صفحات مختارة

فى أصول الانتخابات المصرية

شريف يونس
كل خمسة أعوام تتجدد المناقشات فى صفوف أحزاب المعارضة: هل نقاطع الانتخابات أم نشارك فيها؟ الحجج، سواء للمقاطعة أو المشاركة، هى هى. على الطرف الآخر تثور الصراعات داخل الحزب الوطنى: من الذى سيرشحه الحزب ويعطيه دعمه فى كل دائرة من الدوائر، والصراعات والنتيجة بالطبع هى هى: الوطنى يفوز باكتساح سواء بمرشحيه أو “مستقليه”. والنظام يتدخل فى كل المراحل، من تمييز مرشحى الوطنى بوضعهم على رأس القائمة، إلى تقديم كشوف قديمة للجان الانتخابات للمعارضة لتضليل جمهورها، إلى منع الناس من دخول اللجان، إلى تقفيل الصناديق أو حتى استبدالها.. وهى ممارسة أصبحت أشبه بعرف عام يشارك فيه الكثير من المرشحين ومندوبيهم.
دعنا الآن مما يسمى “المشهد السياسى” الحزبى، فهناك ظواهر أكثر أهمية تتعلق بالجمهور. أولها أن المشاركين فى الانتخابات (بما فى ذلك التزوير وأصوات الموتى، أو يصوتون بحكم وظائفهم، حيث يجلبهم أصحاب الشأن من الوزراء ووكلاء الوزارات للتصويت لصالحهم حال ترشيحهم، الخ) لا يتعدون كثيرا نسبة 20% من عدد الذين يحق لهم التصويت (أى سواء كانوا مسجلين فى كشوف الانتخابات أو غير مسجلين). وثانيها أن نسبة التصويت فى الريف أعلى بمراحل من المدينة، أى كلما قل الوعى السياسى زادت المشاركة. وثالثا أن معظم المرشحين وغالبية الناجحين الساحقة لم تقدم للجمهور فى مرحلة الدعاية أى برنامج سياسى، بل وعود بخدمات معينة، أو حتى نقود مباشرة مقابل التصويت. ومعظم اللافتات تتحدث عن خصال المرشح الحميدة وتقدم صورته الكريمة لا غير.
*
ولكن الغرض هنا ليس تقديم تفاصيل هذه الصورة، فهى من قبيل المعلوم من الحياة المصرية بالضرورة. القضية هى تفسير هذا المشهد، خصوصا أنه من المشاهد العنيفة، كما نرى الآن، فلا تكاد تمر انتخابات بلا ضحايا، بما يعنى أنه برغم كل ما قلناه ثمة شىء ما يتقاتل عليه الناس. كذلك تتجشم الحكومة إجراء الانتخابات وتتعرض لمتاعب لا تنتهى من المعارضة ومن “كوادر” الحزب الوطنى، قبل وأثناء وبعد الانتخابات، برغم أن البرلمان لا يمكن وصفه بأنه الآلية الأساسية لصياغة القرارات أو التشريعات أو تحديد السياسة العامة للدولة. بل وصل اهتمام النظام إلى صياغة مادة دستورية طويلة عريضة تتعلق بإنشاء لجنة عليا للانتخابات، يتحكم فى تشكيلها، وعدَّل المادة 88 من الدستور لتجنب إشراف القضاة على عملية الانتخاب الفعلية. لماذا كل ذلك؟
هناك تفسيرات معروفة ومتداولة: الجمهور المشارك يحارب من أجل العصبية أو المكاسب الجزئية (من قبيل تطهير ترعة أو إقامة مدرسة أو شق طريق أو حتى المطالب الشخصية) التى يعد المرشحون بتلبيتها. والمرشحون يبحثون عن الحصانة أو المكانة. والحكومة يقال إنها تريد أن تبدو فى مظهر ديمقراطى أمام العالم، أى لتقدم نفسها كممثل شرعى للشعب المصرى بالمعايير الديمقراطية العالمية، أو يقال ببساطة أنها تتصرف على هذا النحو لأنها ديكتاتورية.
هذه الإجابات ليست خطأ، ولكنها ناقصة، تركز فحسب على ما يعتبر مصالح شخصية أو عصبوية تتدخل فى الانتخابات وتوجهها. ولكن لو اعتبرناها إجابة دقيقة ستكون مضللة، لأن ما يفلت منها هو بالتحديد السؤال الرئيسى: ما هو منطق هذه الانتخابات؟ أى، ما دور المجلس النيابى والحزب الوطنى الذى يحتكره فى النظام السياسى المصرى؟ ولماذا يلعبان هذا الدور تحديدا؟ وبصفة أعم: ما هو موقع الانتخابات فى هذا النظام السياسى ولماذا تجرى على هذا النحو؟ هذه هى الأسئلة التى سيحاول هذا المقال أن يقدم إجابة مقترحة عنها.
(1) تأسيس نظام الانتخابات
لكى نعرف دور الانتخابات والبرلمان يجب أن نلقى نظرة على نشأتهما فى النظام السياسى الذى بدأ تشكله فى يوليو 1952. لم يعرف نظام يوليو الانتخابات قبل 1957، ولم يعرف مجلسا منتظما فى انعقاده حتى 1964 (من 1957 إلى 1964 انعقد البرلمان 12 شهرا فى أربع دورات). هذا يعنى ببساطة أن البرلمان لم يكن له أى دور فى تأسيس النظام السياسى، بل أتى ملحقا به فى لحظة معينة ليؤدى وظيفة ما داخله. وبالفعل، نص دستور 1956، أول دساتير النظام الجديد (وهو بالمناسبة شديد الشبه بالدستور الحالى فى الخطوط العريضة وكثير من التفاصيل)، على تحصين جميع القرارات الصادرة من مجلس قيادة الثورة وجميع القوانين والقرارات التى تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها، والهيئات التى أمر بتشكيلها من أى طعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها. بعبارة أخرى، كل ما أقامه النظام وقرره فى ظل حالة الطوارئ يعلو على مؤسسات الدستور جميعا، بما فى ذلك البرلمان بالطبع.
لماذا إذن إنشاء برلمان أصلا، ما دام دوره لا يُقصد بنص الدستور أن تكون له ولاية تشريعية أصيلة، ولا كان بمثابة جمعية تأسيسية (أى تضع الدستور) لإعادة تأسيس النظام كنظام ديمقراطى؟ أجاب الضباط الأحرار بوضوح على السؤال: مشاركة الشعب فى الثورة. فعلى حد تعبير عبد الناصر قبلها، “مش ممكن أبدا نجيب [:نُحضر] عشرة [أفراد] ونقول لهم يباشروا أمور هذا الشعب، وكل الشعب دا مالوش دعوة [:لا دخل له]… لأن النتيجة الحتمية لهذا أن يتجه هذا الشعب إلى السلبية… العملية هى عملية بناء القاعدة… نبدأ نِظهِر قيادات جديدة” (6 يوليو 1955).
فالدستور والمجلس المنبثق عنه كان عليه أن يؤدى وظيفة معينة، هى تكوين قاعدة شعبية للنظام الجديد، لا منح السلطة للجمهور لكى يحدد النظام الذى يحكمه أو لكى يتسلم السلطة، ولو بشروط. ومصداقا لهذا شطب الضباط فى انتخابات 1957 52.6% من المرشحين، فضلا عن المئات الذين حرمهم مسبقا من حقوقهم السياسية، وأغلقوا 59 دائرة على مرشح واحد فى كل منها ليفوزوا بما قد نسميه “التزكية الإدارية” أو الحكومية، بل وشطبوا كل مرشحى 5 دوائر ففتحوا باب الترشيح فيها مرة أخرى. بخلاف ذلك تُركت الانتخابات حُرة فى معظم الدوائر. كان الغرض هو برلمان يدعم النظام الجديد، لا برلمانا يشاركه فى السلطة، بأن يجمع جمهورا ليشارك فى الانتخاب، بعد استبعاد كل العناصر التى اعتُبرت غير مناسبة. وقد استمر ذلك المبدأ الحاكم لتشكيل المجلس النيابى حتى الآن. فقط فى البداية كان النظام يتدخل صراحة بحرمان البعض من الحقوق السياسية أو شطبهم، أما الآن فإنه يتدخل جزئيا بشكل قانونى (مثلا عن طريق لجنة الأحزاب والآن اللجنة العليا للانتخابات) وجزئيا بوسائل بوليسية صريحة.
ترتب على هذا الوضع أن الانتخابات كانت بين مرشحين مختلفين، نعم، ولكن كلهم موالين للنظام. وبالتالى كانت منذ البداية مقطوعة الصلة بالسياسة العامة، لأن كل المرشحين موالين للنظام، مهما تغيرت سياساته. وأدى هذا إلى انفجار كبير فى عدد المرشحين. الانتخابات الحالية وما سبقها مرشحوها بالآلاف. نحن نعتبر هذا طبيعيا لأننا نشأنا ووجدنا الأمر هكذا. ولكن حين بدأ تشغيل هذا النظام للمرة الأولى كان صادما وغريبا. لنستمع إلى الكاتب القدير أحمد بهاء الدين وهو يعبر عن صدمته إزاء انتخابات 1957:
“لم يتصور أحد أن عدد المرشحين سوف يزيد عن ألفين [قبل الشطب، على 350 مقعدا] فى جميع أنحاء القطر… هذا فى حين أن الشعارات التى يحملها المرشحون تكاد أن تكون كلها واحدة… مع [:مؤيدة لـ] كل المبادئ التى بثتها الثورة… والمعروف أن تقارب، بل تماثل الشعارات السياسية كان يجب أن يقلل عدد المرشحين!…
لماذا إذن إنشاء برلمان أصلا، ما دام دوره لا يُقصد بنص الدستور أن تكون له ولاية تشريعية أصيلة … يرد عبد الناصر: لكى لا يتجه هذا الشعب للسلبية !!
فى ظل الوضع القديم [:قبل الثورة] كان من الممكن التنبؤ باسم المرشح الذى سيفوز فى كثير جدا من الدوائر. بحكم قوة المرشح العصبية أو قوته الحزبية أو قوة الجهات الرسمية التى تسنده… ولكن خلو الميدان من هذه القوى ترك فى كل دائرة علامة استفهام ضخمة عن أى الناس يمكن أن يفوز… الأمر الذى شجع الكثيرين – جدا – على أن يجربوا قوتهم.
[كما أن] اتحاد الشعارات جعل المفاضلة تدور حول الأشخاص. وفى مقام المفاضلة بين الأشخاص يتسع المجال فى الدائرة لعشرات وعشرات من المرشحين…
السبب الثالث… جعل التصويت إجباريا… [فذلك] سوف يضيف إلى الناخبين كتلة كبيرة لم يسبق لها الاشتراك الجدى فى الانتخابات… ولا شك أن وجودها قد دفع إلى الترشيح عناصر كثيرة”.
ولأن الانتخابات غير سياسية، كان النظام يأمل فى أن تكون المعركة هادئة تماما، نوعا من تنافس “بروح رياضية” بين المرشحين – إن جاز التعبير. لذلك استُبعد مصطلح معركة انتخابية، وحل محله مصطلح “عملية انتخابية”، على أساس أنها عملية تجرى للصالح العام يجب ألا تترتب عليها صراعات تفتت الوحدة الوطنية المفترضة حول النظام، أو تثير استقطابات من أى نوع. كان النظام يواجه إذن منذ البداية نفسها مشكلة مع الانتخابات، لأنه يريد من جهة منافسة على الولاء له، ويريد من جهة أخرى ألا يترتب على الفوز والخسارة أى اهتزاز فى هذا الولاء.
ولكن لماذا يورط النظام نفسه فى هذه الأمور؟ إذا كان النظام يحكم بالفعل، بلا برلمان يُذكر حتى 1964، لماذا هذه المحاولات المتكررة لإقامة برلمان أصلا؟ فكرة تحسين الصورة أمام العالم ليست كافية ولا حتى أساسية. فالعالم بأكمله كان يعرف أن نظام يوليو ليس ديمقراطيا. ولم يكن من شأن البرلمان المشكل بهذه الوسائل (وفى برلمان 1964 باشتراط عضوية الاتحاد الاشتراكى) أن يغير هذه الفكرة، ولا يوجد كتاب محترم فى الاقتصاد السياسى أو العلوم السياسية فى العالم يعتبر نظام يوليو منذ نشأته حتى الآن ديمقراطيا. الفكرة تتعلق ببنية النظام نفسه، أى تنظيم عملية تنافسية، ولكن بين أفراد، لا قوى سياسية، تجعل الناس يلتفون حول النظام.
ولكن، لكى يحدث هذا الالتفاف يجب أن يقدم البرلمان للناس شيئا ملموسا. ما هو هذا الشىء؟ الخدمات المختلفة التى أشرتُ إليها فى البداية. الخدمات فى البلدان الديمقراطية جزء من السياسة العامة للدولة، تحددها أجهزتها وفقا للقواعد التى تنص عليها القوانين التى تسنها البرلمانات. والخدمات المحلية تخص بلديات المدن أو مشيخات القرى التى تحصل على ضرائب خاصة بها يسنها البرلمان. وبالتالى تكون مسألة توزيع الخدمات (بناء مدارس، طرق، الخ)، مسألة سياسية تقرر الأحزاب الحاكمة بشأنها، ليس عن طريق العلاقات الشخصية، ولكن عن طريق القوانين. أما فى حالتنا هذه، تصبح الخدمات عبارة عن مِنَح يقدمها النظام لهذا الفرد أو هذه العائلة أو هذه القرية أو تلك حسب المشيئة. وحتى الأمور التى تنظمها قوانين، مثل تراخيص فتح متاجر أو أكشاك أو وِرَش أو القيد فى المدارس، تنفذ عن طريق التدخلات الشخصية. وبالتالى يجمع النظام حوله مجموعة كبيرة من المنتفعين من مختلف الطبقات الاجتماعية الطامعين فى توزيع الموارد لصالحهم، سواء وفقا للقانون أو بالخروج على القانون، يتنافسون على الحظوة والامتياز، أى على حرمان بعضهم البعض من موارد النظام، الذى يقف حَكَما بينهم يعطى هذا على حساب ذاك.
ولأن هذه هى طبيعة الولاء المنشود والمتحقق، لم تتغير تركيبة البرلمان مع تغير السياسات، ببساطة لأن الولاء للنظام هنا ليس سياسيا أصلا. فمثلا لم يترتب على ما سماه السادات “ثورة التصحيح”، التى تخلص فيها من أحد أجنحة النظام المهمة، سوى طرد بضعة عشر عضوا من البرلمان، كانت مصالحهم وثيقة الصلة بالمجموعة المطرودة. وقد سبق لعبد الناصر أن أوضح لأحد رجاله (ثروت عكاشة، وهو ضابط حر ووزير الثقافة)، أن النظام الذى يحكمه عبارة عن إقطاعيات، كل إقطاعية منها عبارة عن مؤسسة من مؤسسات الدولة والنظام: الاتحاد الاشتراكى، مجلس الأمة (مجلس الشعب حاليا)، الجيش، القطاع العام، البيروقراطية، الخ. باختصار، كانت عملية توزيع الموارد عن طريق الروابط الشِلَلية والمصلحية هى الطريقة المناسبة لهذا النظام الذى ظل حتى الآن عبارة عن حكومة سرية، أو “حُكم العَشَرة”، كما أسماه عبد الناصر، حكومة مشكلة من أطراف قليلة، لا تضم حتى من الوزراء سوى قلة، تعمل من خلف مؤسسات الدولة، أو بالأدق من فوقها.
وبصفة عامة وُجِد من البداية نوعين من التنظيمات لأداء وظيفة تدعيم النظام شعبيا، أحدها يسمى “التنظيم الشعبى”، أى “الاتحاد القومى” (1957- 1963) الذى أصبح اشتراكيا (1963- 1977) ثم أصبح حزب مصر ثم الحزب الوطنى الحالى (1978- )، وأحدها هو المجلس النيابى، وساحته الخلفية، أو فروعه التى تجرى فيها التدريبات: المجالس المحلية. وكلها تنظيمات تقوم على انتخابات، على الأقل فى المستويات الدُنيا. ولكن المجلس النيابى مختص بالتشريعات، ولذا فإنه يضم أيضا أفرادا من الصف الثانى والثالث، وأحيانا الأول، فى النظام المركزى. وهؤلاء، مثل الوزراء أو رجال رئاسة الجمهورية، عليهم أيضا أن يشاركوا فى توزيع المغانم المحلية باستعمال سلطتهم. ولكن وجودهم ضرورى لإدارة المجلس أولا، وإجراء مناقشات للقوانين المحورية التى لا تتعلق بالخدمات، والتى يشارك فى مناقشتها عدد قليل من الأعضاء عادة. وحين كان الاتحادان القومى والاشتراكى ذوى عضوية مليونية وتتشكل لجانها الدُنيا بالانتخابات، كان ثمة تداخل فى الوظيفة بين التنظيم الشعبي والنيابي، وهو اشتباك تم فضه فى عهد السادات بإقامة الأحزاب (1976- 1977)، حيث أصبح المجلس ابن انتخابات بين أحزاب مختلفة، لا فرعا من الاتحاد الاشتراكى.
(2) مشكلات النظام وتشكل الأحزاب
وفقا لهذا المنطق، أى منطق انتخابات الوحدة الوطنية (بالمعنى الشامل، وحدة الجميع خلف النظام، لا وحدة المسلمين والأقباط)، كان النظام يعمل على استيعاب كافة التيارات فى منظماته، شريطة أن تعمل من داخله ومن أجله، بلا طموح سياسى، وكأفراد غير منظمين كتيارات. ومع إجراءات التأميمات وما بعدها، أصبح وجود أجنحة مختلفة داخل النظام أكثر وضوحا، ولكنها أيضا لم تتبلور بشكل تنظيمى، بل كانت عبارة عن تكتلات وشِلَل مبنية على الولاء الشخصى، تدفع مثلا فى اتجاه مزيد من التأميمات، أو بالعكس، وقفها وإتاحة المجال للقطاع الخاص، أو تنادى “بالاشتراكية الإسلامية”، وهو مصطلح شائع آنذاك، أو باشتراكية لها روابط أقوى مع المعسكر الشيوعى القائم آنذاك، الخ. ولكن ملايين الاتحاد الاشتراكى لم تكن لها روابط بأى من ذلك، معظمها كان عضوية اسمية.
مع دخول النظام فى أزمة اقتصادية عميقة فى 1964 وما بعدها، كان من معالمها فشل الخطة الخمسية فى السنتين الأخيرتين منها، أخذت عيوب النظام تتضح، وعلى رأسها أن الجمهور الذى تم إبعاده عن السياسة أصبح لا هم له سوى المطالب المعيشية المباشرة، بينما الكوادر الوسيطة المتصلة بالجمهور منهمكة فى بناء الشِلَل والتكتلات غير السياسية، بلا أية رابطة سياسية بالنظام سوى إعلان سطحى للولاء. ولذا فكر عبد الناصر عدة مرات فى إنشاء حزبين من داخل الاتحاد الاشتراكى، أو إنشاء معارضة داخل مجلس الأمة. وكان من شأن هذه الفكرة إنشاء نواة مجال سياسى عام من داخل النظام، لأن الحزبين سيكونان فى هذه الحالة شرعيين، يمثلان يسار ويمين النظام، بينما يبقى عبد الناصر حكما فى موقف شبه محايد. وكان المأمول أن تنتهى حالة السلبية أو “حكم العشرة” بناء على ذلك، برغم أن هذا النظام ليس بطبيعة الحال نظاما حزبيا حرا بالمعنى المفهوم. فى النهاية تم صرف النظر عن الموضوع، لأن النظام لا يحكم أصلا بالبرلمان، ومن شأن تغير كهذا أن يمس طبيعته بشدة، لأنه يعنى تنظيم تيارات النظام على أساس سياسى، لا شِلَلى.
فى منتصف السبعينيات، دعا السادات لإنشاء منابر رأى داخل الاتحاد الاشتراكى، فتشكل نحو 40 منبرا. ولكن السادات أدمجها فى 3 منابر، يمين ويسار ووسط، ووضع ضابطا على رأس كل منبر. وأُجريت الانتخابات النيابية على هذا الأساس فى 1976، ثم أعلن فى خطاب تحويل المنابر إلى أحزاب، معتبرا أن “التجربة الديمقراطية”، كما أسماها، قد نجحت. كان كل المرشحين أعضاء فى الاتحاد الاشتراكى. ولكن منبر اليسار فاز بمقعدين، واليمين باثنا عشر مقعدا، والوسط، تيار النظام، بحوالى 260 مقعدا، وبالباقى لمستقلين من أعضاء الاتحاد. وفى واقع الأمر كان “الوسط” هو يمين النظام الذى كان قد انتصر فى صراع السلطة عام 1971، فيما يُعرف بثورة التصحيح. وكان الجناح اليمينى قد تزايد نفوذه وحظى بدعم عبد الناصر منذ 1966، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية وفشل اليسار فى التعبئة السياسية فى ظل النظام الأمنى.
تختلف هذه الخطوة عن فكرة عبد الناصر التى لم ينفذها. فمغزى الأحزاب الثلاثة هو قيام حزب واحد (لا حزبين) للنظام، ومعارضة على الجانبين. ولحرمان المعارضة، خصوصا اليسارية القوية نسبيا آنذاك، من موارد الدولة فك السادات الاتحاد الاشتراكى، تاركا أحزاب المعارضة ومعها بعض المقرات والموارد القليلة، وتخلص من منبر الوسط الذى سُمى “حزب مصر العربى الاشتراكى”، وأقام “الحزب الوطنى الديمقراطى”، برئاسته، ليستكمل مشروع إنشاء حزب للنظام، يحكم دائما وأبدا بالضرورة (ومع إلغاء الاتحاد الاشتراكى أقام مجلس الشورى ليتولى ملكية الصحف “باسم الشعب”).
من اجل كرسى فى البرلمان
ولكن جرثومة لا سياسية النظام أصيلة. فالحزب الوطنى أيضا لم يكن حزبا بالمعنى المفهوم. فهو لا يتجمع حول مبدأ أو سياسة معينة، ولا تجرى فيه مناقشات سياسية، ولا يتشكل بطريقة ديمقراطية من أسفل إلى أعلى. بل يترافق نظامه الانتخابى الداخلى، حال تطبيقه كما هو حاصل الآن، مع تعيين أماناته المتحكمة فيه من أعلى، تماما مثل الاتحاد الاشتراكى. وبالمثل ظل جمهوره الأساسى من المنتفعين الذين يؤيدون النظام بغير أساس سياسى، بل للحصول على خدمات معينة، سواء للدائرة أو القبيلة أو الشخص. وبالتالى أصبح ما نسميه الحزب تجاوزا (لأنه المصطلح الشائع ليس إلا) يستند إلى نفس القاعدة من شبكات المصالح المحلية والفئوية والعائلية، الخ، التى لم تتأثر بأية تطورات فى سياسات النظام، سواء الداخلية أو الخارجية. ولكن مع الوقت، وبفعل هذه التغيرات، أصبحت هذه الشبكات أكثر تنظيما ورسوخا، معتمدة على شراء الصوت الانتخابى بالخدمات، ومؤخرا بالمال (خاصة فى المدن) بشكل متزايد. وظل معظم السكان خارج هذه العملية، تماما مثلما كانوا خارجها وقت عضويتهم الاسمية فى الاتحادين القومى والاشتراكى.
مع التحول المتزايد إلى اقتصاد السوق، عاد الاستقطاب مرة أخرى، لأن إعادة توجيه الموارد أضرت بأطراف لصالح غيرها. وأصبح احتفاظ النظام بشبكات مصالحه يعتمد بشكل متزايد على دافع سلبى، لا دافع إيجابى، بمعنى أن الحصول على قدر متناقص من موارد النظام أفضل من لا شىء، أو ببساطة لأنه لا يوجد بديل. كما أن مناخ التعدد الحزبى سمح مع ذلك بقدر متزايد من الحوار السياسى فى المجتمع. وبالتالى تغيرت الخريطة جزئيا بما فتح مساحة أتاحت صعود جماعة الأخوان المسلمين التى استعملت نفسه الآليات (والحقيقة هى التى كانت قد اخترعتها أصلا منذ الثلاثينيات)، فأقامت شبكاتها الخاصة من الخدمات، وأصبحت منافسا قويا فى هذا السوق. ومؤخرا، أصبحت الكنيسة، بفعل شبكتها الخدمية الكفؤة، مركز ثقل انتخابى مُعلَن.
ظلت الانتخابات إذن متمحورة حول المطالب اللا سياسية، لأن البنية العامة للنظام ظلت كما هى. وحتى نواب الأحزاب المعارضة لا تقوم ولا تستمر عضويتهم فى البرلمان بغير الدخول فى هذه الشبكات. لذلك ظل مطلب نواب المعارضة المستمر هو المساواة مع أعضاء الوطنى فى الحصول على التأشيرات من الوزراء، باعتبارهم، كما يقولون، جزءا من النظام الذى ينص على تعدد الأحزاب. ويتمثل الفارق فى أنهم يقدمون استجوابات للحكومة بينما يسمح الوطنى لنوابه “ببهدلة” وزرائه بأية طريقة أخرى عدا الاستجواب. أما الأخوان والكنيسة، فيعتمدان بدورهما على شبكاتهما الخدمية.
يترتب على ذلك نتيجة أخرى، هى أن التصويت على أساس سياسى (وهو ظاهرة نادرة توجد أساسا فى المدن ضعيفة الصلة بالانتخابات أو ترتبط بالمرشحين اليساريين تحديدا)، يكون غالبا تصويتا سلبيا، أى بمنطق “ضد الحكومة”، بهدف إسقاط مرشحها، تعبيرا عن السخط على سياساتها العامة، لا تأييدا واعيا لبرنامج بديل بعينه. فنظرا لأن مرشح المعارضة يخسر الانتخابات غالبا، يكون هدف التصويت فى الحقيقة هو “الكيد” للحكومة المكروهة، لا الأمل فى تغيير الأحوال، لأنه حتى بفرض نجاح مرشح المعارضة ستكون أقصى إمكانياته إحراج الحكومة باستجواب ما، أى عمل أقرب إلى الدعاية منه إلى السياسة، لا يخرج أثره عن أثر تحقيق صحفى أو حملة صحفية، بل تتلخص قيمة الاستجواب فى تلقف الإعلام لما يقوله.
(3) أزمة الحزب الوطنى
المشكلة التى يواجهها النظام مع مجالسه النيابية وانتخاباتها قديمة، أشار إليها الكثيرون فى حينه، بل تناولها بقدر من التفصيل عبد الناصر نفسه فى 16 مايو 1965 (وهو ما جعله يفكر فى نظام الحزبين أو إنشاء معارضة). لنكتفى هنا بهذا الاقتباس الدال:
“طبعاً احنا وضعنا فريد، لأنـ[نا] أطلقنا الترشيح على أساس إن دا [:هذا] يساعد على إظهار قيادات، ونزلت فى بعض الدوائر 10 و12 [مرشحا]… طبعاً كل واحد بيعتقد إن هو جا [:أتى، أى حصل على عضوية البرلمان] من القاعدة… مش الحزب هو اللى جابه [:أتى به]… فإذن كل واحد حيحاول [من أجل الانتخابات القادمة] إرضاء القاعدة الشعبية بتاعته بكل الوسائل… حيقولوا له ما اتبنتش مدرسة ليه؟ مش كده؟! مش  حيقول لهم إن الفلوس ما بتكفيش والميزانية ما بتكفيش، وإن الخدمات لازم تكون بالدور وكذا، أو يقول لهم نزود الضرائب علشان نبنى لكم مدرسة، الوضع [فى] الحقيقة وضع غريب طبعاً”.
غرابة الوضع ناتجة من أن السكان لا يتحملون مسئولية سياسية بفعل غياب الديمقراطية. وبالتالى المتاح لهم أن يطالبوا النظام بصفته المسئول وحده، باعتباره حكم القلة، عن تلبية المطالب. وبالتالى يصبح النائب أداتهم فى هذه العملية، ليتحول العضو يتحول من ممثل للاتحاد الاشتراكى إلى ممثل للدائرة فى مواجهة الحكومة، وعند أى تعثر فى تلبية المطالب يبرئ نفسه بأن يلقى باللوم على النظام. الانتخابات والمجلس يمنحان النظام بطريقة غير مباشرة قاعدة شعبية لها مصالح مشتركة معه، ولكن هذه المصالح تتحول إلى أداة ضغط غير مسئول، بالضرورة، عليه. كان استمرار هذا الوضع إذن نابعا من صميم طبيعة النظام. ولكن بقدر ما يشكل هذا الوضع ضغطا، بقدر ما كان ضروريا لاستمرار النظام بهذا الشكل (كنظام لا سياسى)، لأنه يكرس إلغاء السياسة بجعل الضغط العام محصورا فى قضايا المدارس والطرق وما إلى ذلك، وترك القرار السياسى للحفنة الحاكمة.
تفاقمت هذه المشكلات مع الانحسار المتزايد لشرعية الحكم وشعبيته، ومع المأزق الاقتصادى والسياسى المزمن، فأصبح عليه لمجرد أن ينجو من الإفلاس التام أن يتبنى اتجاها بعينه، وأن يقدم نفسه كتمثيل لمصالح بعينها، هو الآن الاتجاه المسمى الليبرالية الجديدة (بتحفظات سبق أن أشار لها سامر سليمان فى عدد سابق من البوصلة). وقد وجدنا إرهاصات لهذا فى فكرة عبد الناصر عن الحزبين، ثم النظام الذى أرساه السادات.
المشكلة الجوهرية هنا لا تأتى  من المعارضة، بل من صميم بنية النظام نفسه. الدولة البوليسية تكفل استمرار النظام واستقراره معا، وتستبعد المعارضة بسهولة، ولكنها لا تكفل كفاءته. أصبح النظام فى سعيه لبناء قاعدة مستفيدة يتفسخ بشكل متزايد، سواء فى الجهاز الحكومى، حيث يتابع الموظفون مصالحهم الخاصة (الرشاوى، المجاملات المتبادلة، الخ)، أو على صعيد قواعده “الشعبية”. وفى سياق الأزمة تعاظمت حاجته إلى تشديد قبضته على أطرافه المتسيبة، أى الحد من التفسخ.
بالفعل حاول النظام مرتين اللجوء إلى وسائل جذرية لتحقيق ذلك، فيما يتعلق بالقاعدة الشعبية، عن طريق إدخال نظام القائمة النسبية (فى 1984 و1987)، التى تتيح له التحكم فى مرشحيه، فيضع من يشاء فى القائمة ويستبعد من يشاء، ليفرض انضباطا على أطرافه ويقلل الضغط عليه. فمن شأن ذلك إضعاف وضع المرشح، وبالتالى النائب، لأنه يدين بترشيحه بالكامل للنظام، بما يحرمه من فرص الضغط الجزئى على النظام بقاعدته الانتخابية المحلية. وهو تصور يتناقض مع طبيعة النظام، الذى يقوم على فكرة مرشح الخدمات، المستقل واقعيا بالضرورة، ولكن تحت لافتة الحزب الوطنى.
لم تكن مشكلة النظام مع نظام القوائم هى المعارضة. فبالطريقة التى وضعها، أى باستبعاد تكوين قوائم لما يسمى المستقلين، للتأكيد على حرمان أعضائه الآخرين من المشاركة فى الانتخابات، وكذا “الجماعة المحظورة”، وبرفع النسبة المطلوبة من الأصوات للتمثيل الحزبى فى البرلمان وحظر تكوين قوائم مشتركة بين الأحزاب، بما يحول دون حصول المعارضة على نسبة تهدد احتكاره لأغلبية تفوق الثلثين فى المجلس النيابى، بهذا كله كانت مطالبه متحققة. كان الثمن أن تحصل المعارضة على عدد كبير نسبيا من المقاعد، فى هذه الحدود، ولكن هذا لم يمثل مشكلة بالنسبة للنظام، بل ساعده على توفير “شكل” ديمقراطى فى البرلمان دون أن يلقى مشكلة مع أنصاره أنفسهم. فى الواقع تم التخلى عن نظام القائمة اضطرارا بسبب حكم المحكمة الدستورية فى المرتين بعدم دستورية القوائم، فاضطر النظام للتخلى عن المحاولة.
منذ عام 1990 وحتى 2005 عادت الانتخابات إلى النظام الفردى، لتكشف بشكل متزايد عن عجز الوطنى عن السيطرة بوسائله المالية والبوليسية على أعضائه. بالنسبة للمعارضة، كان موقفها فى الانتخابات الفردية المتعاقبة ضعيفا أصلا، بسبب طبيعة الانتخابات نفسها. وبالنسبة للأخوان الذين يلعبون نفس اللعبة ويتمتعون بسمعة أفضل هناك الحل البوليسى. المشكلة هى فى أعضاء الوطنى أنفسهم. فمن لم يرشحه الحزب ويستشعر فى نفسه قدرة على الفوز، بسبب تمتعه بثقل محلى، بما فى ذلك علاقاته بشبكات السلطات المحلية، يتقدم “مستقلا على مبادئ الحزب الوطنى” (وهى بالمناسبة مبادئ غير معروفة)، ويهزم مرشح الحزب المرضى عنه، وبالطبع يدخل الهيئة البرلمانية للحزب، لكى يستطيع أن يواصل تقديم الخدمات لأنصاره ولنفسه وللدائرة. ولكن يدخله فاتحا. ووصلت المهزلة إلى حدها الأقصى فى انتخابات 2005، حين حصل مرشحو الوطنى المستقلون، على 161 مقعدا، بينما حصل مرشحو الحزب الرسميون على 146 مقعدا فقط.
يدل هذا الوضع على أمرين: أولا، أن “جمهور الوطنى” وكوادره من طالبى المصالح هو الجمهور الأكبر المشارك فى الانتخابات. هذا ما يفسر لنا أنه، على خلاف المتوقع، لم تؤد منافسة أعضاء الوطنى المتنافسين (الرسميين و”المستقلين)، إلى فوز المعارضة (ولكن فى بعض الدوائر فاز الوطنى بالتزوير المباشر المكثف ضد المعارضة). وإذا أضفنا أن الأخوان (88 مقعدا) ليسوا مجرد ممثلين لمبادئ، بل أيضا لشبكة خدمات، تتغلغل حتى داخل أجهزة النظام المحلية بالعلاقات الشخصية والتعاطفات، وأن الكنيسة تدعم مرشحى الوطنى بصرف النظر عن برامجهم، لمواجهة الأخوان، يتضح تماما لماذا لا يمكن أن تكون الانتخابات سياسية أصلا. وثانيا، أن قدرة النظام على التحكم فى قواعده معدومة، لأن شبكة المصالح التى تتمتع بها هذه القواعد متغلغلة فى أجهزة النظام المحلية نفسها، وبالتالى يصعب عليه حتى التزوير ضدها، إلا بإرسال قوات كثيفة من خارج الدائرة سيعتبرها السكان نوعا من الاحتلال وتترك عواقب سلبية طويلة المدى.
وهناك ظاهرة أخرى لا تقل خطورة، وهى تزايد رجال الأعمال فى المجلس. ليست مشكلة وجودهم فى المجلس هى صفتهم، بل فى أنهم لا يمثلون أحدا، ولا يمثلهم أحد. فهم لا يمثلون رجال الأعمال كمجموعة، لأنهم شكلوا ثرواتهم إما بشكل مستقل تماما، وإما، فى معظم الأحوال، عن طريق علاقات تبعية بأصحاب السلطة، بالإضافة إلى ضعف تنظيمات وتضامنات رجال الأعمال ككل. هم باختصار أقرب لمجموعة منتفعين، يمثلون أنفسهم، لا ممثلى طبقة.
الأخطر من ذلك هو أنهم يحصلون على مقاعدهم بنقودهم. هذا يعنى أنهم ليسوا ملزمين بمتابعة مشكلات الدائرة وحلها، لأنهم دفعوا ثمن المقعد مقدما. وبالتالى دوائرهم تعتبر فعليا خالية، نقاط ضعف فى بنية النظام. فكما قلنا، كان الغرض من نظام الانتخابات الذى دشنه نظام يوليو تأمين النظام بجمع النشطين من السكان حوله من أجل الخدمات، بما يمنع تسيسهم بطريقة أخرى. والحال أن شراء المقاعد ينسف الفكرة من جذورها، لأن نقطة البداية هى نقطة النهاية فى العلاقة بين النائب والناخب، باستثناء هدايا ومِنَح فى المواسم، خاصة قرب حلول الانتخابات التالية.
فى الانتخابات الجارية، قرر الحزب الوطنى أن يعالج هذه المشاكل بأن يتحكم تماما فى الترشيحات عن طريق الحصول على إقرار من كل “مرشح للترشيح” – إن جاز التعبير – على حق الحزب فى سحب أوراق ترشيحه، لتلافى ترشيح من سيستبعدهم الحزب، والقيام بنوع من استطلاعات الرأى لتجنب ترشيح شخصيات مكروهة تكتفى بدفع ثمن الأصوات وتترك الدائرة فعليا للأخوان أو غيرهم. وقد نجح الحزب فى إجبار أعضائه على تقديم هذه الإقرارات، ولكن بالمقابل وجد أن عليه أن يقدم بنفسه تنازلات، فانتهى إلى ترشيح 790 مرشحا على 508 مقاعد، بمتوسط 1.55 عضوا لكل مقعد، بما يعنى أن يصارع الوطنى نفسه، بتصريح رسمى، فى 150 دائرة من 222.
لقد انهالت التعليقات الساخرة فى الصحف المستقلة والمعارضة على هذا الإجراء باعتباره اختراعا عجيبا. ولكن المسألة فى الواقع مفهومة تماما، إذا وضعنا فى اعتبارنا أن الوطنى ليس حزبا بالمعنى المفهوم، بل كما رأينا وسيلة لتجميع جمهور موالٍ للنظام على أساس المصالح الضيقة، لا على أساس سياسى، وبصفة خاصة إذا وضعنا مواجهته لمشكلة تفتت قواعده بين مراكز قوى محلية متنافسه. وبهذا المعنى، يعتبر هذا الإجراء مناسبا تماما من حيث أنه قوَّى قبضة النظام على ترشيحاته بالمقارنة بالانتخابات السابقة منذ 1990.
لا ناقة لهم ولا جمل
ولكن حتى هذا النجاح الجزئى كشف تفكك قاعدة النظام وكوادره بشكل أخطر. فالمستبعَدون أخذ كثير منهم يتظاهرون، وطالب بعضهم بإعادة قيدهم فى جدول المرشحين، وهدد بعضهم بدعم مرشحى الأخوان (نادرا ما تأتى سيرة أحزاب المعارضة الرسمية فى هذه السياقات)، بما يدل على فشل الإجراء فى مواجهة حالة التفسخ الشديدة التى يواجهها النظام فى “قاعدته الشعبية”.
أضف إلى ذلك أن التفسخ التنظيمى يحول بين الحزب (وفى الحقيقة النظام باسم الحزب) وبين عقد صفقات مع المعارضة. فإذا افترضنا مثلا أن النظام رأى أن من مصلحته منح 30 مقعدا للوفد أو غيره، لن يكون فى مقدوره تحقيق ذلك، إلا بالتزوير المباشر (وهو ما حدث بالفعل فى انتخابات سابقة)، لأن عضو الحزب الوطنى، الذى هو مستقل فعليا، لن يسلم مقعده من أجل عيون الحزب، لن يسلمه إلا حين تهزمه قوة التدخل البوليسى المباشر، وهو أمر له عواقبه.
ولكن المشكلة أكبر من ذلك: النظام عاجز عجزا بنيويا عن تحقيق هدفه فى السيطرة على ترشيحاته. دعونا نفترض أنه أقدم على ذلك. لنتصور مثلا أن النظام قرر استعمال نظام القوائم، وتحكم تماما فى الترشيحات، بما يتيح له اختيار رجاله، بل وإنجاز صفقة مع بعض أحزاب المعارضة. ماذا سيحدث؟ سيدفع الثمن غاليا حين ينتفض المستبعَدون، بما سيُدخله فى نزاعات تمتد فى طول البلاد وعرضها مع هذه العناصر الساخطة الراسخة المكانة فى دوائرها، الذين لن يتركوا وسيلة للانتقام إلا واستعملوها. وقد رأينا بوادر ذلك بالفعل فى الأحداث الأخيرة حين خصص الحزب حوالى نصف المقاعد لمرشح واحد لكل منها. فالشبكة المتصلة بالانتخابات قد أقيمت من البداية كساحة تنافس على المصالح بشرط تأييد النظام، وتحويلها إلى نظام الحزب الواحد (كثير من المحللين يعتبرون النظام نظاما للحزب الواحد، لا أدرى على أى أساس)، يتطلب ثورة على الثورة، وهو أمر لا يدخل ضمن إمكانيات النظام.
باختصار، لا يتمتع النظام بفرصة حقيقية فى المدى المنظور لتغيير منطق الانتخابات، بل فقط القيام ببعض المناورات المحدودة، والمتناقصة، داخله. أما الإصلاح الجذرى للنظام، من داخله، فلا أجد له أفقا يتسق مع منطقه سوى اقتراح عبد الناصر القديم، أى أن ينقسم بشكل رسمى إلى حزبين، يمكن أن نسميهما الحرس القديم والحرس الجديد، وفقا للتعبيرات السائدة الآن. ولكن شبكات المصالح نفسها ليست منقسمة بهذه الطريقة؛ ولا يوجد لأحد المعسكرين، بفرض تبلوره التنظيمى أصلا، مشروع أو خطة مختلفة جذريا عن الآخر؛ والبلاد تمر بمرحلة حرجة، ليس فقط بسبب الرئيس المسن، ولكن أيضا بسبب التكلفة الاجتماعية المتزايدة لمشروع التحول إلى اقتصاد السوق، وبالتالى تزايد السخط؛ كما فقد النظام هيمنته على الساحة الإعلامية، وأصبح القبول به يقوم على مبدأ أنه أفضل ما هو سيئ، والأخوان يترصدون مستفيدين من هيمنة الخطاب الدينى ومن السخط. إذن، يبقى الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر، أى حتى يتعرض النظام لتهديد جدى. باختصار الفقر السياسى هو قَدَر هذا النظام، سمة مطبوعة فى خلقته منذ نشأته.
أما أحزاب المعارضة فليست عندها الموارد للمنافسة على تقديم الخدمات أو حتى الرشاوى، ولكنها قد تحصل على بعض المقاعد القليلة بالترابطات العائلية والمصلحية، أو بمساعدة النظام فى دوائر محدودة يرى أن إغضاب مرشح الوطنى فيها لن يسبب ضررا كبيرا. أما برامج أحزاب المعارضة وشعاراتها، فمسألة لا علاقة لها بمنطق الانتخابات الحالى، بل مكانها الطبيعى فى الإعلام الذى حققت فيه ككل (أى ليس هذا الحزب أو ذاك)، انتصارات مهمة ولكن سلبية، بشيوع حالة النقد الساخط على النظام والتشهير به. لقد ترك لها النظام ساحة الإعلام واسعة، وها هى تصول فيها وتجول، أيضا حتى إشعار آخر.
وأخيرا، تواجه البلاد بمجملها مشكلة انعكاس الطائفية على نظامها الانتخابى. فهيمنة منطق الخدمات، وصعود الإسلام السياسى وسجله الطائفى النزعة وتهديده المستتر (برغم محاولات الأخوان لتجنب الوصمة الطائفية) يجلب الأقباط، بل وكثير من العلمانيين، إلى تأييد النظام فعليا. ولكنه ليس تأييدا لسياساته، ولا لمرشحيه. وبالتالى لا يُلزم هذا المرشح بشىء، ولا حتى بمراعاة مطالب الأقباط، أو مطالب الكنيسة، إلا على صعيد المجاملات. فالانتخابات بوضعها الحالى لا تترك أمامهم ولا أمام الكنيسة مجالا للخيار. هذا التأييد القبطى والكنسى والعلمانى للنظام هو إذن تأييد سلبى أيضا، تصويت ضد الأخوان. ولكن هذا لا يمنع بالطبع أن له عواقب وخيمة تتمثل فى التبلور الطائفى السياسى للأقباط، برغم نداءات عقلائهم العلمانيين.
والأحداث الأخيرة فى الجيزة تمثل نموذجا بليغا على ما ذكرته هذه الفقرة. فأيا كان مبلغ سخط الأقباط أو الكنيسة على الحكومة، ليس أمامهم سوى خيارين: التصويت للوطنى أو الامتناع عن التصويت. وفى الحالتين تتكرس الطائفية كمبدأ للتصويت ويتكرس الشعور بالعزلة. هذا فضلا عن منطق الحدث نفسه، الذى قام من البداية على مواجهة عنيفة للنظام، ولكن على أساس وبمنطق لا سياسى بامتياز. كان الجمهور القبطى يقاتل بروح الاستشهاد، بلا أى أفق سياسى، حتى فيما يتعلق بالحقوق الطائفية.
أرجو ألا أكون قد أثقلت بشدة على القراء بطرح هذا التحليل الذى يبدو سوداويا لمنطق الانتخابات النيابية المصرية. الفكرة هى أن مواجهة هذه الأزمة الممتدة للنظام السياسى المصرى تتطلب أصلا فهم منطقه وحدود تطوراته. وبقدر ما يوضح ذلك مأزق النظام وانتخاباته، بقدر ما يحدد طبيعة شروط تجاوزه. فالنظام فى النهاية ليس مخلدا، ليس فقط لأنه لا يوجد ما هو مخلد، ولكن لأن ضغوط أزمته البنيوية تتزايد بانتظام. شرط التجاوز نحو أفق ديمقراطى، فيما يبدو لى، بناء على ما سبق، هو التبلور التنظيمى لقوى اجتماعية قادرة على طرح مطالبها السياسية، لا الخدمية، تنشئ بدورها الحاجة إلى تبلور قوى سياسية ليبرالية ويسارية، وإلى تفكيك التبلور الطائفى، بما يضع النظام أمام خيارات سياسية صعبة ويستفز تشققاته الداخلية.
إلى أن يحين الحين، هناك بالفعل عمليات تجرى، تمهد لهذا التحول، بدءا بمحاولة الحزب الوطنى لتنظيم صفوفه وضخ دماء جديدة داخله، مرورا بالجهود البطولية المتواصلة لمرشحى التيارين اليسارى والليبرالى لجذب أصوات اليائسين والمنقادين للتصويت بحكم التبعية أو ببيع أصواتهم، إلى الحركات المطلبية التى لا تتوقف وانتزعت شبه شرعية فعلية.

http://elbosla.org/?p=1813

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى