صفحات الناس

فتاة من الرقة

null
حنا زيادة
الرقة، شمال سوريا
“إنه ظلي”، ردت املة على سؤال صديقاتها وهن يمازحنها “هل أنت التي تمشين في الحقول مع ذلك الشاب الأشقر الوسيم؟”. وما هو إلا أنا – شاب لبناني له شعر أسود وعلى وجهه الكثير من الكريم الواقي من الشمس‏.
لم تخرج هذه الكلمات الحزينة من بين شفاهها إلا على مضض ومثلها مثل الكلمات القليلة الأخرى التي تتفوه بها. إنها فعلاً مجرد ظل لصورة الفتاة الجميلة المرحة التي التقيت بها قبل أشهر قليلة، أي قبل “فرحها”.
كاملة لا تزال في التاسعة عشرة من عمرها وهي متزوجة من شهرين والآن حامل ولا تبدو كأنها شابة سعيدة حديثة الزواج.
لقد وافقت املة وأختها راحة، ابنتا السيد الذي استضافني، على دعوتي غير العادية للتنزه في الحقول. وبينما نمشي في الحقول الخضراء، التي يرويها نهر الفرات، في الصحراء السورية، تحكي املة قصة نهاية حياتها كفتاة بريئة حالمة وليست نهاية سعيدة.
“لا يعجبني” كانت إجابتها عندما سألتها عن زوجها الجديد.
وبعد لحظة تابعت املة حديثها، “أنا لا أطيق هذا الرجل الذي زوجوني منه ولم أكن أرغب في الزواج منه أبداً”. فسارعتُ بسؤالها، “ولكن كيف تزوجت منه؟ وكيف وافقت على الزواج من شخص لا تحبينه؟ لقد وعد والدك بأنه لن يجبرك على الزواج من دون رضاك”. ولأول مرة تدفقت الكلمات من فم املة، القليلة الكلام عادةً: “لا تتصور الضغوط التي تعرضتُ لها. عملت العشيرة كلها على إقناعي، يوم بعد يوم على مدى شهور عديدة، وفي مقدمتهم أخي الأكبر. فعلوا كل ما استطاعوا لانتزاع مني كلمة “نعم” ولكن قلبي كان يقول “لا” طوال الوقت”.
“كان أخي الأكبر يريد تزويجي من ابن عمي حتى يتمكن من الزواج من أخته. إنه مجرد تبادل تجاري! في النهاية وافقت على الزواج فبدأ ابن عمي المساومة على المهر الذي عليه دفعه. فقد أرسل رسولاً إلى والدي ليقول إن 3000 دولار مبلغ كبير ويطلب تخفيض المهر بمقدار مائة أو مئتين دولار – كأنني كيس بطاط”ا.
حكت املة قصتها الحزينة بلهجة واثقة وهي تنظر في الأرض معظم الوقت، لكنها كانت ترفع عينيها مرات قليلة فتنظر إليّ بابتسامتها الساحرة. لا يظهر عليها شيء من الإشفاق على الذات ولكن حالة من الاستسلام التي أثارت غضبي وإعجابي بها في نفس الوقت.
قصة املة هي قصة العديد من الفتيات العربيات، ربما ما عدا وعي املة الحاد بالظلم الذي تعرضت له. مغزى قصة املة ليس أن الزواج المرتب يحكم بالتعاسة على الفتيات، فهو قد ينجح في حالات كثيرة.
إنما تكشف قصة املة عن مسألتين بخصوص المرأة العربية. الأولى أن الزواج يبقى قدراً مكتوباً على المرأة في معظم المجتمعات العربية. الثانية أن الرجل هو الذي يقرر قدر المرأة.
كثيراً ما، ومثل ملايين من النساء العربيات الأخرى، تقف املة وحيدة في تفاوضها مع أهلها الرجال حول مصيرها. قد تتحدى العديد من النساء سلطة الرجال فيرفضن الزوج المختار لهن أو يرفضن أن الزواج خيارهن الوحيد.
وللأسف حالات النجاح قليلة وتقابل كل منها مئات من الهزائم.
تكشف قصة املة عن مسألة أخرى، فعندما كانت في أمس الحاجة إلى مساعدة مؤهلة من نساء أخريات فلم تجد أحداً. ففي قريتها قرب مدينة الرقة، كما هو الحال في الكثير من القرى والضواحي العربية الفقيرة، لم تجد أية من منظمات المساعدة أو منظمات حقوق الإنسان أو المنظمات غير الحكومية أو الجمعيات النسائية التي تزدحم بها قاعات الاستقبال في بيروت والقاهرة ودمشق والرباط وعواصم عربية أخرى.
في هذه المدن، وأنا في طريقي إلى الرقة، جلستُ في قاعات أنيقة مع العديد من الخبراء والنشطاء الحسنو النية واستمعت إلى تحاليل طويلة عن كيفية تمكين المرأة.
قد تكون التحاليل مقنعة وقد تبدو التوصيات معقولة إلا أنها بعيدة جداً عن واقع المرأة العربية.
إذا أردنا فعلاً مساعدة النساء العربيات، علينا ألا نرسل المال لدعم مشاريع في المدن الشهيرة أو لمنظمات تفهم فن الترويج عبر الإنترنت والمؤتمرات الحوارية، وعلينا أن نرسل المال للمشاريع الصغيرة في الميدان. ينبغي أن نخصص المال لمشاريع خاصة بالفتيات والنساء في قرى صغيرة أو في الأحياء الفقيرة من العواصم حيث يكدح معظم النساء العربيات من أجل بناء حياة كريمة.
يجب علينا نقل مالنا من المشاريع الفخمة في المدن المريحة السهلة الوصول إليها إلى المقاطعات حيث يساوي الدولار الواحد عشرة أضعاف قيمته في المدن ، وإلا فسنستمر في تحصيل الحاصل.
يجب علينا الانتقال من قاعات استقبال المدن إلى مطابخ المقاطعات وإلا سيكون الأمل الوحيد بالنسبة لاملة وأخواتها ما قالته لتطمئنني عندما ختمت قصتها: “مع الوقت، لعلني أتعلم كيف أتحمل الألم”.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى