صفحات الناسفلورنس غزلان

التصحر وفوضى التخطيط يعيد تشكيل المدن السورية

null
فلورنس غزلان
ــ طوفان بشري يحمل الترهل والبؤس يمسح وجه الأرض نبشاً وبحثاً عن مأوى، يهاجم المدن الكبرى النائمة مع سلاطينها الجدد وأقزامها المغرورين الممنوعين من الصرف والتصريف، المعصومين عن المحاسبة والمساءلة ،يتسربل الطوفان عتمة الإلغاء والاقصاء ويظهر بثيابه الرثة في مخيمات تزنر المدن الكبرى لتضفي عليها ثوباً من عهد هجرة جديدة لم يعرفها تاريخ سورية الحديث أو القديم ولم يصل إرهاب المذابح التي ارتكبها آل عثمان بحق الشمال السوري إلى هذه النسبة من الرحيل وهجر الأرض والزرع ، فقد أكل الفقر والجدب المتواصل كل ماخزنوه من مؤونة ليوم ضيق، فيوم الضيق تطاول ليصبح أعواماً متربة برمال تبحر وتعمر فوق حقولهم وجفاف سماوي مع عمى سلطوي ألغى مواطنتهم وصم الآذان حيال انتمائهم فكافأهم بمرسوم ” رئاسي المنشأ ” يحمل الرقم ” 49″ ليزيد من حرمانهم ويعمل عمداً على تهجيرهم كي يُعَّرِب المنطقة عنوة وأسوة بالشقيق الراحل( صدام حسين) ـ على الرغم من أن مصير الأخير على مايبدو لم يشكل عبرة لمن يعتبر ولا درساً يعلم من لايتعلم من التاريخ وعبره الفاقعة.
مايزيد على مليوناً ونصف المليون من أهل الجزيرة في الشمال الشرقي لسورية، أبناء نكبة جديدة لاتشبه نكبة فلسطين لكنها أشد ألماً لأن عدوها هو الاجحاف وانعدام العدل ووضع أبناءها خارج مخططات الدولة وكأنهم قدموا من عالم آخر غير مرغوب فيه..يحالون لخيم لاتقيهم قراً ولا حراً..كانت أرضهم ذات يوم سلة الغذاء للوطن السوري برمته، فباتوا يشحذون السلطة بسلة غذاء لاتفي بأبسط حاجات الإنسان كما لاتحمي كرامته ذل السؤال وذل الفقر..كل هذا يتم على مرأى من عيون السلطة، التي لاترى سوى ماتريد ان تراه..
ــ تغص دمشق بساكنيها وبوجعها وتحني الرأس بعد أن ذُلت وأُخضعت لإرهاب لم تعرفه يوماً،  تستقبل هذه الجموع وهي بالكاد تسد رمق سكانها، فقد اجتاحها التصحر هي الأخرى فلم يعد لها من حزام أمان يحميها من الرمال والصيف الحار، وصلت درجة الحرارة فيها الصيف الفائت إلى 50 درجة مئوية لم تشهدها خلال حياتها، ــ  روت لي إحدى الصديقات، أنها أحست بيديها يشويان على نار ساخنة بعد خروجها من سيارتها لمدة لاتزيد عن خمس دقائق ، عانت بعدها من مرض شديد وكأن ضربة شمس أطاحت بهاــ..هذه العاصمة ، التي كانت تغلي على الدوام بسياحة التصييف العربية والأجنبية، حمتها على الدوام من هجمات الطبيعة غوطة غناء كانت يوماً مصدر حماية ومصد رياح وغبار، كما هي مصدر ثراء زراعي متنوع ، ومياه عذبة تستقطب الناظر والباحث عن سكينة وجمال..لم يبق من هذا سوى علب اسمنتية تعلو وترتفع فوق مساحة من التراب الجاف..نعلم جيداً ــ حتى لانظلم ــ أن الانفجار السكاني السوري ، والذي لم يخطط له هو الآخر ولم يدرس مستقبله أنه أحد العوامل الرئيسة في المشكلة، لكن ..مَن المسؤول عن هذا التردي برمته؟.
دمشق الأسطورة، حين كانت المدينة الأولى التي عرفت الحضارة، تصبح اليوم أسطورة في صنع الطغاة، ستتناقلها الأجيال القادمة كأكبر مُبدع في إنتاج ديكتاتورية ستدرس كنوع نادر ومنقرض بالتأكيد.
ـ أليس من الواجب حكومياً أن تزرع شجرة بدلاً عن كل واحدة تم قطعها؟ أليس من الواجب إبقاء الحماية الطبيعية من التشجير الحراجي مثابراً عليه وبشكل سنوي كحملات دائمة لاتتوقف تقوم مقام مايُقطع ويُعَّد كبنايات وفنادق تستقبل رجال الأعمال الجدد وشركاءهم من دول البترول؟!!..فوضى عمرانية، فوضى اقتصادية ، فوضى زراعية ..تحديث شكلي غير نوعي ، غير مدروس ، تخلف علمي وثقافي مقصود ومثابر على توطيده وتدعيمه كي تستمر مأساة التصحر والتكاثر والإفقار والانشطار السكاني لملل ونِحَل..لأن كل هذه الأمور تساهم في الإبقاء على السلطانية وتحمي قلعتها في رأس هرم صغير الدائرة محصور العدد متسع العُدة ومنتشر في التسلط من خلال أخطبوط أمني يمسك بتلابيب الوطن وأبنائه.
ــ لم يقتصر الأمر على منطقة الجزيرة أو غوطة دمشق، فحال بقية المدن ليست أفضل من سابقتها، ففي محافظة حمص وبالضبط في وادٍ يعتبر من أجمل البقاع في تلك المنطقة حرصنا عليه عبر التاريخ كي يظل على صورته الجمالية وتركيبته السكانية موضع فخرنا واعتزازنا في تنوعنا، وفي تخصص انتاجه من ثروة  فاكهية خاصة زراعة التفاح، أقصد  ” وادي النصارى، أو كما سمته الحكومة الميمونة ــ لمغزى في قلب الشاعر ــ وادي النضارى”، هنا يكمن حب الأرض ومنتج الإنسان لكن ممالك العقول المشبعة بحس وطني غير متوازن في سمات العقل والمنطق، جعل من محافظ حمص رجل سياسة لايعرف معنى التخطيط المدروس فأخرج من جعبة عبقريته مرسوماً يقضي بمنع سكان المنطقة من تسويق منتجاتهم التفاحية إلى مسافة تبعد عن منطقتهم بما يزيد على مئة كيلومتر، إلى منطقة ( حسيا الصناعية) ــ راجع كلنا شركاء ــ ،بالإضافة لمنع برادات التخزين الموجودة في مناطقهم، هذا يعني مزيداً من البترول للنقل وعدم القدرة على التخزين بعيداً عن منطقة الإنتاج، ممايدفع الكثير من الفلاحين لهجرة هذه الزراعة والاستغناء عنها إن لم تحصد الفائدة المرجوة منها، هذا إن لم تصل يد الفنان في الاقتصاد” محافظ حمص” لإلغاء معاصر الزيتون وبهذا يدفع سكان المنطقة المسيحيون إلى الهجرة خارج البلد، هل هذا مايريدوه؟، بالضبط كما جرى لسكان الجزيرة وزراعتهم للقطن أو للقمح، وحجة محافظ حمص ، أنه يريد المحافظة على المنطقة ” ســـــــــــياحيـــاً”!! ، علماً أنها منطقة لاتستقبل الكثير من السياح إلا في فصل الصيف من أبناء المنطقة المغتربين، ولا يقصدها الغرباء إلا لماماً، والتخزين يتم في فصل الخريف والشتاء ، فأين تكمن المشكلة إلا في رأس المخطط العظيم ” محافظ حمص”؟!!
ناهيك عن تلوث مدينة حمص ، وتوقف مصفاة بانياس عن العمل وتعطل محطاتها لأكثر من مرة لغياب الصيانة الدورية ، ولو أردنا أن نحصر ونسرد قصص الفوضى الاقتصادية وانعدام البرمجة أو النظرة المستقبلية للوطن لاحتجنا لمجلدات ــ كل هذا لم نأت به من بنات أفكارنا ولم نخترعه كوننا ننشد ” نشرأنباء كاذبة توهن عزيمة الأمة”!!، بل نقلناه عن مصادره الحكومية وصحف السلطة ذاتها من الوطن إلى الثورة وأخواتها إلى موقع كلنا شركاء وشركائه في السراء والضراءــ .
ــ كل هذا ومازال ملوك الدار وسنابك خيوله الأمنية تهاجم وتشتم وتعتقل وتنفي وتمنع، وتقص الأيدي وتقصف الأقلام وتهدد وتتوعد، ثم توغل عميقاً في رمال التصحر وتبني أعشاش غربانها بين خرائب تصنعها وتعتاش عليها، يكبر الجرح ويستمر في النزيف، فلا طبيب عيون ولا طبيب اقتصاد ,لا عقل مدبر أو معجزة مسخرة للانقاذ من القادم، ماذا سنفعل بعد عدة سنوات مع استمرار الجفاف؟..هل هناك خطة لتلافي الانحسار السماوي عن أرض سورية؟ هل هناك خطة تشجيرتُفتح أبوابها سواء من خلال حملات حكومية أو مجتمعية أهلية تحمي الوطن من مخاطر العقود القليلة القادمة؟ ــ علماً أننا نقرأ كل صيف عن حرائق تطال المناطق الحرجية الساحلية معظمها متعمد ليبنى على أرضها المحروقة مزيداً من الفنادق السياحية والشاليهات خيالية الثمن ــ ..هل هناك مشاريع تنموية مخصصة للمناطق المنكوبة تمنع من تزايد الهجرة الداخلية؟ ..هل هناك محاولات احتواء وتبني لواقع مأساوي يدرأ ماسيفضي إليه الواقع والقادم؟..هل هناك خطط للحد من الانفجار السكاني؟ هل هناك إعادة نظر بالبرامج التعليمية ، التي تؤدي للتجهيل؟، وقد خرجوا علينا ببرامج جديدة ليست على مستوى المنتظر سواء من خلال المحتوى أم من خلال الكادر التعليمي التربوي!!
إلى أين تسير ياوطني؟ أي حتف يُحفر لك وأي مصير ينتظر مواطنيك؟ لاهَم لحكومتك الرشيدة سوى إصدار البيانات والتدخل في شؤون الدول المجاورة، ولا تعج صفحات صحفها إلا بالعلاقات الخارجية والمناطقية والسلام المنتظر! ، أما الشأن الداخلي فمربوط بقدم علاقات السلطة ومكاسبها خارج حدود الوطن، وأي إصلاح يعني مزيداً من الشروط التي ترهن المواطن وحريته في ميزان الربح والخسارة لنفوذ وأجندة علاقات ومواقع مناطقية ودولية..فمن أين سيأتيك الفرج بعد أن أصبحت مدن الياسمين محزمة بباقات من الفقر ومستنقعات الذباب وقذارات الصرف الصحي مفتوحة الأبواب؟!، فلم يعد أي مدخل من مداخل العاصمة إلا صورة مشوهة عن بومباي مع الفارق التنموي والتكنولوجي الكبير للهند ــ.
باريس 03/12/2010
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى