الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

أحمد داود أوغلو يسبر “عمق” تركيا “الاستراتيجي”

الدولة السلطانية التقليدية والآسرة في غلاف اقتصادي ليبرالي
وضاح شرارة
بينما كان رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، يخطب الجموع القادمة من أنحاء عكار كلها، والملوحة بأعلام تركية كثيرة وأعلام لبنانية، من شرفة “قصر” يلدزلار (اسم مطعم كبير) في بلدة الكواشرة، مساء الأربعاء في 24 تشرين الثاني المنصرم، لاحظ مشاهد الشاشة الصغيرة إلى يسار الخطيب التركي، في أقصى الصف الأول المطل على الجموع المنتشية، رجلاً أليفاً يبتسم ابتسامة رزينة وبادية السرور، وينظر إلى الحشد العريض يسبره ويروزه و”يقيس” عمقه، إذا جازت اللفظة، وعمق حماسته وإقباله. وبدا الرجل مازجاً السرور غير الخفي بما يرى، بتقدير أو تقويم محله من خطة أوسع بكثير، فكأنه كان على علم بأن زيارة رئيس حكومته، وهو وزير شؤونها وعلاقاتها الخارجية منذ نحو السنتين ومستشار الرئيس منذ أعوام، إلى هذه الناحية من الأقاليم أو المحافظات اللبنانية، وإلى بعض سكانها الذين حلوا ربوعها قبل 500 عام (أم 800 عام؟) وهم يومها تركمان عرقاً ولغة ولا يزالون، حاملاً بيد عشرات المدارس وسيارات الإسعاف وباليد الأخرى “أخوة” رفيق الحريري وسعد الحريري “الغالية”، على قوله كأن وزير الخارجية العتيد، أحمد داود أوغلو، كان على يقين من ان هذه الزيارة لن تعدم جزاء لبنانياً بالحماسة والإقبال. وهو استبقها وأعد لها، على تواضعها، في إطار تناوله “العمق الاستراتيجي”، عنوان أو وسم العمل التحليلي الجامعي الذي تناول فيه “موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” (الصادر في التركية في 2002، و2010 في العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ومركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، بترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل).
[الطريق الرومانية
ولا يخفى أثر المستشار السابق والوزير الحالي في خطابة رئيس الوزراء، وهو أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية المنشقين عن حزب الرفاه وزعيمه نجم الدين أربكان “الإسلامي المتشدد”، وفي عباراته وصوره، عدا أثره في سياسته وأفكاره. ففي بلدة الكواشرة وقف أردوغان خطيباً. وذكر بالإجراء الإداري الذي ألغى العام الماضي التأشيرات على المسافرين وجوازاتهم. وأشار بالإجراء إشادة غنائية وعاطفية: “وبهذا أنهى الشعبان قرناً من الهجران، وتعانقا بعد فراق”. وهو لم يقل ان “الدولتين” ألغتا الحاجز الإجرائي والإداري والأمني الذي تقضي به سياسات وأحوال غالبة عموماً على علاقات الدول بعضها ببعض. فنسب الإجراء إلى الشعبين، إمعاناً في الحرارة والتقريب. وأرخ لما سماه “هجراناً”، مستعيراً مصطلح غناء أم كلثوم الغرامي وشاعرها أحمد رامي، بانهيار السلطنة العثمانية، وجلائها عن ولاية بيروت والأقضية الأربعة والجبل (بعد إلغاء المتصرفية في 1916) في 1918- 1919. فـ “الفراق” و “الهجران”، غداة خروج الولايات السابقة من سيادة اسطنبول إلى انتداب أوروبي وكيانات وطنية أو أهلية فاستقلال في إطار دول وطنية، يكني بهما رئيس الوزراء التركي عن تاريخ (قرابة) القرن المنصرم منذ ختام الحرب الأولى. ونحوُ القرن هذا هو تاريخنا اللبناني الماثل والمشترك والزاهر والمضطرب معاً.
وهو سند الأولوية (“أولاً”) المرجوة والمزمعة. و “الغازي”، على ما سماه أنصاره ومستقبلوه فجراً في مطار أنقرة وهو عائد من دافوس مغضباً وتاركاً شمعون بيريس من غير محاور ولا مُطارِح، على علم بهذه الحال. فهو قال بصيدا (في 25 تشرين الثاني): “يجب ان نسير معاً إلى المستقبل على قاعدة أساسها (اللبنانية)”. ورهن سطوع “نجم” لبنان في المنطقة، بحسب استعارته الأثيرة في رحلته، بالنجاح في إرساء القاعدة هذه. فـ “اللبنانية” هي علاج “الألوان” الكثيرة، و “المذاهب والأديان على مر التاريخ”، التي زخر بها لبنان ويزخر. وهي جامع الأشتات والشتيت (“شتى”)، على نحو ما جمعت مائدة رئيس الوزراء اللبناني في السراي الكبير، العثماني التحدر على ما لم يفت أردوغان التنبيه، ممثلي 12 مذهباً دينياً، إلى وزير واحد و6 أعيان سياسيين. والوجه الآخر للفراق والهجران المزعومين هو “التحدث اللغة نفسها (…) لأن قلوبنا موحدة والأحاسيس متلاحمة فيما بيننا (…) وقيمنا آتية من الحضارة نفسها، وانصهرنا في البوتقة نفسها حتى وصلنا إلى هذه المرحلة”، (من خطبة صيدا).
وعلى هذا، فـ “قاعدة اللبنانية” و”أساسها” الواحد والجامع، وهما قاعدة وأساس سياسيان، لا ينفيان “الحضارة” الواحدة، أو “عامل الثقافة”، على ما يسمي أحمد داود أوغلو الرابطة القومية التركية والإسلامية معاً بين المركز التركي وبين الأطراف البلقانية والقوقازية والشرق أوسطية. ويجهر أردوغان، ووزيره، إرادة تخطي ضدية الوطنية (اللبنانية) و “الحضارة”، أو تباينهما، من طريق اللجنة الاستراتيجية العليا للتعاون والتنسيق، تارة، ومجلس التعاون العالي المستوى، تارة ثانية، والقمة الرباعية بين رؤساء الوزراء في تركيا وسوريا والأردن ولبنان قريباً، ثم القمة الرباعية بين رؤساء الجمهورية (والعاهل الأردني) في أيار 2011. وينتقل الزائر التركي، على خلاف سلفه الزائر الإيراني قبل أسبوعين، من حرارة “الأحاسيس” و “القيم” و “اللغة” إلى حرارة المصالح التجارية والاستثمارية والسياحية والنقلية بيسر قد يرى فيه قارئ “العمق الاستراتيجي” بعض روح الأستاذ أوغلو. فشفاء الفراق والهجران المتخلفين عن نشوء الدول الوطنية، وخروجها من عباءة السلطنة، فالخلافة السلطنة العثمانيتين، ليس “العناق” المفضية شدته أو كثرته إلى الاختناق، على قول طيب ومتفائل لرئيس الوزراء الراحل صائب سلام في عز الحروب الملبننة، أو ليس العناق وحده، على ما يريد بعض الجوار العربي أو الإسلامي الظن، وقد يظن فعلاً. وإنما يأتي الشفاء أو العلاج من جمع الغنائية الاستراتيجية، التجارية والمالية والنقلية، إلى الغنائية القيمية والحضارية والثقافية التاريخية.
فبعد ان زف الوزير التركي “الأول” بشرى هجر الهجران، وفراق الفراق، أراد التمثيل على روعة الحصاد والجنى، فقال: “واليوم يستطيع الراكب (المسافر) أن يخرج من اسطنبول ماراً بأنقرة، ومنها إلى أضنة. وبدخوله الأراضي السورية يمر باللاذقية بيسر، ومنها يبلغ طرابلس، ثم بيروت. كل هذا في طمأنينة وهدوء وراحة بال”. ويغالب الخطيب ترك متعة الرحلة الهانئة والسعيدة وراءه، والانتقال إلى ذكرى صبرا وشاتيلا الأليمة، وتناول سياسة تركيا في المسألة الفلسطينية الإسرائيلية، فيصف الرحلة نفسها على الوجهة والخط المقابلين: “واليوم ايضاً يستطيع الأخوة من بيروت وصيدا وبعلبك ان يخرجوا من لبنان إلى الأراضي التركية، ويمروا بالمدن التركية من أضنة وأنقرة واسطنبول بكل راحة”. ويمدح رجل الدولة (-الأمة؟) التركي سلام السلطنة، وأمن طرقها، واتصال هذه الطرق على مثال “الطريق الرومانية” الامبراطورية المسكونية (في إطار الأرض المسكونة أو المعمورة) والجامعة.
فالجغرافيا، جغرافيا المواصلات، سياسية، والجغرافيا السياسية استراتيجية، وبعضها تخالطه الحرب على أصنافها المريرة كلها، والسيطرة والإكراه. والمسالك أو الطرق، هي صنو الممالك، أو السلطنات، في وسم كتاب ابن خرداذبة، البلداني الجغرافي، وغيره من البلدانيين الجغرافيين المصنفين كتبهم بالعربية وصنوهم في الحال والواقع. وغير بعيد من منبر رجب طيب أردوغان كان أرمن لبنانيون، وأكراد لبنانيون، وبعض اليونانيين المقيمين بلبنان، يذكرون الزائر، ووزير خارجيته، بأن “الطمأنينة والهدوء وراحة البال”، والرحلة المتصلة من غير تأشيرة، قد تشترط مراجعة الوجه التاريخي والسياسي من العمق الاستراتيجي، من غير افتئات على سياسات تحتسب العمق هذا ولا تنكره. ولكنها تنكر على “عمق” الممالك السلطاني والإمبراطوري منزعه إلى الافتئات المعنوي والمادي على تواريخ الجماعات المغلوبة، وعلى حقوقها وأركان دوامها.
[“شراء” الحرب بالاقتصاد
والحق أن حمل الزيارة اللبنانية على فكرة تعزى إلى أحمد داود أوغلو ليس ثمرة رجم في الغيب (الماضي)، أو تكهن في حاضر ماثل بعد مثوله وغداة مثوله. ففي أحد فصول كتابه البارزة، وقد يكون أبرزها، وهو الفصل الثاني الموسوم بـ “المناطق البرية القريبة: البلقان والشرق الأوسط والقوقاز” من الجزء الثاني الموسوم بـ “الإطار النظري: الاستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية”، والكتاب نشر في 2002 على ما ينبغي التذكر وهو عام بلوغ حزب التنمية والعدالة الحكم، يذهب “الأستاذ” الجامعي إلى ان تطوير المواصلات، وتعظيم التجارة الحدودية وبرامج التبادل الثقافي، وتيسير انتقال القوى العاملة والاستثمارات، جديرة بـ “تجاوز” المشكلات التي قد تسببها بعض النخب المركزية (أو المتصدرة والغالبة الكاتب) في الأنظمة البيروقراطية الإقليمية”، على قول صاحبنا مكنياً عن الديكتاتوريات القومية العسكرية والمستولية، وعن توسلها بالأكراد وقضيتهم في الحرب على تركيا. ويمثِّل من لم يكن وزيراً بعد، ولا مستشاراً نافذاً ومقرباً ممن لم يكن بعد رئيس وزراء، يمثل على مقالته فيقترح إنشاء “بنية” أو هيكل اقتصادي تجاري وجمركي وضريبي، سوقي وقانوني إداري، ينجم عنه “تكامل شمال سورية، ومدينة حلب حاضرته”، أو مركزه، مع الخطط والأعمال الزراعية بجنوب الأناضول والمنشآت الصناعية بعينتاب ومرعش.
ولا ريب في ان القارئ لا يزال يذكر “الاحتفال” السياسي والاقتصادي الكبير الذي دعا إليه رئيس الجمهورية التركي عبدالله غول (أو غل)، في أواخر صيف 2009، وأقامه بحلب وفي صحبته 11 وزيراً تركياً وقعوا مع الرئيس السوري ووزرائه عشرات الاتفاقات والبروتوكولات. وكان المهرجان تتويجاً لاختبار تعاون البلدين الجارين طوال السنتين السابقتين، 2007 2009. وبلغت تجارتهما في الأثناء ملياري دولار، أو حوإلى 8 أضعاف إلى 10 أضعاف قيمة مبادلاتهما في العام السابق. ويرسي مدرس الاستراتيجيات التركي مقترحه، قبل 5 أعوام من المبادرة إليه و7 أعوام من تتويجه وإجرائه، على إعمال وسائل النقل والتجارة الحدودية، وإنجاز “التكامل الإقليمي” وانتهاج “سياسات اقتصاد ليبرالية على الحدود (القائمة) بين سهول تركيا وسوريا”. ويتوقع المخطط، والمستشار فالوزير من بعد، ان يترتب على إنشاء قنوات المواصلات وطرقها بين حلب وبين عينتاب ومرعش الصناعيتين وجنوب الأناضول الزراعي والمائي، وعلى رحلة الناس والسلع في المجاري الواسعة، “القضاء على الإرهاب” (الكردي) بوسائل غير عسكرية. فهو يدعو إلى معالجة مسألة استراتيجية، جغرافية سياسية، ناجمة عن اضطراب المسالك (الأراضي الإقليمية) وعلاقتها بالممالك (الكيانات السياسية الوطنية)، بطبابة مسالمة وناعمة “تشتري” التخلي الإقليمي البيروقراطي عن مساندة الأعمال الحربية والمسلحة، الكردية في هذه الحال، لقاء تعظيم المواصلات والمبادرات والعوائد والاستثمارات.
ويمهد الأستاذ لعلاجه الموضعي وهو ينصبه مثالاً لمعالجات تشبهه وتتناول العراق وإيران وآسيا الوسطى والقوقاز وأحواض إيجه والبحر الأسود وقزوين والخليج والمتوسط بمناقشة موضعية ومفصلة بعض الشيء لعوامل المشكلة القريبة. فيلاحظ (أو يقرر) انه ليس في مستطاع تركيا إرساء علاقاتها بجيرانها الذين هم منها بمنزلة الجسور البرية إلى الجوار الحيوي، الذي يأهله إما أتراك (في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى) وإما مسلمون (في الشرق الأوسط القريب وشبه جزيرة العرب)، على ركن مستقر وثابت إذا تواترت الأزمات بينها وبين الجوار القريب والأبعد. فيستحيل على تركيا الاضطلاع بسياسة فاعلة ومؤثرة في صوغ حلول للقضايا العالقة وهذا هدف تسعى فيه استراتيجية عقلانية على خلاف سياسة “بيروقراطية” غايتها الأولى إبقاء القضايا العالقة على تعليقها لعل هذا يرعى دوراً صغيراً ومزمناً في البلقان بينما المشكلات التركية اليونانية والمشكلات التركية البلغارية على تأزمها وترديها. واليونان وبلغاريا هما محورا العلاقات البلقانية، إلى صربيا الساعية في الاستقرار، والعروة بين البلقان وأوروبا في شطريها الجنوبي والشرقي. ولا يسهم تردي الأحوال بين تركيا وبين كل من أرمينيا وإيران وجورجيا في إصلاح ذات البين مع القوقاز وروسيا من ورائه. وتضر روابط تركية حميمة بإسرائيل بروابط تركيا بإيران وسوريا والعراق.
ولا ينكر المحلل التركي أن حبس العلاقات بالدول المجاورة في دائرة ما يسميه بصيغة غامضة (لعل السبب في غموضها هو الترجمة العربية التقريبية والمضطربة) “المراحل الطويلة والصعبة للأنظمة البيروقراطية” وهو ربما يعني التسويف والتعليق اللذين يغلبان على سياسة بعض هذه الدول و “ديبلوماسيتها” الأمنية والمراوغة هذا الحبس يقتضي إخراجها من الإطار السياسي، أي الأمني والعسكري، إلى أفق أوسع تتضافر على رسمه واستقراره العوامل الاقتصادية والثقافية (على معنى “الحضارية” أو الدينية الذي مر) والاجتماعية، أو علاقات المجتمعات والشعوب بعضها ببعض. ويندد أحمد داود اوغلو بنازع تركي، في بعض الأوقات، تفتق في أواخر القرن الماضي عن اقتراح إنشاء جدار إلكتروني يحجز جنوب تركيا عن سوريا “للوقاية من إرهاب حزب العمال الكردستاني”. ويقود توقي إرهاب “الكردستاني” وبؤرته السورية يومذاك، ومدافعة امتداد الحرب الأهلية في العراق إلى الأراضي التركية وإلى الأتراك على تفرق أقوامهم، والاحتماء من الدعوة الإيرانية ومفاعيلها الإيديولوجية التحريضية، تقود هذه مجتمعة إلى انكفاء تركيا على حياضها و “بيضتها”، وإلى نزف مواردها وضعفها.
والعلاج، على ما مر، هو ازدواج السياسة، وطبابة الشق الأمني والعسكري السياسي بالشق الاقتصادي و “الثقافي” والمجتمعي أو “الشعبي”. و “عقلانية” الطبابة أو المعالجة هذه تفترض علو منزلة العوامل الاقتصادية والثقافية، ورجحانها في ميزان الجيران وميزان البلد والدول الأبعد. أي ان هذا يفترض القبول على وجه من الوجوه بنهج قريب من “نهاية التاريخ”، في شقه الاقتصادي والرأسمالي الليبرالي ومن دون شقه السياسي الديموقراطي، على ما يفعل أوغلو متحفظاً ومندداً بفرنسيس فوكوياما (“صاحب” الفكرة ومحدثها، ويؤوِّل أوغلو فوكوياما في ضوء أواخر التسعينات وربما ما بعدها، أي 11/9/2001). ويفترض من وجه آخر قد يبدو على نقيض الوجه الأول، الاستدلال بصمويل هينتينـ(غـ)تون، وتقديمه كفة العوامل الثقافية والحضارية على كفة العوامل “العقلانية”، الاقتصادية والتقنية والعسكرية والأخلاقية، في ميزان العلاقات والمنازعات الدولية. ولا ينكر أوغلو إيجاب الأستاذ الأميركي الراحل ثقلَ العوامل الثقافية والحضارية والتعويل على هذا الثقل، ورئيس حكومته توجه اولاً إلى تركمان عكار اللبنانيين وتركمان إربيل وجوارها مكانتهم متصدرة، ولكنه يعرف حق المعرفة ان عامل التقريب والربط هذا ينقلب عامل تبعيد و “هجران” حال عرضه على “الألوان” (اردوغان، أعلاه) القومية والمذهبية والوطنية والبلدانية التي تتحدر من الأبنية السلطانية والامبراطورية، على وجهيها: وجه السيطرة ووجه التبعية.
والتمثيل على جدوى العلاج المقترح بـ “الصفقة” التركية السورية، وهو تمثيل متأخر زمناً عن صدور “العمق الاستراتيجي”، مشكل. ولا تبدو “الصفقة” مصدقاً لنهج “شراء” العداوة الأمنية والعسكرية “البيروقراطية” بالتجارة والمواصلات والكهرباء والأسواق الزراعية (قبل أنابيب النفط والغاز وشبكاتهما وربط البحور والأحواض)، إلا إذا أُغفلت الوقائع التي يتعمد الأستاذ الجامعي إغفالها. فالجدار المكهرب على طول 800 كلم بين تركيا والجارة العربية الجنوبية إنما كان مدار مناقشة قبل 1998. ففي السنة هذه، طُرد عبدالله أوجلان من ملاذه خشية قتله فيه، بعد ان تسللت الاستخبارات التركية إلى جوار الملاذ. وتعقبته الاستخبارات الإسرائيلية في أوروبا، قبل ان يلوذ بكينيا، وقادت الحليف التركي إلى الملجأ الافريقي. ووسع سند أوجلان “البيروقراطي” الأمني إباحة مواقع في سهل البقاع اللبناني، في كنف “السيادة” الوطنية والدولية وحمايتها. وكان العراق في لجة حربه الطاحنة مع (وعلى) إيران الخمينية، على جبهته الشرقية المديدة (1200كلم) التي اضطرته إلى إخلاء جبهته الشمالية وزاويتها الغربية، على شطريها المتصلين: التركي والسوري المناوئ. فـ “عالج” صدام حسين الخلل الفادح بالسلاح الكيماوي وبتسييب الشمال والغرب على مصاريعهما في وجه قوى الهلال المزركش، الإيراني التركي- الكردي السوري.
وفي السنة العتيدة، 1998، أرجفت القوات المدرعة التركية على الجارة العربية الجنوبية، وحشدت 60 ألف جندي من أضخم جيش “أطلسي” على مرأى من الجارة ومسمع منها. وكانت السنة “الميمونة” على تركيا، فاتحة حبس مياه دجلة والفرات في سدود مشروع “الغاب” الأناضولي عن العراق وسوريا معاً، والتقتير المحسوب في صرفها. وفي ختام السنة، وقع البلدان اتفاق أضنة، أو تفاهم أضنة. وتولى المفاوضة ضباط استخبارات. وبطرفة عين هدأت الحملة “الجيوبوليتيكة” العارمة والصاخبة على فكي “الكماشة”، التركي والإسرائيلي، المطبقة على سوريا، في الصحافة “اللبنانية”. وخرج البلدان، والعروبي على وجه الخصوص، ناضجين ومؤهلين لمقايضة السياسة الأمنية باللوحة الفوكويامية الزاهية التي رسمها أحمد داود أوغلو، غداة أربع سنوات على 1998 وأوجلان والحشد العسكري وإعمال السدود الأناضولية واتفاق أضنة، توفي في أثنائها مؤسس “النظام” وحاكمه الأول. ولزم إنهاء بروتوكول تعاون 2007 خمس سنوات من المفاوضة والاختبار والتجريب والتخمين (“المراحل الطويلة والصعبة للأنظمة البيروقراطية”؟) وتقليب الأيدي والراحات وضرب الأخماس بالأسداس.
[التجمير
وعلى هذا، يجمع رأي الوزير المفوض، وهو رأي عملي، الصدق في وصف النتيجة وتوقعها إلى التكتم والتستر على سيرورة إنتاجها وبلوغها. وقد يكون الوجه الثاني من لوازم الديبلوماسية، ليس مزاولة وممارسة وحسب وإنما إعداداً كذلك. فلا يستقيم ان يتفاخر من كان، مذ ذاك على الأرجح، مستشاراً على نحو من الأنحاء بإعمال الطاقم السياسي الخصم، والذي سبق طاقمَ أصحابه الموشك على الانتصار وتولي الحكم والسلطة تدريجاً، وسائل إقناع واحتجاج تخالف الوسائل التي دعا الوزير (لاحقاً) ويدعو إلى توسلها وإعمالها. وهي وسائل جنى أصحاب أوغلو ثمراتها من غير ان يضطروا إلى رعاية “نضجها” بالوسائل غير المحببة التي عمل عليها طاقم الخصوم، ومال إليها من غير شك.
ولكن إغفال صاحب “البعد الاستراتيجي” ما يغفِل لا يترتب على الرغبة في قطاف الثمرة من غير التعرض لشوكها ونسيان الشوك، وحسب. فهو يدرج خطته الموضعية في سياقة تاريخية مفصلة ودقيقة هي مرحلة أو حقبة ما بعد الحرب الباردة، وأثرها في موقع تركيا ودورها في دوائرها الجغرافية والاقتصادية والعسكرية. فهو يذهب إلى ان الحرب الباردة، ودوران منازعاتها على قطبين محوريين، “جمدت” أو جمرت النزاعات، وضبطتها على مصالح القطبين وألزمتها التخلي عن بواعثها ودواعيها الداخلية والصدوع بتقسيم مناطق النفوذ ودوائره بينهما، وإهمال العوامل “العميقة” الصادرة بحسب المدرِّس الكاتب عن هويات الجماعات وتواريخها ومحالها من تيارات التبادل العريضة والهجرات والفتوح. فالحرب الباردة، وهي الواقعة الاستراتيجية الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين و”علاج” بعض مخلفات النصف الأول من القرن نفسه وحربيه “العظيمتين” وأنظمته الكلِّيانية (الشمولية أو التوتاليتارية)، يرى إليها الباحث التركي والمسلم انحرافاً عن سوية الموازين الجغرافية السياسية ومعاييرها المقبولة و”الطبيعية”.
وهو يمثل على رأيه هذا بدوائر المصالح والعلاقات التركية، على نحو ما تبدت في مرآة التاريخ السلطاني العثماني (القرن الرابع عشر القرن العشرين) بل في مرآة الفتوح السلجوقية في القرن الحادي عشر (م)، في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. ويلاحظ ان الحرب الباردة سجنت الدور التركي، مسالكه وممالكه، في قفص الحلفين الكبيرين، الأطلسي ووارسو، وعزلته عن دوائره الأورآسيوية القريبة. فالقوقاز، على سبيل المثل، بتركمانه وأذرييه وشيشانه ومسلميه (من البلوش والشاش والصغد وغيرهم من الأقوام)، امتنع من استجابة نفوذ اسطنبول، وبالأحرى أنقرة، ولزِم أقوامهم، المتحاربون والمتآلفون على التوالي أو معاً وفي آن، حدود الكتلتين العظميين. وانقطع بعضها من بعض، وأدار بعضها الظهر على بعضها الآخر، وكأن الأقوام هذه أو هؤلاء، لم تعرف جواراً من قبل، ولم تسافر قوافلها على طرق الجيران، ولم ترع قطعانها في مراعيهم، ولم تحارب في ميادينهم منذ “فجر” التاريخ. والسلم البارد هذا جمَّد النزاعات والمبادلات معاً. فلما طوى تصدع السلطان السوفياتي القسمة الباردة، أشعل الانهيار النزاعات والخلافات في القوقاز. ويعزو أوغلو اشتعالها إلى “تدخل القوى الدولية الكبرى”، ويحصي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان. ويهمل موسكو وبكين وطهران، والقيادات الشيوعية البيروقراطية المحلية، والحركات الإسلامية الناشئة والمتجددة التي أبصرت هيلين كارير دونكوس أعراض انبعاثها وتململها في منتصف السبعينات. ويهمل شبكات المافيا والتجارة غير المشروعة بالمخدرات والنفط والسلاح والفيزياء النووية وعصابات صغار أسياد الحرب المختلفة عن الأنقاض السوفياتية وقاعها الصفصف.
فالتزاحم على الموارد الجوفية الاستراتيجية، وعلى استثمارها ونقلها ورعاية أمن نقلها وتوزيعها وأسعار، “أحيا” النزاعات القومية (الإثنية)، وحرّك المطامع والمصالح والثارات والضغائن معاً. فـ “التأثير المتبادل”، على ما يسميه أوغلو، لا يينع وتتفتح أكمامه، بحسب الاستعارة الصينية أو الماوية القديمة، من غير احتدام الخلافات. والمواصلات والأسواق لا تعصمها رأسماليتها الليبرالية من إنشاب الأظفار والأنياب والسلاح والأعمال الأمنية والتهويل. فلا يستقيم إنكار التجمير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي رعته الحرب الباردة، ونعي تقطيعها أوصال الدوائر والشبكات الجغرافية والأهلية والدينية السابقة، والطعن في تدخل القوى الأجنبية والرأسمالية القوية، ومديح “التأثير المتبادل”، معاً وفي آن. فالكاتب الاستراتيجي يأسى لـ “خسائر” تركيا في أذربيجان، واحتلال القوات الأرمينية خمس الأراضي الأذرية، ولانفجار يوغوسلافيا السابقة وما ألحقه بالقوميين المسلمين والألبانيين في البوسنة الهرسك وكوسوفو (ومقدونيا على قدر أقل). وهذا مفهوم ومعقول. ولكن مثار أساه ليس ما نزل في أهل هذه البلدان وإنما عجز الدولة التركية عن الحؤول دون “خسائرها” الفادحة. وهو يعزوها، ضمناً، إلى قيود الحرب الباردة، وحلف الأطلسي، على القوات التركية، تسليحاً وقراراً. فيندد بافتقار القوات التركية إلى سلاح جو يسعه بلوغ الأجواء الصربية، ونجدة البوسنيين المسلمين وألبان كوسوفو من غير انتظار حرب الأطلسي على الصرب في 1999. ويلمح إلى ان القيد الأطلسي، و “البارد”، هو السبب في افتقار سلاح الجو التركي إلى آلات الردع المرجوة. وهذا أقرب إلى روايات الخيال العلمي الارتجاعية والارتكاسية منه إلى الموازنة السياسية.
[الازدواج
ولا يخفى الكاتب المدرِّس أن آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان والشرق الأوسط هي مناطق اختلاط قومي و “ثقافي” حضاري وعصبي عز نظيره في مناطق ودوائر أخرى من “الكتل” العالمية. وهي موطن امبراطوريات وسلطنات وممالك “فيديرالية” و”كونفيديرالية” (ائتلافية) فوق ما هي موطن بنى سياسية متماسكة ومركزية. وقلما شهدت أو عرفت هذه الدوائر أبنية سياسية أو دولاً (-أمماً) تجمع الحدود المستقرة إلى القوم أو الشعب المتجانس. ويحمِّل أوغلو أوزار التفاوت أو التنافر إلى التقطيع الاستعماري، الذي أصاب تركيا أي السلطنة العثمانية، منه البلايا. ويوكل إلى “الثقافة السياسية” الاستراتيجية المرجوة التي يرجوها هو، وإلى التأهيل الديبلوماسي المناسب، مهمة تعويض آثار التقطيع الاستعماري. ولا يشك في ان حقبة ما بعد الحرب الباردة، و “السيولة” التي تتيحها، باب بل بوابة عريضة على لمِّ شمل ما قطعته الحدود الاستعمارية، ورعت الحرب الباردة تحجيره وتثبيته. وينم هذا برأي مزدوج ومتدافع في “الغرب”، على شاكلة الرأي الصيني الرسمي اليوم. فهو، على هذه الشاكلة، يريد الثأر لتركيا العثمانية وتمزيقها في حروب البلقان والحرب العالمية الأولى، ثم في معاهدة سيفر طبعاً والحروب والحرب والمعاهدة هي في مثابة حرب الأفيون ومنزلتها في الرواية التاريخية الصينية-. ولكنه ينتظر من “الغرب” نفسه موارد الثأر المرتقب والمأمول. فلولا تدخل القوى الغربية والآسيوية في القوقاز وآسيا الوسطى، وفك الطوق السوفياتي و “الاشتراكي” عن بلدانهما، و “رميها” في حلبة الأسواق، لما وسع أهل السياسة والتدبير والتجارة والصناعة والمال والإيمان بأنقرة، أو غيرها من العواصم القريبة أو البعيدة، تخيل خرائط المواصلات والأنابيب والبحور والمصارف والبورصات التي تنتشي بها الرؤوس والقلوب والجيوب منذ اليوم. وخطر عَرَض حرب الأفيون، أو عرض معاهدة سيفر، أو “سايكس – بيكو”، هو صرف الساسة والنخب والجمهور عن الاضطلاع بمسؤولياتهم عن تواريخهم وحوادثها ومآسيها ونهضاتها.
ولعل رأي احمد داود أوغلو في ألمانيا، الفريديريكية (نسبة إلى فريدريك الثاني في الثلث الثاني من القرن الثامن عشر) والبسماركية والهتلرية والجمهور غداة الحرب، مرآة التنازع العميق الذي يتعاور “استراتيجيته” المقترحة. فهو يحجم عن تقويم السمة الامبراطورية التي وسمت التاريخ الألماني، ودعت معظم الألمان إلى افتراض دور خاص لألمانيا، وطريق خاصة إلى الدور العظيم، على حدة من الدول الأمم والشعوب الأوروبية “الجمهورية” والعامية المبتذلة. ويحجم عن تسميتها باسمها السياسي والتاريخي. فإذا انتهى إلى تناول ازدواج السياسة المقترحة (على تركيا)، ونجاعة انتهاج سياستين متوازيتين: واحدة تقضي بمعالجة مسائل الأمن في إطار إقليمي وثانية تشتري الأمن والجوار المسالمين بمنافع اقتصادية و “ثقافية” متبادلة، انتخب ألمانيا، ألمانيا بون الأطلسية والأوروبية والفيديرالية قبل ألمانيا الموحدة، مثالاً. فذكّر بحروبها بوسط أوروبا وشرقها (وأغفل الجبهات الغربية الفرنسية والبلجيكية، والبريطانية، في الحربين الأولى والثانية)، وبـ “الأرضية النفسية السلبية” التي خلفتها هذه الحروب في العلاقات الألمانية الأوروبية. ونوه بانتهاجها “السكتين”: الأمنية والاقتصادية. وخلص إلى مديح “النتائج العظيمة” التي جنتها ألمانيا، وقدم عليها جميعاً “المارك الألماني كأداة سيطرة جديدة على الدول التي كانت دخلتها الدبابات الألمانية…”.
ولا تتستر الرواية الداودية الأوغلوية الساذجة والكاشفة بعض الشيء على النازع الغازي والفاتح الذي يتقنّع بقناع العمق الاستراتيجي وإذابة المسائل الأمنية والشائكة في حامض الاقتصاد الليبرالي والمصالح المتبادلة. فهذا لا يخفى على القارئ، على نحو ما لا تخفى عليه دلالة الكنايات “الثقافية” و”الحضارية” والاقتصادية نفسها، وما تبطنه من موازين قوى، وبعث أمجاد، وتصوير وقائع وحوادث مريرة وفظيعة بصور زاهية. ولكن الأقنعة هذه تسفر عن إنكار حاد للعوامل السياسية الديموقراطية ودورها في الانعطافات الاستراتيجية. فألمانيا حقبة بعد الحرب لم تقتصر على صك المارك، قبل “التضحية” به في اليورو، ولقاء احتمال أوروبا شطراً ثقيلاً من أكلاف توحيد ألمانيا ومساواة المارك الشرقي بالمارك الفيديرالي، ولقاء دمج ألمانيا، داخل حدود ثابتة لا تمس مع جيرانها، في أوروبا فيديرالية. فألمانية الفيديرالية صرفت طاقتها ومواردها إلى بناء ديموقراطية دستورية واتحادية لا امتياز فيها، ولا خصوصية ولا “رسالة” إلى الإنسانية، ولا قانون يعلو قانون محكمة كارلسروه والمحكمة العليا الأوروبية. وهي صنعت هذا في إطار أطلسي، شأن إطار تركيا. وانتهت إلى الإقرار بأن 8 أيار 1945، يوم استسلام الرايخ الهتلري، هو يوم تحريرها وليس يوم انتصار الحلفاء وحسب. وإذا كان عَرَض معاهدات فرساي هو قرين عرض معاهدة سيفر، وبمنزلته، فألمانيا دخلت أوروبا الفيديرالية بعد ان قبلت النزول عن 16 في المئة من أراضيها “التاريخية”، البسماركية. وهذه كانت “ألمانيا الصغيرة”، على ما نعى عليها آباء “نخب” الرايخ الثالث. والحق ان “عمق” وزير الخارجية التركي “الاستراتيجي” تخالطه أضغاث “عروبية تطفو حيناً وتختفي حيناً. وحين تزعم بعض برقيات “ويكيليكس” ان ديبلوماسياً أميركياً وصف وزير خارجية رجب طيب أردوغان بـ “الخطير” فلعلها تبالغ قليلاً.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى