الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

“ويكيليكس”: تقرير السفير الأميركي في أنقره

الوزير داود أوغلو يعتبر معظم الأنظمة في الشرق الأوسط
غير ديموقراطية وغير شرعية – السفير جيمس جيفري
مقّدمة/ تعليق
1. (سرّي) يكثر الكلام في السفارات وفي الإعلام الدولي هذه الأيام عن السياسة الخارجية الجديدة والناشطة جداً التي تنتهجها تركيا، والتي تمثّل بلا شك انتقالاً ليس فقط من مرحلة الحكومات السابقة إنما أيضاً من نظام “حزب العدالة والتنمية” قبل أحداث غزة/دافوس، وقبل صعود أحمد داود أوغلو في موقع وزير الخارجية في نيسان. بعض التعليقات متفائلة، بيد أن تعليقات أخرى، بما في ذلك تلك الصادرة عن عدد كبير من الخبراء والمحرّرين في الولايات المتحدة، عبّرت عن مخاوف. تقف خلف السياسة الخارجية الجديدة لـ”حزب العدالة والتنمية” الحاكم رغبةٌ في أن يكون الحزب ناشطاً بطريقة أكثر استقلالاً، وكذلك توجّهٌ أكثر إسلامية. بصراحة، تحرّك مصلحة وطنية عقلانية، ولا سيما الفرص التجارية واعتبارات الاستقرار، النزعة التركية الجديدة أيضاً. تشمل التحدّيات الكبرى المطروحة أمامنا في الأشهر المقبلة، اتّجاه العلاقات التركية-الإسرائيلية، ومصير البروتوكولات مع أرمينيا، والموقف التركي حيال إيران.
2. (سري) هل يعني هذا كله أن البلاد تصبح أكثر تركيزاً على العالم الإسلامي وتقليده المسلم في سياستها الخارجية؟ بالتأكيد. هل يعني أنها “تتخلّى” أو تريد أن تتخلّى عن توجّهها الغربي التقليدي واستعدادها للتعاون معنا؟ بالتأكيد لا. في نهاية المطاف، سيكون علينا أن نعيش مع تركيا التي يقف شعبها خلف الجزء الأكبر مما نشهده. يستدعي ذلك مقاربة مستندة إلى كل مسألة على حدة، وإدراكاً بأن تركيا سوف تسلك في معظم الأحيان مسارها الخاص. في مختلف الأحوال، عاجلاً أم آجلاً، لن نعود مضطرّين إلى التعامل مع المجموعة الحالية من القادة السياسيين، مع توقهم الخاص إلى الدراما المدمِّرة و-البلاغة الخطابية. لكنّنا لا نرى في الأفق مَن هم أفضل منهم، وسوف تبقى تركيا مزيجاً معقَّداً من المؤسسات والكفاءات والتوجّهات “الغربية” العالمية الطراز والثقافة والدين الشرق أوسطيين. (نهاية المقدمة)

مكوّنات السياسة “الطابع الغربي التقليدي”
3. (سري) السياسة التركية الحالية هي مزيج من التوجّه والمواقف والمصالح “الغربية التقليدية”، وعنصرَين جديدين مرتبطَين بفلسفتَين عملانيتين جديدتين: “صفر نزاعات” و”النيو-عثمانية”. لا يزال التوجّه الغربي التقليدي يشكّل جوهر السياسة الخارجية التركية، ويتمحور حور التعاون والاندماج مع الغرب. ويقع في صلبه حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والوحدة الجمركية مع الاتحاد الأوروبي، والأهم من ذلك، مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بدأ هذا كله مع المجهود العثماني الذي هدف إلى التمثّل بالقوى الأوروبية العظمى، ومنحه أتاتورك اندفاعة قوية نحو الأمام. بيد أن البلاد وقفت على الهامش في الحرب العالمية الثانية. و”تركيا التي نعرفها” ليست سوى وليدة التهديد الذي جسّده الاتحاد السوفياتي وسيطرة الولايات المتحدة (ونفوذها الممتدّ)، وتركيا هذه هي شريكة صلبة في القتال في كوريا، وحليفة أساسية في الناتو، ومرساة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولا يزال جزء كبير من هذه الأدوار مستمراً.
4. (سري) أوروبا هي إلى حد بعيد الشريك الاقتصادي الأهم لتركيا في مجالَي الاستثمار والتجارة. يمثّل الاتحاد الأوروبي 42 في المئة من إجمالي التجارة التركية، في حين أنّ حصة الولايات المتحدة هي أقل من خمسة في المئة. صحيح أن الولايات المتحدة أقل أهمية بكثير في الإحصاءات التجارية، إلا أنها تبقى مهمة في قطاعات عدة (مثل الطاقة والطيران والجيش)، وبطرق متعدّدة. الناتو أساسي بالنسبة إلى تركيا ويحظى باحترام كبير من جانبها (ملاحظة: اعتبار ثلث الأتراك “فقط” في أحد استطلاعات الرأي أن الناتو مهم لأمن تركيا هو في الواقع نقطة إيجابية؛ ففي مختلف الاستطلاعات، يدلي الأتراك عادة بآراء سلبية في غالبيتها الساحقة حول أي تدخّل خارجي أو علاقة مع الخارج. لكن يجب ألا نكون متفائلين جداً في هذا المجال، لأن الدعم للناتو انخفض إلى النصف خلال العقد المنصرم). تُسلِّح الولايات المتحدة الجيش، وتدرك تركيا أنه لا يمكن إطفاء الحرائق الكثيرة في فنائها الخلفي – من العراق إلى أفغانستان وباكستان – إلا من خلال التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة وقيادة الناتو والحصول على موافقتهما. أخيراً، حتى قادة “حزب العدالة والتنمية” يعرفون أن جزءاً كبيراً من جاذبيتهم في الشرق الأوسط وأماكن أخرى ينبع من مكانتهم المميَّزة في الأوساط الغربية الأساسية. قد يهتزّ هذا التوجّه التقليدي أو ينحسر، لكن تركيا لن تتخلّى عنه نظراً إلى أنّ النخب من مختلف النزعات الفلسفية تتبنّاه بقوّة، وكذلك بسبب فوائده الملموسة الكثيرة.

“صفر مشكلات مع جيران تركيا”
5. (سري) لكن تركيا هذه تحاول أن تسلك طريق ما بعد الحداثة. ومن المجالات الأساسية التي يتركّز عليها المجهود الذي يبذله “حزب العدالة والتنمية” تسوية المشكلات مع “الخارج القريب” المباشر لتركيا. يتناقض هذا المسعى مع السياسة التركية “التقليدية” التي تقوم على ترك هذه النزاعات المتجمِّدة تعتمل، ويتماشى أكثر بكثير مع المصالح الأميركية والأوروبية. لائحة المبادرات التركية في ظل “حزب العدالة والتنمية” مثيرة للإعجاب: قبول خطة أنان عام 2004 لتسوية مسألة قبرص، مواصلة التقارب مع اليونان الذي بدأ عام 1999، الانفتاح على أرمينيا الذي تُوِّج بتوقيع بروتوكولات تطبيع العلاقات، علاقات جيّدة ومثمرة مع بغداد وإربيل (وقد استُكمِلت العلاقات مع إربيل بإجراء إصلاحات مهمة في علاقات تركيا مع سكّانها الأكراد). والإنجاز الأبرز في هذه السياسة هو خطب ود سوريا. ففي حين مهّد التجاوب السوري مع مطالب الحكومات التركية السابقة (التخلّي عن المطالبة بمحافظة هاتاي التركية، طرد أوج ألان) الطريق نحو دمشق، يشدّد الأتراك على أن التقرّب من سوريا غيّر قواعد اللعبة. فقد استخدموه، كما نعرض أدناه، لمعالجة عدد من المشكلات الإقليمية، من لبنان إلى إيران.
6. (سري) تستحق هذه المقاربة الجديدة الثناء، لكنّها تنطوي على شائبة. لم يتحقّق الكثير من الإنجازات العملية والنهائية. فقبرص لا تزال منقسمة (ولو كان اللوم يقع أكثر على القبارصة اليونانيين والاتحاد الأوروبي، على الأقل في ما يتعلّق بخطة أنان)؛ وتستمرّ التشنّجات مع اليونان في بحر ايجه؛ ولم يتم التصديق على البروتوكولات مع أرمينيا بسبب المخاوف التركية بشأن ناغورنو-كاراباخ؛ ويثير عدم الاستقرار في العراق وعدم استعداد حكومة إقليم كردستان لبذل مجهود أكبر في مواجهة “حزب العمال الكردستاني” أسئلة عن مدى استدامة السياسة البنّاءة التي تنتهجها تركيا في موضوع العراق؛ ولم يولّد التقارب مع سوريا ابتعاداً سورياً فعلياً عن إيران. صحيح أن تركيا تتعامل مع بعض الفاعلين الأصعب في العالم، وتواجه معارضة شديدة في الداخل ضد تقديم مزيد من التنازلات، لكن هذه المقاربة لم تثبت نفسها تماماً بعد.

“النيو عثمانية”
7. (سري) فكرة استخدام تركيا روابطها الثقافية والدينية في الشرق الأوسط لتحقيق المصالح التركية والاستقرار الإقليمي على السواء ليست جديدة بالنسبة إلى “حزب العدالة والتنمية”، لكنّه منحها أولوية أكبر بكثير لأسباب منها التوجّه الإسلامي لعدد كبير من شخصيات الحزب ولا سيما القياديين مثل أردوغان وغول وداود أوغلو. فضلاً عن ذلك، تُوجَّه اتهامات إلى “حزب العدالة والتنمية” بأنه يمارس “النيو-عثمانية” على خلفية عزفه المستمر على وتر قدرته الفريدة على فهم المنطقة، ومدّ يده إلى الشعوب متجاوِزاً رؤساء الحكومات المحافظة والموالية للولايات المتحدة. وقد تبنّى داود أوغلو هذا الاتهام بدلاً من إنكاره. فقد اختصر هذا الرجل الذي هو حفيد جندي عثماني حارب في غزة، فلسفته الخاصة وفلسفة “حزب العدالة والتنمية” في خطاب استثنائي في ساراييفو في أواخر عام 2009 (المرجع أ). فبحسب نظريته، كان البلقان والقوقاز والشرق الأوسط أفضل حالاً في ظل السيطرة أو التأثير العثماني؛ كان يسودها السلام والتقدّم. لكن ويا للأسف، يعيث الانقسام والحرب خراباً في المنطقة منذ انتهاء الحقبة العثمانية (كان أذكى من أن يحمّل القوى الإمبريالية الغربية صراحةً مسؤولية كل ذلك، لكنّه لمّح إلى الأمر). بيد أن تركيا عادت الآن، وهي جاهزة للقيادة – أو حتى التوحيد (داود أوغلو: “سوف نعيد إرساء هذا البلقان (العثماني)”).
8. (سري) ألقي هذا الخطاب في البلقان، لكن تأثيره الأكبر هو في الشرق الأوسط. نظرية داود أوغلو هي أن معظم الأنظمة هناك غير ديموقراطية وغير شرعية. تبني تركيا على ما يُحكى عن إعجاب شعوب الشرق الأوسط بنجاحها وقوّتها الاقتصاديَّين، وتنطلق من استعدادها للوقوف إلى جانب مصالح الشعوب، فتمدّ يدها إلى “الشارع العربي” متخطّيةً الأنظمة. وخير مثال على هذه النزعة انتقاد تركيا الشديد للإسرائيليين في موضوع غزة والذي تُوِّج بالطريقة المهينة التي تعامل بها أردوغان مع الرئيس بيريس في دافوس عام 2009. من أجل استثمار علاقتها بالشعوب، وتجربتها الديبلوماسية المفترضة وخبرتها العثمانية، ألقت تركيا بنفسها في حوالى ستة نزاعات في دور الوساطة. وقد اجادت اداء هذا الدور في حالة العراق، كما أشرنا آنفاً، كما أنّها نجحت إلى حد كبير في وساطتها في المحادثات السورية-الإسرائيلية قبل غزة. وحقّقت تركيا أيضاً بعض النجاح المحدود في الموضوع اللبناني وفي التقريب بين السعودية وسوريا. لكن كما نستعرض أدناه، تجلب هذه السياسة معها احتكاكات كبيرة، ليس معنا ومع الأوروبيين فقط، إنما أيضاً مع العديد من المستفيدين المفترَضين من العودة إلى السلطنة العثمانية. علاوةً على ذلك، لم تحقّق أي نجاح ملحوظ.

لماذا التغيير؟
9. (سري) تشرح عوامل عدّة التحوّلات التي نراها في السياسة الخارجية التركية، وتذهب أبعد من وجهات النظر الشخصية لقيادة “حزب العدالة والتنمية”:
– الأسلمة: كما يرد في المرجع “ب”، يزداد التديّن في تركيا في الأعوام الأخيرة، مثلما نشهد في العديد من المجتمعات الإسلامية الأخرى. يفيد “حزب العدالة والتنمية” من هذه الظاهرة ويحفّزها على السواء. بيد أن المعارضة الشديدة داخل تركيا للإصلاحات الداخلية “الإسلامية الطابع” (مثل غطاء الرأس) أحبطت “حزب العدالة والتنمية”، وتُقدِّم السياسة الخارجية الأكثر “إسلامية” أو “شرق أوسطية” بديلاً لاسترضاء قاعدة الحزب المتديّنة.
– النجاح: تروي تركيا، على الرغم من المشكلات التي تعاني منها، قصة نجاح في الأعوام الخمسين الماضية، فقد ارتقى اقتصادها إلى المرتبة السادسة عشرة في العالم من حيث الحجم، وأصبحت عضواً في مجموعة العشرين. ويضاف إلى هذا وضعها الأمني الاستثنائي مقارنةً بكل الدول الأخرى في المنطقة، ونظامها الديموقراطي، مما يحفّز اضطلاعها بدور قيادي أكثر نشاطاً – واستقلالاً – في الشؤون الإقليمية وحتى العالمية.
– الاقتصاد: أحد أسرار النجاح التركي هو النمو الذي تقوده التجارة والتكنولوجيا. ويعود الفضل في جزء كبير من هذا النمو إلى الوحدة الجمركية مع الاتحاد الأوروبي الذي يشكّل السوق الكبرى للصادرات التركية، وما ينجم عنها من استثمارات من جانب الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن نقل التكنولوجيا والمساعدات التعليمية من الولايات المتحدة والتي تتواصل منذ عقود. لكن مع تراجع الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي بسبب أزمة 2008-2009، تبحث تركيا عن أسواق جديدة، ولا سيما في العالم العربي الغني بالمواد الهيدروكربونية وإيران وروسيا والقوقاز/آسيا الوسطى. تملك تلك البلدان المال ولديها طلب قوي على الواردات، وتعتمد تركيا عليها للحصول على النفط والغاز. لكن هذه البلدان (إلى جانب الصين، وهي هدف آخر للصادرات التركية) تميل أكثر بكثير من الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية إلى الخلط بين السياسة والتجارة. وهكذا يُعتبَر الغرب مفروغاً منه إلى درجة معيّنة، وتُوجَّه الأولوية الاقتصادية نحو العلاقات مع الشرق الأوسط و”أوراسيا”.
– صعود المدنيين: أدّى نجاح أردوغان السياسي – إلى جانب عدد من الفضائح الشائنة التي أسفرت عن تحقيق علني – إلى تراجع كبير في دور هيئة الأركان العامة التركية في رسم السياسة الخارجية لتركيا. لا يزال الدعم التركي للناتو قوياً، لكنّه يفتقر الآن إلى عامل الاشتباه بروسيا الذي كانت تحرّكه غريزة هيئة الأركان العامة المتأثِّرة بالحرب الباردة.
– خيبة الأمل من الاتحاد الأوروبي: في الآونة الأخيرة، أصبح الرأي الشعبي والنخبوي في تركيا أكثر تشاؤماً بكثير بشأن آفاق العضوية في الاتحاد الأوروبي – أو حتى قيمتها. الأسباب معقَّدة، لكنّها تشمل تبدّل المزاج الأوروبي حيال الإسلام، وحلول ساركوزي وميركل غير المتحمّسَين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، مكان رئيس ومستشار كانا “مواليَين لتركيا” في فرنسا وألمانيا على التوالي، هذا إلى جانب الشعور الذي يسود في تركيا بالبعد عن أوروبا وغياب التعاطف معها.
– التقليل من شأن المرتكز الغربي: لفت مقال لجدعون راشمان في صحيفة “فايننشال تايمز” في 4 كانون الثاني، عن حق، إلى ميل “العمالقة اليافعين” – جنوب أفريقيا والبرازيل والهند وتركيا – إلى اعتماد سياسات ولهجة خطابية تنتمي إلى العالم الثالث فيما يحققون فائدة هائلة من التجارة المعولَمة والأمن الدولي اللذين صنعهما “الغرب” ويحافظ عليهما. وهذه سمة أكيدة لدى تركيا. فمع نهاية الحرب الباردة، والنجاح النسبي في المعركة مع “حزب العمال الكردستاني”، و”ترويض” سوريا والعراق و(على الأقل من وجهة نظر تركيا) إيران، تراجعت حاجة تركيا إلى الأمن الذي يوفّره الناتو والولايات المتحدة. لا يزال اعتمادها على التجارة والاستثمارات الغربية ونقل التكنولوجيا من الغرب والتبادل التربوي معه أساسياً، لكنّه يُعتبَر “سلعة مجانية” تستحقّها تركيا وليست مضطرّة إلى بذل مجهود للحصول عليها. تتطلّب علاقاتها مع أصدقائها الجدد المختلفين في الشمال والشرق والجنوب مجهوداً يساهم في تسهيله التقليل إلى حد ما من شأن المرتكز الغربي لتركيا.

مصادر استياء داود أوغلو
10. (سري) تثير مقاربة “حزب العدالة والتنمية” الجديدة للشؤون الدولية آراء متفاوتة داخل تركيا وخارجها. ليست هذه المقاربة عاملاً أساسياً في شعبية الحزب النسبية، لكن عناصر عدّة فيها (لسوء الحظ، تلك التي هي الأقل إرضاء لنا) تعجب الناخبين. يحظى انتقاد إسرائيل بعد غزة بشعبية طاغية، كما أن الموقف التركي الناعم نسبياً من إيران – هذا البلد الذي تراود أتراكاً كثرا شكوك حياله – ينفع على ما يبدو مع مجموعة محدودة إنما مهمّة لمصير أردوغان الانتخابي، وتتألّف من ناخبين مسلمين على صلة برئيس الوزراء السابق أربكان.
11. (سري) بيد أن كثراً في النخبة التركية ذات الاتجاه الغربي يعتبرون أن التواصل الإسلامي يستكمل ما يُحكى عن خطة لدى “حزب العدالة والتنمية” تهدف إلى أسلمة المجتمع التركي، ويتذمّرون بمرارة من خسارة بلادهم مرتكزاتها الغربية. يرى القوميون في تركيا، ولا سيما بتعبئة من “حزب الحركة القومية”، أن تنازلات “حزب العدالة والتنمية” في مسائل أرمينيا، وحكومة إقليم كردستان في شمال العراق، وقبرص، إلخ. هي خيانة لأتراك الدياسبورا (التركمان العراقيين، الأذريين، القبارصة الأتراك، إلخ.)، ويتّهمون “حزب العدالة والتنمية” بمحاولة استبدال مبدأ “القومية التركية” المنظِّم للجمهورية بـ”الأمة” الإسلامية الأوسع. ويشنّ “حزب الشعب الجمهوري”، وهو الحزب المعارض الأساسي، هجوماً غير فاعل نسبياً على السياسة الخارجية لـ”حزب العدالة والتنمية” مستخدماً مزيجاً من الخطاب القومي الشبيه بخطاب “حزب الحركة القومية” والانتقادات بـ”التخلّي عن الغرب”.
12. (سرّي) لكن الانتقاد الأشدّ لسياسة أردوغان الخارجية يصدر عن الاتحاد الأوروبي. يُستخدَم الغضب الأوروبي من “الاتجاه الجديد” لتركيا، إلى درجة معيّنة، عذراً تستعمله تركيا لتسجيل نقاط داخلية تصبّ في خانة العناصر المناهِضة للأجانب. لكن هناك مخاوف حقيقية في أوروبا، وقد عبّر عنها أمين عام الناتو، راسموسن، في نيسان الماضي. فقد أبدى الأوروبيون سخطهم من تقديم تركيا نفسها بأنها الصوت أو الضمير “الإسلامي” في الناتو، وبأنّها تتشاور مع الدول الشرق اوسطية قبل التكلّم مع حلفائها في الناتو. من شأن نقل هذا السلوك إلى الاتحاد الأوروبي الأقل تقبّلاً بعد للتنوّع أن يكون بمثابة كابوس. لا يستحضر توجّه أردوغان في السياسة الخارجية (والداخلية) صداماً بين المسيحية والإسلام وحسب، إنما أيضاً شبح اختلاط بين أوروبا والشرق الأوسط، وبين علمانية أوروبا والتديّن المشرقي.
يعتبر داود أوغلو وآخرون سواه أن “نجاح” تركيا كقوّة شرق أوسطية صاعدة يجعلها أكثر جاذبية للاتحاد الأوروبي – فهو يمنح أوروبا “سوقاً” جديدة للسياسة الخارجية من طريق تركيا. في حين يبدو البعض في أوروبا مهتمّين بهذه الفكرة، ومن المفارقات أن فرنسا المشكّكة في ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي هي جزء من هذا البعض، يبدو أنّها لا تحمل وزناً كبيراً في معظم العواصم الأوروبية، فما بالكم في نظر شعوب أوروبا.
13. (سري) أخيراً، لا ينظر كل العثمانيين السابقين بشغف إلى ماضيهم في ظل الباشوات، أو يتوقون لعودة تركيا. كان رد فعل كثر في البلقان على خطاب داود أوغلو في ساراييفو (المرجع أ) قوياً جداً. في الشرق الأوسط نفسه، قد يصفّق الشارع العربي لدعم تركيا الشعبوي للعناصر الأكثر راديكالية والذي لا تترتب عنه أي كلفة عملياً، لكنّه ليس مستساغاً من الحكّام (على الرغم من أنه يبدو أن تركيا حقّقت بعض التقدّم مع سوريا، ونجحت في وساطتها لتحقيق التقارب بين الرئيس بشار الاسد والملك السعودي عبدالله، وأدّت دوراً في إيجاد حل لمأزق الحكومة اللبنانية). لكن عاجلاً أم آجلاً، سيكون على تركيا توليد نتائج، والقيام بمجازفات، وتخصيص موارد فعلية، واتّخاذ قرارات صعبة لتعزيز سياسة تقوم الآن في شكل أساسي على شعارات شعبية ورحلات متواصلة وتوقيع عدد كبير من مذكّرات التفاهم التي ليست لها أهمّية تُذكر. وخير مثال على ذلك التجربة مع إيران التي تبدو غير مهتمّة بمنح تركيا أي تنازلات أو بالموافقة على اضطلاع تركيا بدور قيادي في جهود الوساطة على الرغم من الدعم الكبير الذي تظهره لها تركيا شفهياً ومحاولتها التودّد إليها.

مشكلة الولايات المتحدة
14. (سري) للسياسة الخارجية الجديدة التي تنتهجها تركيا تداعيات متفاوتة بالنسبة إلينا. لطالما كان قيام بلدان إقليمية ذات ثقل بتحمّل جزء من الأعباء، وتالياً تخفيف العبء على كاهلنا، هدفاً منشوداً في السياسة الأميركية، إلا أنه تترتّب عنه خسارة للسيطرة إلى حد ما. لكن في مجموعة كاملة من المسائل الرئيسة ذات الأهمية القصوى لنا – أفغانستان وباكستان، التعاون داخل العراق وفي المسألة العراقية، جهود الناتو (على الرغم من أنه لن يكون سهلاً اضطلاع تركيا بدور قيادي في الدفاع الصاروخي) – تركيا حليف أساسي، ولا يمكننا الاستغناء عن استخدام إنجرليك وبوابة هابور والمجال الجوي التركي لعملياتنا في العراق وأفغانستان. كما أنّ المبادرات التي أطلقتها تركيا تحت عنوان “صفر نزاعات” والتي سمحت لها بأن تقطع شوطاً نحو الأمام في مزيد من المشاحنات الثنائية الأساسية مثل قبرص واليونان والأكراد وشمال العراق وأرمينيا، الأمر الذي لم نشهده مع أي من الحكومات التركية السابقة –  هذه المبادرات تدعم أيضاً المصالح الأميركية.
15. (سري) بيد أن المسائل الأخيرة تسلّط الضوء على مشكلتَين. ففي نظر تركيا على الأقل، تتّخذ الولايات المتحدة، ولا سيما الإعلام ومجموعات المصالح والكونغرس، موقفاً يلقي اللوم على تركيا في هذه المجموعة من المسائل، بغض النظر عمّا تفعله. ثانياً، اصطدمت تركيا مراراً وتكراراً بالمتاعب التي حالت دون تمكّنها من انتهاز هذه الفرص المتعدّدة كما يجب، ولعل البروتوكولات مع أرمينيا هي خير مثال على ذلك، كما أنّ استمرار التحليق في أجواء الجزر اليونانية والمعارضة الداخلية للانفتاح على الأكراد يندرجان في السياق نفسه. ما نخشاه هو ألا يقتصر تأثير العجز في الوصول بمبادرات السياسة الخارجية إلى خواتيمها على المسائل الآنفة الذكر، إنما يتوسّع ليشمل معظم السياسة التركية نظراً إلى الامتداد الكبير لداود أوغلو وفريقه، والنزعة إلى استبدال الاستثمار الطويل الأمد في رأس المال الديبلوماسي والعسكري والمساعدات بالخطب البلاغية (لحسن الحظ، أفغانستان/باكستان والعراق هما الاستثناءان الأساسيان لهذه النزعة).
16. (سري) لكن المشكلة الاستراتيجية المحتملة الأكبر بالنسبة إلى الولايات المتحدة والتي تثير حفيظة بعض المعلّقين هي تموضع الأتراك النيوعثماني في مسألتَي الشرق الأوسط والبلقان. تولّد هذه “العودة إلى الماضي” الواضحة جداً في خطاب داود أوغلو في ساراييفو، إلى جانب ميل الأتراك إلى وضعها موضع التنفيذ من خلال التحالفات مع فاعلين محليين أكثر إسلامية أو إثارة للقلق، مشكلات جديدة باستمرار. جزء من هذا الواقع بنيوي الطابع. فعلى الرغم من نجاح الأتراك وقوتهم النسبية، لا يمكنهم التنافس على قدم من المساواة مع الولايات المتحدة أو “القادة” الإقليميين (الاتحاد الأوروبي في البلقان، روسيا في القوقاز/البحر الأسود، السعوديين والمصريين وحتى الإيرانيين في الشرق الأوسط). كي يتمكّن الأتراك الذين يملكون طموحات كبيرة إنما موارد قليلة من اقتطاع حصّة لهم، عليهم أن يلجأوا إلى “الغش” عبر العثور على ضحية (يخدم هذا أيضاً نظرة أردوغان العالمية)، مثل سيلادتشيك أو مشعل أو أحمدي نجاد يفرح بتبنّي الأتراك قضيّته. ثم يحاول الأتراك أن يُقحِموا مراجعات على الأقل في الموقف “الغربي” السائد تصبّ في مصلحة رجلهم. لكن مجدداً، نظراً إلى تشكيك الجزء الأكبر من الرأي العام التركي و”حزب العدالة والتنمية” بالسياسة والدوافع الغربية، تؤمّن هذه المقاربة أداة شعبية ومنخفضة الكلفة نسبياً لإثبات التأثير والنفوذ وشعار “لقد عدنا”.
17. (سري) أمكن حتى الآن التحكّم بهذه المقاربة، ولو كانت شديدة التطلّب، في البلقان والشرق الأوسط، على الرغم من أنّ الضرر اللاحق بالعلاقات الإسرائيلية-التركية يبقى خطيراً. إذا كان الأتراك صادقين في رغبتهم في إبعاد سوريا عن إيران، وإذا بدأوا بإحراز نجاح حقيقي بدلاً من بروتوكولات مثيرة للتساؤلات، فسوف يحقّق ذلك فائدة لنا جميعاً. لكن القصة تختلف مع إيران. يستعرض المرجع “ج” خلفية العلاقة التركية مع إيران، وهي أكثر تعقيداً من العلاقة مع العرب الذين كانوا خاضعين للحكم العثماني وشعوب أخرى. تدفع المصالح في مجالَي التجارة والمواد الهيدروكربونية، ونفور تركيا من العقوبات المنبثقة عن حرب الخليج الأولى، وأسلوب العالم الثالث الذي ينتهجه أردوغان في خطبه وسياساته، وبعض الاعتبارات السياسية الداخلية، تركيا في الاتجاه الخطأ. لكن وخلافاً لما هو عليه الحال في العديد من المسائل الأخرى، يجب أن تؤخَذ تركيا في الاعتبار في الموضوع الإيراني وفي مجلس الأمن، والدفاع الصاروخي، وفي تطبيق العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة. سوف يكون لذلك تأثير عميق على العلاقات التي تأتي في المرتبة الثانية بعد مصير البروتوكولات مع أرمينيا خلال العام المقبل.
المرجع أ: 09 أنقرة 1717
المرجع ب: 09 اسطنبول 466
2010-1-20
ترجمة نسرين ناضر
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى