صفحات سوريةمحمد الحاج صالح

استعادة يسار الطوائف والأقلّيات

null
محمد الحاج صالح
أثناء الاستقطاب الحادّ في ثمانينيات القرن الماضي في سورية، انْطحن اليسارُ وتذرّر. هُزم الإخوانُ شرّ هزيمة، وانتصر النظامُ أيّما انتصار. وفي الوسط خسرَ المجتمعُ كوامن الاستقلال، ليتحوّلَ إلى مادّة مطواعة لأجهزة أمنٍ تتغوّلُ باطّراد، ولتنشأ حالةٌ فريدةٌ في الاجتماع السياسي السوري، عنوانُها الجمهورية الوراثية.
استفاد النظامُ من إدراكه لتركيبة المجتمع السوري، بينما ضلّ الإخوان المسلمُون الطريقَ وحسبُوُها حِسبةَ الأمانيّ. يشكّل السنّةُ  70   بالمئة من مجموع السكان، لكنّ السنّة الكرد ماكانوا ولن يكونوا مستقبلاً في عداد جمهور حزب ديني، فتطلعاتُهم القوميّة ووعيهم القومي أنجز قطيعةً مع الرابطة الاسلامية، ما لم تضعْ حقوقَهم القوميّة في رأسِ الدفتر. وبالتالي ستنقصُ نسبةُ العرب السنة إلى ربما إلى ما تحت الـ 60% هذه النسبة بدورها مُخادعة. فالعربُ السنّة في محافظات الجزيرة ذوو انتماءٍ قبلي لا يلعبُ الدين دوراً أساسياً في طموحها السياسي، بل إنها وعلى الدوام تقريباً آثرت الانصياع إلى النظام، ودائماً كان للدولة رنينٌ قدسي ومخيفٌ في وعيها. سنّةُ الداخل في حلب وحماة وحمص والشام على اختلاف بين ريف ومدينة. ومن المعروف أن النواةَ الصلبة للقطب الأخواني كان مدينياً بالدرجة الأساس، وهو أصلاً كان في صراع اجتماعي مع النواة الأخرى الصلبة للعائلات المدينيّة التي أخذت بالحداثة وشكلتْ النسبة الأعمّ من حزب الشعب الأقدم والحزب الوطني. هذه النواة الأخيرة جرى تفتيتُها واحتقارُها وعزلُها أساساً قبل أنْ يستعرَ الصراعُ. ضرب عبد الناصر جزءاً منها بتأميماته، وضرب بعثيو 23 شباط الجزء الثاني، وضمّ حافظ الأسد الجزءَ الثالث إلى مملكة الصمتِ مقابل إطلاق أيدي بعضهم في التجارة.
إذن لا غرابةَ من أن يَسحقَ النظامُ الأخوانَ ومن تورّط معهم، فالحاملُ الاجتماعي (وفق المصطلح السوري المبتدع والمعبّر) الذي عوّلوا عليه ما هو إلا أقليةٌ تكاد لا تتجاوز ربما العشرة في المائة من المواطنين.
أمام هذه اللوحة كان اليسار حلقةً ضعيفةً بالأساس، لأنه والنظامُ من أرومةٍ واحدة أولاً، ولأنّه عانى من انقساماتٍ غذّتْها السلطةُ باستمرار ثانياً. وثالثةُ الأثافي كانت الوضع الدوليّ الصائر بوضوحٍ نحو انتصار غربي. فقد بدا المعسكر الشرقي بحقّ بصورة الفاشلِ القامع المُتخبّط، بينما ظهر الغربُ بصورة الناجح المُتلائم مع العلم والتطوّر. والأنكى هو مساعدةُ المعسكر الشرقي وصداقته للنظام في سورية الذي كان قد افْتتحَ المذابح في الشرق الأوسط، ولم يسبقْهُ في ذلك سوى إسرائيل.
اغتنم الأسدُ الأب الفرصةَ الثمينة التي وفّرها الأخوانُ، وبحسبةٍ يجيدها الديكتاتوريون ضربَ كلّ القوى الفاعلة في المجتمع لضمان استقرارِ النظام لفترة طويلة، فقد حَوَت السجونُ خليطاً عجيباً لا يجمعُهُ إلا رجلٌ “حقود” وفق ما وصف الأسدَ صديقُهُ “باتريك سيل. خليطٌ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. لسوء حظّ سورية أن تنشأ فيها معارضةٌ دينية طائفية عنيفة تمنحُ الحكمَ تبريرَ القمعِ على طبق من ذهب، ومن سوء حظّها أنّ مَنْ استولى على السلطة في الـ70 رجلٌ ليس في رأسِهِ سوى تأبيدُ حكمِهِ حتى لو استخدم الطائفيّة أو المذابح.
من البدهي أن لا يُحبّذ الموالون والمعارضون في الطوائف الإسلامية الأخرى الدروز والاسماعليون والعلويون معارضةً دينيةً سنّيةَ المذهب، ولكلٍّ أسبابُهُ. واقعياً انحازت النواةُ الأساسيةُ في هذه الطوائف لصالح النظام أو سحبت نفسها إلى موقعٍ تتقوقعُ فيه. وهذا أمرٌ منتظرٌ ومفهوم إذا ما أخذنا ردّ فعل هذه الأنوية على أصولية سنيّة لا تستطيع إلا أن تقولَ إن الشرعَ وتطبيقَهُ هدفُها النهائيّ، حتى وإن أخذنا في الحسبان التطوّر في الخطابِ السياسي للإخوان وللإسلاميين في العشر سنوات الأخيرة. فحركاتُ الإسلام السياسي كثيرةٌ من حولنا، تبدأ بمراكش وتنتهي في أندنوسيا والصين، وهي تصدحُ على الدوام بمقاصدِها ونواياها، وهي أيضاًَ وإن جمّلتْ خطابَها وباتت أكثر واقعيةً(نعني الأكثرية فيها) فإن أعمالَ البعض منها عنيفٌ ويوميٌّ ومرعبٌ. ولا ننسى أنّ النسخةَ الجهادية الأبكرُ للقاعدة كانتْ في مصر عبر تنظيمِ التكفير والهجرة، وفي سورية عبر تنظيمِ الطليعة المقاتلة، الذي وُلد كـ”ابن شرعي” لتنظيم الأخوان حسب البعض، أو هو تنظيمٌ منشق عن الأخوان حسب الآخر. راجعُوا المقابلة التي أجرتْها قناة العربية مع “ناصر الحزيمي” في برنامجِ صناعة الموتِ، والذي يذكرُ فيه أنّ “بن لادن” كان مُعجباً بالطليعة المقاتلة، ولْنتذكر أن أمّ بن لادن وزوجَهُ الأولى تنحدران من العائلة نفسها ومن الطائفة العلوية!
في كلّ الأحوال لم يكنْ من المحتمل ولن يكون هناك قوةٌ على الأرض قادرةٌ على جَعْل من ينتمون أو ينحدرون من هذه الطوائف يوافقون على خطابٍ أو حكمٍ سنّي بالمعنى الديني، إلا عبر القهرِ والغَلَبة العسكرية. ولذلك يبقى هذا النظام أفضل لهم من وجهة نظرهم. هذا واقعٌ. بالنسبة لهم الرمدُ أهونُ من العمى. من يستطيع أن يلومهم؟ الأمرُ بالطبع ينطبقُ على من ينتمون أو ينحدرون من الطوائف المسيحيّة السورية، الذين يسمعون ويلمسون الاستهانةَ بدينِهم، ويتوقّعون أنْ يتحوّلوا إلى مواطنين من الدرجة الثانية في الدولة الدينيّة الإسلاميّة.
كنّا نسمعُ في الثمانينيات ولا نزال أن “اليساريين” رجعوا إلى طوائفهم سالمين، قياساً على البيانات العسكرية العربية وبالأخصّ منها بيانات المقاومة الفلسطينية من أن المقاتلين رجعوا إلى قواعدهم سالمين! والمعنى أن عرسَ اليسار انفضّ وعادَ كلٌّ إلى طائفتِهِ لينشطَ فيها. هذا الكلام، وعلى الرغم من التهكّم المُستبطن،  ليس مُتجنّياً ولكنّه ليس صحيحاً مائة في المائة.
والآن ومع تغيّر مفهوم اليسار واقترابه من الجذر اللبرالي سياسياً، يمكنُ القولَ أن الحاجة إلى “اليسار” المنحدر من الطوائف والأقليات مهمٌ للغاية في نسج شبكة أمان تجمعُ ولا تفرّقُ وتعبرُ الطوائفَ في الجهد الوطني السوري.
إنّ الميْل الجامع الموّحد “للعرب السنّة!” هو عاملٌ إيجابيٌ تاريخياً، لكنّه وُضع في امتحانِ عسيرٍ تحت حكم البعثيين وبالأخصّ تحت حكم الرئيس حافظ الأسد وابنه. أوّلاً لأنه (الميل الجامعُ الموحّد) مادّةُ خطابِ السلطة الذي أصبح مع الزمن خشبياً وغير ذي معنى، وثانياً لأنه بات أكثر من أنْ تحتملَهُ الدولُ. بات عبئاً ثقيلاً يعتبرُ نفسَهُ محظوظاً مِنْ يُلقي به عن كاهله، ليس أدلّّ على هذا من رسالةِ الاعتذارِ غير المسبوقة من العاهل الأردني السابق الملك حسين إلى حافظ الأسد، على الرغم من معرفة الملك لما كان يحدثُ في سورية من قمعٍ غير مسبوقٍ يطالُ من اعتبروا نفسهم ممثّلين للعرب السنّة، بالضبط الإخوانُ وطليعتُهم المقاتلة. يكفي أن نتذكر أنّ اكتشاف مجزرة تدمر جرى بالمصادفة في العاصمة الأردنية عمان، عندما ألقي القبضُ على ضابطي مخابرات سوريين مُكلّفين باغتيال رئيس الوزراء الأردني. القصدُ أن أصحاب القرار في الأردن كانوا يعرفون تفصيل التفاصيل. أشّرتْ رسالةُ الملك حسين بوضوح إلى أن هذا الميل الجامع يتحوّل إلى نقيضِهِ التامّ والسلبي عندما يأخذُ أحدٌ “العربَ السنة” إلى الدين والطائفة. يتحوّل تماماً إلى عامل انعزالٍ وتهديم وفُرقة. المثال الآخرُ هو الضيقُ المُتدرّجُ من قبل العربية السعودية ودول الخليج العربي بالإسلاميين وبالأخصّ الإخوان، حيث ارتقى الموقفُ الخليجيّ من تعاطفٍ دون دعمٍ (كلّنا يتذكّرُ العلاقةَ المتينة بين الحكومة السعوديةِ والنظام على عهد الأبّ، وأيضاً على الرغم من معرفةِ السعوديين بكلّ ما يجري) وصولاً إلى ضيقٍ موصولٍ يجد تعبيرَهُ الآن في جوّ من تحميلِ إخوانَ مصر وسورية، العاملين أو المُلتجئين إلى البلاد، جزءاً من مسؤوليّةِ الحركات الجهادية والقاعدة. يمكنُ متابعةَ هذا الضيق الخليجي وبالأخصّ السعودي في الصحافة وفي الأقنية التلفزيونية، وأكثرها وضوحاً يجدُهُ المرءُ في ما يصدر عمّا يمكنُ تسميتّهُ بالتيّار اللبرالي في السعودية. وطبعاً ما جرى في سورية معروفٌ ولا حاجة للتكرار. ليس في الأمر تحميلٌ زائدٌ للمسؤولية على كاهلِ الإخوان والأصوليين السوريين، فالنظامُ أوْلى بالمسؤولية الأولى. وإنّما لنبيّنَ فداحة الخسارة عندما ينزلقُ العربُ السنةُ إلى الخطاب وإلى الممارسة الطائفية.
كان “للسنة العرب” فضلاً أوّلاً في الثورة العربية الكبرى، ثم فضلاً أولاً في تشكيلِ الدولة السوريّة بدلاً من تقسيم سورية إلى خمس دولٍ إبان الاستعمار الفرنسي، وأخيراً فضلاً أولاً في العهد الوطني وتسوياته رغم مناحي القصور، بالأخصّ منها عدم الالتفات للريف وتنميته. ثمّ كرتْ سبحةُ الأخطاء أو سُكْر القوميّة العربية مع البعثيين والناصريين، الأمر الذي أخرج الكرد باكراً من معادلةِ المواطنة. وتسارعَ التحوّلُ في الميل الجامع والموحّد مع هزيمة التشكيل السياسي للقومية العربية، المتمثّل في البعث والناصريين، في الخامس من حزيران. وشيئاً فشيئاً امتلكَ الساحةَ لدى “العرب السنة” خطابٌ يُطابق بين الدين والقومية، الأمرُ الذي أخرج المسيحيين السوريين من المعادلة، وإلى حدّ ما الطوائف الإسلامية الأخرى نعني العلويين والدروز والاسماعليين. وعندما حدثتْ أحداثُ الثمانينيات كان كلّ شيء جاهزاً ليظهرَ بحقّ ودونه أنّ الانعزالي والعنيف وغير المتسامح هو المُتصدي لتمثيل “العرب السنّة” دينياً عبر السياسة، على الرغم من أن أداة القمع والعنف المُنفلت من عقاله كانتْ بيدِ النظام لا بيدِ الإسلاميين.
أضفْ إلى ذلك الميلَ الأصيل الثاني لدى “السنّة العرب” ألا وهو التقليدية والمحافظة، والذي لا يقلّ أهمية موضوعيةً عن الميل إلى “الوحدة”. الميْلُ الثاني هذا كان في حالةِ تناقضٍ مع الحداثة، ومع بناء دولة حديثة. وهو اجتماعياً أقربُ إلى التخلّف والإعاقةِ منه إلى أصالةٍ ناجعة. على العكس من مُيول الطوائف المسيحية والطوائف الإسلاميّة الأخرى، والتي لأسبابٍ كثيرة هي أقربُ إلى الأخذ بالحداثة وتأييد بناءِ دولة حديثة، لأنها على الأقلّ ترى في ذلك مصلحةً للتخلّص من الأكثرية الملّية بالمعنى العثماني.
تتجلّى تلك المحافظةُ والتقليديةُ في أجلى صورها في العداء للعلمانية، بمعناها الأبسط والمباشر وهو فصلُ الدين عن الدولة. على الرغم منْ أن الدولة في العصرين الأموي والعباسي ما كانتْ دينيةً، وكلّ من يقول عكس ذلك يلوي عنقَ الحقيقة. هل كان معاويةُ والأمويون عموماً حكاماً دينيين؟ الأرجحُ أن أصلَ التعصّب ضد حكمٍ مدني علماني نابعٌ من إرث عثماني مضاد لأتاتورك، تعزّز بفضل ترجمة الإخوان المسلمين للجواب على سؤال أبو الأعلى المودودي: لماذا تقدم العالم وتخلف المسلمون؟ ليصبح الجوابُ لأننا تخلينا عن ديننا، وبالتالي فالحلّ هو الإسلام. والإسلامُ المقصودُ هنا؛ إسلام الطبعة الأولى، خصيصاً في ما يخصّ الشريعة. الرجمُ. وقطع اليد. والتعزير. دون التفات إلى أنّ غايةَ الشريعة هي مصلحةُ الناس. والأخيرة مُقدّمة على النصّ إنْ تعارضا، وفق بعض الفقهاء. ودون الالتفات أنّ مؤسساتِ السجون لم تتطوّرْ إلا في القرون الأخيرة، حيث ما كانت العقوبات قبلاً، أي في صدرِ الإسلام، إلا مباشرةٌ وملموسة. وما كانت الأممُ الأخرى بغير ما كان عليه العربُ والمسلمون في هذه الأمر، أي موضوع العقوبات.
كيف إذن للمنحدرين من الطوائف المسيحية والاسلامية الأخرى أن يروا أنفسهم هنا؟ أليس من الأجدى لهم عندما يصبحُ الصراعُ حاداً أنْ يميلوا إلى السلطة؟ دعكَ من السياسة قليلاً، وفكرْ على الأقلّ بأسلوبِ الحياة. حيث اعتادَ السوريون على نمط حياة معتدلٍ، كانت به بهجةٌ مايزالُ طعمها تحت أضراس السوريين. فإذا بهم وجهاً لوجهٍ مع خطاب يسلبُهم حياتَهم الاجتماعية التي اعتادوها، ويقترح عليهم حياةً مُفترضةً جَهُوماً عَبُوسا.
تكلّمنا عن “العرب السنّة” وكأنهم كتلةٌ صمّاءٌ واحدة تُسلِسُ قيادَها لمن أراد تمثيلَها سياسياً عبر الطائفة. الأمر بعيدٌ عن ذلك، وإنما استخدمنا هذا الأسلوبَ الخشنَ للتقريبِ من جهة، ومن جهة أخرى لتبيان أنّ أطرافاً كثيرة من “السنّة العرب” وُضعتْ بين ذراعي مزدوجة حادّة، مما أفقدَ تلك الأطرافَ وظيفتها الأصليّة الأولى في أن تكون جامعةً وموحِّدة. ذراعٌ قويّة لسلطة قامعة تتبنّى الخطاب ذاته، وذراع ثانية لأصولية عنيفة ادعتْ تمثيلاً سياسياً هو بالفعل موجودٌ. غابتْ هذه الأطرافُ لصالحِ الالتحاق بالنظام أو لصالح التأييد لانعزاليةٍ سنيّة دفعتْ بكلّ الطوائف، إسلاميةً كانتْ أم مسيحيةً أن تقفَ ضدّها أو على الأقل أن تديرَ ظهرها. هذه الانعزالية السنية لم تقمْ بخدمة الدبّ لصاحبه بحقّ الطائفة السنية وبحقّ نفسها فقط، وإنما أسستْ لهدمِ الميزة الأساس للسنّة العرب. الموقف الجامع الموحِّد. باستخدامها العنفَ ضد طائفة أو طوائف أخرى، حتى لو أخذنا التبريرات والظروف بالحسبان، فإنّها أعطتْ وبالملموس كلّ ما يلزمُ لأنْ تصبحَ عاملَ تفتيتٍ. كان الطرفُ الأضعف في البيئة العربيّة السنية في الثمانينيات هم أولئك الذين كانوا يريدون سورية وطناً لمواطنين متساوين أمام القانون. كانوا أكثريةً، لكنّها أكثريةٌ ضائعة فاقدة للبُوصلة ولوظائفها الذاتية الأصليٌة، ومتأثرةٌ بأحد ذراعي المُزدوجة العنيفة.
في المعمعة الأمنيّة داخَ اليساريون والحداثيون عموماً، ومن كلّ الطوائف. بعضهم عادى الثلاثي ياسر عرفات وصدام والأخوان. هل بالصدفة أن يكون الثلاثة من أصول “سنّية!”؟ ونسي سورية. والبعض الآخر قصّر في فهم الصراع، ونسي سورية. نسي، ولو بالكلمة، أنْ يتضامنَ مع الشركاء الضائعين مثله، والرابحُ الأوّل هو حافظ الأسد وورثتُهُ من بعده. ضاعت سورية. والتجأ الخائفون والضائعون ومن في قلوبهم مرضٌ إلى طوائفهم. ومن لم يلتجئ وظلّ في الشمس أمضى مدداً دهريّة في السجون. والقلّة القليلةُ نفذتْ بجلدِها في سريّة مُعطلة وسلبيّة.
والآن في المأزق الذي تمرّ به سورية وطنياً، وفي الحال المعيشية المزرية لأكثرية المواطنين، يلزمُ إعادة نظرٍ. اليساريون والحداثيون عموماً ضروريون لنسجِ شبكة أمانٍ عابرةٍ للطوائف، إذْ من الواضح أنْ لا خلاص لسورية عبر سلطتها، ولا خلاصَ لها أيضاً بمعارضة ضعيفة ومُشرذمة، والأهم لا خلاصَ للبلاد في خطاب “علماني محارب” يتغيّا تأبيد السلطة، ولا في خطاب “ديمقراطي” يستبطن مِلْيّةً عثمانية.
إن طريقاً ثالثاً يمكنُ اجتراحَهُ. طريقُ الديمقراطية غير “المدغوشة” وطريق العلمانية غير المسلحة بالعسكر. مزيجٌ من ديمقراطية وعلمانية، أقرب إلى الحكم المدنيّ الذي سادَ في سورية إبان الحكم الوطني أو ما هو حاصلٌ في التفاعل العلماني الإسلامي في تركيا أردوغان. الوقتُ قد حان. فلا الإسلاميون بأغلبيتهم عادوا كما كانوا، ولا العلمانيون والحداثيون بأغلبيتهم ظلّوا  على ما كانوا. الالتقاء في منتصف الطريق تسويةٌ معقولة، وهي في كلّ الأحوال أفضل من علمانيةٍ حربيّة قامعة، وأفضل من ديمقراطية باطنيّة تسنّ أسنانها.
كي لا يبقى الكلام معلّقا. وكي ننزلَ به إلى الملموس، يُشكل إعلانُ دمشقَ رافعةً معقولة للعمل السياسي المعارض. المطلوبُ تطويره وتحسين خطابه من الهجاءِ الدائم للسلطة والصمتِ عن الأصولية الإسلامية بطبعتها المنفّرة للأقليات وللحداثيين ولليساريين، إلى خطاب حساسٍ وطنياً، وإلى خطاب يَسْتشعرُ همَّ الفقراء والطبقات الدنيا، إضافةً لاعتنائه بالحريات. خطابٌ يُعيدُ ألقَ الحياة الاجتماعية في سورية، ويقفُ ضد التزمّت والتعصّب والطائفية من أين أتتْ وحيثما كانتْ.
كنتُ في مرة سابقة قد دعوتُ حزب الشعب إلى أن يلعب دور اللحمة الجامعة. الحزبُ موجودٌ في أنحاء سورية، وله من الرصيد والتجربة ما يؤهّله لذلك. فإن لم يفعلْ فمن سيفعل؟ بلى ستأتي قوى جديدةٌ وتأخذ الدورَ. فهل من مُستجيب؟
لا فكاكَ للسوريين من بعضهم البعض، لذا أجدُ من المفيد أن نفكّر بصوت عالٍ. وأنْ ننتقدَ أنفسَنا قبل غيرنا، فانتقادُ ما يخصّني وما هو قريبٌ هو الأجدى والأجدر. وبانتظار أنْ ينتقدَ كلٌ خاصّتَهُ يبقى “النقدُ” كرؤية القشّة في عينِ الآخر وتجاهل العود في العينِ الناقدة.
يخسرُ الجميعُ في الطائفية، ويربحُ النظامُ. يخسرُ السنّةُ العربُ نكهةَ التوحيد الجامعة عندما يكونوا طائفيين، أو يسمحوا لفئات متنفّذة فيهم أن تمارس أو تخطب خطاباً طائفياً دون أنْ تلجمُهم الأكثريةُ. وبخسارة السنّة العرب يخسرُ الوطنُ.
يربحُ الوطنُ عندما يكونُ العربُ السنّة مؤمنين بدورٍ غير طائفي البتة.
محمد الحاج صالح
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى