صفحات العالمما يحدث في لبنان

لبنان.. التوحد الصلب للطوائف يفكك الوطن

د. منى فياض
بمناسبة الانتخابات اللبنانية، وبداعي غياب الحياة الحزبية السليمة التي تترك الساحة للزعامات والقيادات، التقليدية منها والمستجدة، بينما يغيب المواطن الفرد المسؤول لمصلحة التبعية والالتحاق، فنلاحظ غلبة الاصطفافات التي ترتكز على أسس مذهبية وطائفية وخدماتية في تغليب للمصلحة السياسوية المحلية والضيقة المتعلقة بالنفوذ في هذه البلدة، أو تلك الدائرة؛ في تغييب مؤسف للديمقراطية بالمعنى السليم. فالديمقراطية العتيدة تفترض أن يتمتع المتنطع للتمثيل السياسي بحيثية ما سياسية او في الشأن العام؛ وعندما تختار الأحزاب السياسية، أو النقابات أحد أعضائها، يكون هذا الشخص مناضلا معروفا من الأعضاء وله مواقف معروفة، وإلا ماذا يمثل عندما يكون مجهولا، أو لا مواقف له، ولا برامج محددة، أو خيارات واضحة؟
هذه الفوضى الانتخابية، والتي تسمى ديمقراطية، على سبيل الدعابة، تحصل بسبب قانون الانتخاب من ناحية، وتطور الأمور خلال السنوات القليلة الماضية التي تلت تحرير الجنوب واغتيال الرئيس الحريري من ناحية أخرى.
من هنا التعليقات التي نسمعها من قبل الجمهور حول الطوائف وعلاقتها بجمهورها وببعضها البعض، بينما يغيب المواطن الفرد، فنجد أن الخطاب السائد يتخذ من تماسك الطائفة الشيعية ووحدتها المثال الذي ينبغي على سائر الطوائف الاحتذاء به؛ ويتم «تعيير» الطائفة المسيحية بانقساماتها، في إشارة ضمنية الى اتجاه الطائفة السنية حديثا نحو التوحد، واحتكار تمثيلها السياسي من قبل «تيار المستقبل» وزعيمه الشاب سعد الحريري. ونستشف من ذلك شعورا بالتهديد من طغيان المشاركة السنية في النظام، واحتكارها للاقتصاد، والقلق من الديموغرافيا والتعصب الشيعيين، ينتج عنها تخوف من تكرار استخدام العنف من قبل ممثليها السياسيين الذين يختزلونها لحسابهم الخاص.
هذا المنطق الذي يطلق في سياق الدفاع عن الديمقراطية وعن منطق الدولة، يغفل مسألة أساسية، وهي أن الديمقراطية تستدعي التنوع والابتعاد عن الاصطفافات والتوحد الحديدي، سواء أكان حول فكرة أم قائد أم حزب. فالذي يهدد الصيغة اللبنانية في هذه الحالة ليس «الانقسام المسيحي»، بل الاتجاه نحو أحادية التمثيل في الطوائف الإسلامية، الأمر الذي يطمح المسيحيون الى تحقيقه. وهم بدأوا في السير في هذا الاتجاه عبر محاولة احتكار التمثيل السياسي من المكونات التقليدية ذات الطابع الطائفي أو التاريخ الميليشياوي ( كتائب وقوات وعونيين). وبدل الالتفاف حول المكونات المدنية والمستقلة، والتي وقفت مع سيادة لبنان وبناء دولته المستقلة، وهي تنتمي الى مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية من أجل مواجهة احتكار التمثيل السياسي، سواء تعلق الامر بتيار المستقبل أم بحركة أمل وحزب الله؛ نجد أن فريق 14 آذار بشقه المسيحي يتخلى عن المكون المدني والمستقل.
في هذا كله مخالفة لكل التاريخ السياسي في لبنان، حيث التحالفات السياسية كانت دائما عابرة للطوائف، وفيه نقض للتاريخ الشيعي الذي كان مثالا للتنوع والتعدد. فالعائلات الكبرى وممثلوها تحالفوا مع مختلف الزعامات والاتجاهات التي كانت موجودة، والمثقفون الشيعة الذين لم يجدوا لهم مكانا بين العائلات التقليدية، اتجهوا نحو مختلف الأحزاب من بعث ويسار وقوميين سوريين وعرب الى ما هنالك.. بحيث أن الوعي الشيعي كان مكوناً من عوامل تتداخل فيها العروبة والإسلام والوطنية اللبنانية. ولم يكن الانتماء الى أي جهة كانت يتم تحت غطاء الطائفة، أو المذهب، بل كان المشروع السياسي هو الأساس، ومصلحة لبنان واللبنانيين هي الهدف. ولقد صاغ الإمام موسى الصدر مشروعه انطلاقا من محددات أساسية اعتمد فيها الانطلاق من وحدة المسلمين الشيعة، من دون أي تعصب، كمقدمة لوحدة المسلمين اللبنانيين بمختلف مذاهبهم، وذلك من أجل التوصل الى الوحدة الوطنية الشاملة، بمكوناتها الإسلامية المسيحية على مختلف أطيافها من أجل بناء وطن حقيقي للجميع ودولة عادلة.
فالخطر في لبنان ليس في تنوع طوائفه، أو التعدد داخلها، أو ما يسمى الانقسام، بل في اصطفافها وتوحدها الصلب كطوائف متراصة في مواجهة بعضها البعض. وهذا ما يقف سداً أمام تعاونها ويحمل خطر الصراع والعنف.
هذا ما دفع الإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين لبلورة التيار الوطني الإسلامي الشيعي اللبناني المعتدل، وسمح للشيخ شمس الدين باستنهاض «كل العناصر الإيجابية في الوطن لبلورة المشروع الوطني العربي الإسلامي الإنساني للشيعة في لبنان وطنهم النهائي.
من هنا عدم دقة الاتهام الموجّه الى الطائفة الشيعية بالتعصب. التعصب الطائفي والمذهبي المتبادل، واقع يطاول جميع الطوائف للأسف. لكن مشكلة الطائفة الشيعية تكمن في احتكار تمثيلها السياسي من لون واحد واتجاه سياسي واحد، الأمر الذي يهدد الصيغة اللبنانية التي لا تحتمل هذا الأنموذج. ولقد ثبت عدم احتمال بنية النظام السياسي اللبناني له، وثبتت قدرته على تعطيل الحياة السياسية، وصولاً الى حوادث أيار المؤسفة، وما يمكن أن يحصل الآن من تداعيات قرار إطلاق الضباط الأربعة.
لذلك نجد أن إنقاذ الحياة السياسية اللبنانية وإرساء الديمقراطية يتطلبان التنوع والتعدد العابر للطوائف والمذاهب وإرساء حقوق المواطن الفرد المستقل، والعمل على سن القوانين المساعدة على ذلك، بدءاً من قانون انتخاب يلحظ التمثيل النسبي وقانون أحوال شخصية مدني وقانون يجيز الزواج المدني.
لذلك يمكن اعتبار التأسف على انقسام الموارنة والمسيحيين، الذي يضعفهم في مواجهة المسلمين الموحدين نوع من العودة إلى الوراء، فالمسيحيون، كما المسلمون، يستحقون ألا يحتكروا من قبل عدد محدد من الأشخاص.. ولطالما تسبب اختصارهم بشخص بأخذهم وأخذ لبنان تاريخيا الى المآزق. لذا يجدر مساعدة الشيعة على الخروج من قبضة التسلط والاحكتار من أجل مصلحة الوطن التي تسبق مصلحة الطوائف جميعها.

كاتبة من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى