثقافي. هذا ما بدأه عبد السلام العجيلي، المثقف والطبيب، الذي جعل من مدينته محجاً وقبلة من خلال الأمثولة النبيلة التي لم يوفر جهداً، في إثباتها قولاً وفعلاً في الوفاء للوطن.
في الرقة وسائر مناطق الجزيرة السورية ما يستحق عناء السفر خمس ساعات على طريق مملة باستقامتها، مرعبة بمفاجأتها الكثيرة. كما إن لتلك المناطق وأهلها حقاً على كل السوريين للاهتمام والعناية بها، ليس لأنها سلة غذائهم وخزانة تاريخهم وحسب، بل لأنها صمام أمنهم الغذائي وسيادة قرارهم القومي. وحالها اليوم لا يجب السكوت عنه. فالمشكلة ليست فقط تعاقب موجات الجفاف طوال خمس أو ست سنوات عجاف، بل في التقاعس عن وضع خطط إنقاذ تحد من تدهور الأوضاع هناك. فالتحذير من التصحر منذ عدة سنوات، واكبته حلول ارتجالية غير قادرة على مواجهة زحف كارثة نستشرف أبعادها في المعطيات الرسمية التي تقول إن سقاية الأراضي الزراعية بمياه الصرف الصحي دون معالجة أسهمت في تدهور 59% منها، كما تسبب الجفاف بنفوق 85% من الماشية، وأن الوضع الاقتصادي المتدهور أدى إلى نزوح نحو خمسمائة مواطن إلى غرب البلاد وجنوبها. وقد قدرت الأمم المتحدة عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر في المناطق بنحو 800 ألف نسمة، 190 ألفًا منهم يأكلون من مساعدات البرنامج الغذائي، و110 آلاف منهم يحلمون بما يسد الرمق. أرقام تؤكد بمعنى آخر وجود مجاعة في أرض الخيرات، استدعت قلق الفريق الاقتصادي من دون أن تصيبه بالذعر، لأن الجوع هناك يرواح عند درجة الدفع إلى النزوح ولم يصل بعد إلى درجة أكل البشر لحم بعضهم بعضاً. وبالتالي مازال هناك متسع أمام الفريق الاقتصادي للمضمضة بحديث عن الخطط الخمسية السابقة واللاحقة، والاختلاف حول الإخفاقات والإنجازات مع أن المكتوب واضح من عنوانه واتضح أكثر على أرض الواقع، الذي قسم السكان إلى جماهير فقيرة غفيرة ونخبة ثرية تلعب بالأموال ومصائر البلاد والعباد، تحت يافطة اقتصاد السوق المفلوش. سوق تماوتت فيه الصناعات المحلية لصالح استيراد نفايات الصناعات الصينية من الطربوش للبابوج، وباتت سوريا الشهيرة بصناعتها النسيجية والقطنية تستورد الملابس الداخلية من الصين، ضاربين بمقولة “ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع” عرض الحائط، وما أكثر الحيطان والأموال التي تغدق على بنائها تحت مسمى استثمارات عقارية. وهنا لن نتحدث عن جدوى كل تلك المناطق السكنية إذا لم يكن المحتاجون لمأوى قادرين على السكن فيها! بل سنشير باستغراب إلى ما يقوله الفريق الاقتصادي في ترويجه لدعم توجه الاقتصاد نحو المجال الخدمي بحجة أن المجال الإنتاجي لم يعد كافياً، لأن “معدلات نمو قطاعات مثل الصناعة التحويلية والخدمات والسياحة والمال والتأمين والعقارات والتجارة وغيرها أسرع بكثير من معدل نمو الزراعة”!! وأن “هناك حاجة إلى تنويع جذري في مصادر النشاط الاقتصادي في الأرياف السورية لأن الاعتماد على الزراعة فقط كمصدر للدخل في الريف لم يعد ممكناً، فالزراعة بطبيعتها ذات منفعة حدية متضائلة ومتناقصة مع الزمن!! والزراعة لا تعيش من دون دعم حتى في أكبر دول العالم الرأسمالية”!! كلام منطقي وسليم ولكن ترجمته على الأرض أتت على حساب الزراعة، التي تراجعت بشكل كبير، سيما وأن الجفاف واكبه قرار رفع الدعم عن المحروقات، لأن الفريق الاقتصادي رأى في رفع الدعم دواء مرًّا لا بد منه، ولا يجد غضاضة في رفع الدعم عن الزراعة لتخفف من عبئه، علماً أن الفساد لا سياسة الدعم هي التي أضرت بالاقتصاد، وتعويض الضرر لا يكون فقط بتنشيط قطاع الخدمات ونشاطات الربح السريع، وإنما أيضاً في الحد من جشع الفاسدين، وعدم التخلي عن دعم الزراعة كضامن للأمن الغذائي والقومي. ومعروف أن اقتصاد الخدمات يبقى هشاً أمام العواصف السياسية وما أكثرها في منطقتنا. نقول هذا وعيننا على مصر، المهددة دائماً في اقتصادها. فمن شأن أي اضطراب داخلي أو عمل إرهابي أن يصيب اقتصادها الخدمي في مقتل، هذا عدا عن أن قرارها السياسي مرهون بإسكات الأفواه الجائعة بقمح المساعدات الاميركية.
قد لا نجيد قراءة وفهم نظريات اقتصاد السوق المفلوش، لكن رؤية أهل الخير والجود ينتظرون المساعدات الغذائية، تصيبنا بالذعر على بلد طالما تفاخر بسياسة الاكتفاء الذاتي، وواجه العالم بقراره المستقل.
بقي أن نقول حرص مديرية الثقافة ومثقفي الرقة على استقطاب الإعلاميين والأدباء من كل الأنحاء قد لا يعيد إلى النهر ما فقده من مياه ، لكنه من دون شك يؤكد الإيمان بوطن لا يليق به إلا حياة العز والعيش الكريم.
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. إذا كان هذا الحال بعد 47 سنة من حكم البعث – حزب الوحدة والحرية والإشتراكية – حزب الأمة العربية الواحدة والرسالة الخالدة – أنا أوجه سؤالاً لكل بعثي شريف يؤمن كل الإيمان بهذه الشعارات ؟ ماذا بقي من هذه الشعارات بعد 47 سنة – ؟؟ الجواب لم يبق منها شيء لاوحدة ولاحرية ولااااااااااااااااااااإشتراكية – ولاأمة واحدة ولارسالة خالدة فقد صارت إيران الفرس دولة شقيقة ورفاق العراق أعداء مارقون يستحقون الغزو الأمريكي – أيها البعثيون في سوريا لقد حولكم حافظ الأسد إلى نعاج مهمتها الحمل والولادة والحليب فقط – ولم يترك لكم كباش منكم للتلقيح فالتلقيح الصناعي أكثر أمناً على النظام وسيطرته على مقدرات وثروات البلد – هنيئاً لكم بهذه المهمة أيها النعاج !! ربنا ييسر لكم حملكم وولادتكم ويكثر فيكم الحليب لعمل المهلبية والبوظة —

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى