الدور التركي في المنطقةبكر صدقيصفحات مختارة

ملف الآداب حول تركيا

مقدمة لملف تركيا
* سَدا آلتوغ
تهيمن الكليشيهاتُ القومويّة والاستشراقيّة على معظم الكتابات الأكاديميّة والشعبيّة المتعلّقة بالشرق الأوسط في تركيا. وعلى الرغم من أنّ جلّ هذه الدراسات لم يتمأسسْ بعدُ كحقلٍ بحثيٍّ خاصّ، له مطبوعاتُه ومثقفوه، فإنّه ما زال سجين مُقارباتٍ نمطيّةٍ ومتمركزةٍ حول الدولة ونشاطاتها. ولا تختلف عن ذلك التمثيلاتُ الجغرافيّةُ “البديهيّة” للشرق الأوسط، التي عادةً ما تعتبره مجموعةَ البلدان العربيّة التي حكمها العثمانيّون سابقاً.
خلال العقود الأولى للجمهورية التركيّة الحديثة، غالبًا ما كانت كلمة “عرب” أو “عربيّ”، التي وُظِّفتْ كفئةٍ متجانسةٍ قائمةٍ بذاتها، تثير في مخيّلة النُخب الكماليّة [نسبةً إلى مؤسس الجمهوريّة كمال أتاتورك] صوَر الخيانة السياسيّة والتخلّف الاجتماعيّ والدينيّ. وأثناء فترة الحرب الباردة وما قبلها، تميّزت العلاقة بين “الأتراك” و”العرب،” كما تمّ تخيّلُهم في الإيديولوجيّة الرسميّة، بتزايد البُعد والتغارب. إذ مهّدت الإصلاحاتُ الكماليّة المُغَرْبِنة الطريقَ أمام فقدان الشرق الأوسط لجاذبيّته كمصدرٍ للإلهام الأدبيّ ووجهةٍ أو مساحةٍ لشتّى أنواع التفاعلات. وقد تمخّض ذلك عن شبه انعدام للفضول والاهتمام الجادّ بالشرق الأوسط وإهماله على المستوى المجتمعيّ. وسَرعان ما باتت الحروفُ العربيّةُ تثير في مخيّلة المجتمع التركيّ دلالاتٍ دينيّةً إسلاميّةً فقط. كذلك أدّى ضعْفُ علاقات تركيا الدبلوماسيّة مع الدول العربيّة، وتشديدُ الحدود معها، إلى صورةٍ جوفاءَ للشرق الأوسط تقلّل من شأن غِنى المنطقة الثقافيّ والإثنيّ والدينيّ، ناهيك بالصراعات والتحوّلات التي شهدتها.
لكنّ الحدود التي خطّتها الكماليّة بين تركيا و”مشرقها” بدأتْ بالتزحزح في الأعوام العشرة الأخيرة. فقد شهدت السنواتُ الأولى من الألفيّة الجديدة انفتاحًا وتقاربًا نسبيَّيْن بين تركيا ودول شرقأوسطيّة معيّنة، الأمرُ الذي كان له انعكاسُه على الفاعلين الاجتماعيّين أيضًا. وقد انتمى المبادِرون بالانفتاح إلى المؤسّسة الإسلامويّة المحافِظة الجديدة في تركيا، المتمثِّلة في حزب العدالة والتنمية، الذي يسعى، مستغِلاً تغيّرَ الظروف المحليّة والإقليميّة والدوليّة، إلى أن يكون “قوّة ناعمة” في المنطقة. وإذا كان “الاختلاف” شعارَ النُخب الجمهوريّة، فإنّ فهمًا ثقافويًا لـ “المشترَكيّة،” مع نكهةٍ إسلامويّةٍ ونبرةٍ عثمانيّةٍ جديدة، يشكّل أساس الخطاب الجديد لانفتاح العدالة والتنمية. ومع ذلك، لا تزال جوانبُ معيّنة من عقليّة الدولة الأمنيّة تشكّل الإطارَ المعرفيّ لمصالح الممسكين بزمام السُلطة الجُدد، وبخاصّةٍ في العراق وسوريا المجاورتين. وتتمظهر هذه العقليّة، الجوهريّة بالنسبة إلى المصالح التركيّة الجديدة، في التعاون بين تركيا وحكومتي هاتين الدولتين في ما يتعلّق بالمسألة الكرديّة بشكلٍ خاصّ. ومن نافل القول إنّ انفتاح أسواق دول الشرق الأوسط أمام الصناعات والتجارات التركيّة قد رافق عمليّة الانفتاح السياسيّ هذه.
يشترك كلا الموقفين (الكماليّ والإسلامويّ المحافِظ) في علاقتهما مع الشرق الأوسط، وبالرغم من الانفتاح المحدود في حالة الثاني، في المنظور الدولتيّ ـ النخبويّ – النفعيّ الذي تتّسم به وجهاتُ النظر الأمنيّة الإستراتيجيّة. وتنعكس هذه المقاربات على قطاعاتٍ متنوّعةٍ من المجتمع التركيّ، من مثقفين ومنظمات مجتمع مدنيّ وناشطين من مختلف الأطياف السياسيّة. إذ ليس من النادر مصادفةُ مؤرّخين عثمانويّين [مختصّين بالحقبة العثمانيّة] أو علماء سياسيّين أو صحفيّين لم يعبُروا في حياتهم حدود الدولة التركيّة إلى “مشرقهم” نفسه. بل إنّ أبسط المعرفة اللغويّة والجغرافيّة بالشرق الأوسط، بتشكيلة سكّانه الإثنيّة والدينيّة وأحوال مجتمعاته، لا تزال قضايا تعاني جهلاً أكثر ممّا تعاني سوءَ فهمٍ، كما كانت الحال مع المجتمعات الاستعماريّة الغربيّة القديمة. لا يزال اهتمامُ الأتراك الإنسانيّ الحقّ بمجتمعات الشرق الأوسط، بكلّ تعقيداتها وصراعاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة ونقاشاتها الفكريّة والسياسيّة، شبْهَ غائب، ولا تزال العلاقات والتقاطعات بين قطاعاتٍ حيويّةٍ من مجتمعات الطرفين هامشيّة جدًا.
وبالمثل، فإنّ ما يراه العربُ من تركيا، وكيف يرونه، يتعلّق بالموقع الذي ينظرون منه في الحاضر، والظروف التاريخيّة التي قادتْ إلى تشكّل هذه النظرة. ذلك أنّ المتجمعات الشرقأوسطيّة الرازحةَ تحت حكم أنظمة دكتاتوريّة لم تفِ بوعود أنظمة ما بعد الاستقلال بخلق مجتمعاتٍ حرّةٍ وكريمةٍ ومتساويةٍ ـ بالإضافة إلى تأثير تحدّي الحركات الإسلامويّة لها و”السلامِ” المؤجّلِ أبدًا في فلسطين ـ تنظر إلى تركيا من خلال عدسات تؤطِّرها هذه “الخارجيّات المؤسِّسة.” فلا تمثيل القومويّين العرب لـ “أربعمائة عام من الاحتلال العثمانيّ،” ولا صورة حزب العدالة والتنمية كـ “مخلِّص للفلسطينيّين،” ولا أوهام العلمانيّين العرب عن “تركيا المحظوظة بعَلْمنتها،” تكفي للقبض على واقع الدولة والمجتمع التركيّين. تنتظر هذه التمثيلات أن يحلّ محلَّها فهمٌ أكثر حسّاسيّة للفروق والاختلافات الدقيقة في المجتمع التركيّ. وهذا الملفّ إحدى المحاولات الأولى التي تهدف إلى تقديم نظرة أوسع وأكثر تعقيدًا عن تركيا اليوم، دون أن تنحشر في الكليشيهات التي تهيمن على المنطقة وفي هذا النوع من الدراسات. فمقالات الملفّ تحاول إعطاء صورة نقديّة عن بعض القضايا الخِلافيّة في تركيا، وهي تتعلّق بالدولة، والمؤسسات، والإيديولوجيّات، والحركات الاجتماعيّة. ونأمل أن تتلو هذا الملفَّ التمهيديَّ ملفّاتٌ أخرى ستفتح الباب أمام تفاعلاتٍ مُنتِجةٍ ووجهاتِ نظرٍ نقديّةٍ في مجتمعات كلا الطرفين.
المساهمون في الملفّ مثقفون نقديّون من تركيا والخارج. عمر لاجينَر كاتبٌ معروف ورئيس تحرير المجلة الاشتراكيّة الشهريّة، بيريكيم BİRİKİM، وقد كتب مطوّلاً عن الاشتراكيّة، والليبرتاريّة، والدولة، واليسار التركيّ، والسياسة التركيّة بشكل عامّ. تانِل بورا باحثٌ وكاتب ومساهم دوريّ في بيريكيم، وقد كتب عن القومويّة، واليمين التركيّ المتطرّف، وقضايا سياسيّة تركيّة أخرى. يوكسَل طاشقِن ناشط وأكاديميّ يكتب عن المحافظيّة التركيّة، واليمين واليسار التركيّين، والسياسة الخارجيّة التركيّة. آكسو بورا كاتبة وأكاديميّة نسْويّة تكتب عن الجندر، والسياسة والحركة النسْويّة. تَنَر أكجام ناشط وأكاديميّ يدرّس حاليًاً في بوسطن، في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وهو أحد الأوائل الذين أدخلوا مسألة الإبادة الأرمنيّة إلى النقاش العامّ في تركيا، وقد كتب مطوّلاً عن الموضوع وعن الثقافة السياسيّة التركيّة. أمّا كاتبة هذه السطور، فباحثةٌ ومؤرِّخة اشتغلتْ على موضوع اللاجئين في سوريا بين الحربين العالميّتين، وعلى الانتداب الفرنسيّ في سوريا، والطائفيّة، والحدود السوريّة ـ التركيّة، وتشكيل الهويّة والذاكرة عند أقلّيات المنطقة.
أخيرًا، نتوجّه بشكر خاصّ إلى محرِّر مجلة بيريكيم، كيريم أونوفار، لدعمه ومساعدته الثمينيْن.

إسطنبول
الحركة النِّسْويّة في تركيا بعد ١٩٨٠
* آكسو بورا
ترجمه عن التركيّة: بكر صدقي
عاشت تركيا بعد العام 1980 مرحلتها الأكثرَ عقمًا من زاوية نظر الفكر السياسيّ. من بين أسباب هذا العقم أنّ الانقلاب العسكريّ في 12/9/1980 دمّر ميدانَ السياسة على وجه التقريب، وحوَّلَ العمل السياسيّ إلى جريمة: فهو لم يكتفِ بسجن أعضاء الأحزاب السياسيّة، بل سجن النقابيين وقادةَ المنظّمات الاجتماعيّة الديمقراطيّة كذلك. لكنّ أسبابَ العقم المذكور لا يستنفدُها الانقلابُ العسكريّ، إذ لعب إفلاسُ الواقعيّة الاشتراكيّة دوره أيضًا في رسم أطر النقاشات السياسيّة.
نمت الحركة النسْويّة بقفزة غير متوقّعة داخل هذه البيئة العقيمة. فالنسْويّة، التي وُصفتْ في أوائل الثمانينيّات بأنّها “نزوةُ النساء البورجوازيّات،” وقيل إنّها لن تنمو في هذه التربة غير الملائمة، لم تكتفِ بالنموّ بل أصبحت المعارضةَ الأكثرَ ديناميّةً وقوةً في تركيا. والحقّ إنّ معاملة النِّسْويّة وكأنّها “عنصرٌ دخيلٌ” تعود إلى جهلٍ بالواقع الاجتماعيّ، وبالتاريخ، وإلى العجز عن تحليلهما. فالحركة النسويّة وُجدتْ منذ الحقبة العثمانيّة، وشهدتْ مراحلَ صعودٍ ومراحلَ انحدار، لكنها لم تغبْ أبدًا في الميدان الاجتماعيّ. الجديد في الثمانينيّات هو أنها عادت إلى الظهور كصوت معارض.
العنصر الذي يتمّ تجاهلُه عمومًا في تيّار الحداثة التركيّة منذ عصر “التنظيمات” هو نضالُ النساء من أجل الحقّ والمساواة؛ بل إنّ هذا النضال حمل، منذ أوائل القرن العشرين، اسمَه الصحيح “الحركة النسْويّة” (feminism). غير أنّ تمفصل الحركة النسويّة مع الحداثة والنزعة القوميّة، لتستقر معهما داخل خطاب الإيديولوجيا الرسميّة، أدّى إلى تراجع نضال النساء من أجل المساواة في الحقوق، وإلى غرق تاريخه في النسيان. فمنذ منتصف العشرينيّات، رأت النساءُ نضالهنّ جزءًا من برنامج التنمية والتمدّن، الأمرُ الذي سهَّلَ النظر إلى الحركة النسويّة بوصفها رسالة تمدينيّة، أكثر من كونها حركةً سياسيّةً ومعارضة.
قبل منعطف 1980، كانت هناك مبادراتٌ لتنظيم الحركة النسائيّة في إطار المعارضة اليساريّة، لكنها لم تتجاوزْ كونها منظّماتٍ نسائيّةً تابعةً للأحزاب السياسيّة بالمفهوم التقليدي. بعد الانقلاب العسكريّ احتاج الأمرُ إلى وقتٍ طويلٍ كي يحدث اللقاء بين جهود نساءٍ يتحدّرن عمومًا من خلفيّات يساريّة لفتح مساحةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ لنشاطهنّ، مع شقيقاتهنّ القديمات في تاريخ الحركة النسويّة. كان على أولئك النسوة أن يبذلن جهودًا كبيرةً لتحقيق مشروعيّة نضال النساء من أجل الحريّة والمساواة واستقلاليّته، كأولويّة. في النصف الأول من الثمانينيّات كانت المجموعاتُ النسويّة تعقد اجتماعاتِها في البيوت، وكانت موضوعاتُ النقاش تتركّز على استقلاليّة الحركة النسويّة وعلاقتها باليسار. في الوقت نفسه، حاولن نقل الدروس المستخلصة من ماضيهنّ وتجاربهنّ السياسيّة إلى هذه الحركة التي كانت قد تبرعمتْ للتوّ. لم يكن نمطُ التنظيم المركزيّ والتراتبيّ مناسبًا لحركةٍ تحرريّة. فكان عليهنّ أن يبتكرن أشكالاً وطرائقَ للتنظيم تحطّم كلَّ تراتبيّة، وتلغي القيادة المركزيّة التي تكتم الأنفاس.
من هذا المنظور، يمكن القول إنّ عقد الثمانينيّات بالنسبة إلى الحركة النسويّة كان عقدَ تنقيبٍ وتجريبٍ واستكشاف. وإذا نظرنا إلى الأنشطة النسويّة في تلك المرحلة (كحملة الإبرة البنفسجيّة والمسيرة ضدّ العنف المنزليّ)، فسوف نرى، من جهة، أنّ موضوعاتٍ كانت خارج اهتمام الحركات السياسيّة، كالعنف المنزليّ والتحرّش، باتت على جدول الأعمال؛ وسنرى، من جهةٍ أخرى، ابتكارَ وسائل شديدةِ التنوّع ولافتةٍ للأنظار ومختلفةٍ عن الفعاليّات المعارضة المألوفة.
هناك بعدٌ آخر لكون الثمانينيّات عقدَ بحثٍ واستكشاف، ألا وهو الأهميّة الكبيرة لمجموعات الارتقاء بالوعي داخل الحركة النسويّة. فقد عاشت الحركةُ تجربةَ الربط المباشر بين السياسة وحياةِ الفرد، أيْ تجربةَ اكتشاف كلّ فردٍ في الحركة العلاقةَ المباشرةَ بين التحليل المجرّد والعامّ للامساواة بين الجنسين أو علاقات الاستغلال أو القمع، وبين حياته وخبرته الخاصّتيْن. كانت هذه تجربةً غايةً في الأهميّة غطّت المرحلة التالية التي ستشهد الانتشارَ السريع والمأسسة والنمو.
عقد التسعينيّات هو المرحلة التي ستشهد المأسسة والتنوّع معًا. وإذا كان هذا التنوّع يعني كثرةَ التيّارات داخل الحركة، فهو يشمل كذلك كثرة الموضوعات التي اهتمّت بها وتنوّعَها. القطبان الرئيسان المحدِّدان في المشهد السياسيّ التركيّ في التسعينيّات، عنيتُ بهما الحركتين الكرديّة والإسلاميّة، تركا أثرَهما في تنوّع الحركة النسائيّة أيضًا. النساء اللواتي كنَّ خارج الحركة النسْويّة في الثمانينيّات طوَّرنَ مطالبَ نسويّة في إطار هاتين الحركتين، ثم شكّلتْ تلك المطالبُ محورًا انتظمنَ حوله. وهذا الأمر لم يؤدّ إلى تغيير هاتين الحركتين فحسب، بل إلى تغيير الحركة النسويّة العامّة أيضًا. فقد كسرت الناشطاتُ الكرديّاتُ ذكوريّة الحركة القوميّة الكرديّة، وتركيّة الحركة النسويّة في تركيا معًا. أما “النسويّات المسلمات” فقد واجهنَ السمة النخبويّة النازعة إلى الهيمنة في الحركة النسويّة، وحاولنَ إثباتَ عدم وجود تعارضٍ بين إيمانهنّ الدينيّ ورفضهنّ للإذلال الذكوريّ. كما أنّ الموضوعين اللذين هيمنا على المشهد السياسيّ العامّ بشيفرتي “النزعة الانفصاليّة” و”الرجعيّة” حرّكا بين النساء أيضًا جدالاتٍِ حادّةً وانشقاقات.
في التسعينيّات ابتعدت الحركةُ النسْويّة إلى حدّ كبير عن كونها حركةً تنتمي إلى المدن الكبرى. فقد انتظمت النساءُ في المنظّمات النسائيّة في ديار بكر وأنطاليا وأضنة ومرسين وعينتاب وصمصون وأسكي شهير وغيرها. تحرَّكنَ معًا وشكَّلنَ مجموعاتِ ضغط، كما حدث بمناسبة التعديلات على القانون المدنيّ. وتمثَّلَ أحدُ عناصر التوسّع في الحركة بالمشروعات. هذا النمط الجديد، الذي أُطلق عليه “نسويّة المشروعات،” انتشر في جميع أنحاء العالم في التسعينيّات، إذ حلّت محلَّ الأهداف السياسيّة مشاريعُ تقنيّة، وحلّ محلَّ العضو الحزبيّ “الناشطُ المدنيّ.” وتعرّض هذا النمطُ الجديد لانتقادات كثيرة. وبالفعل كان الهوسُ بالمشاريع، بل قل “وباء المشاريع،” يشكو أمراضًا خطيرة، قبل كلّ شيء لأنه يدعم تحويلَ السياسة من ممارسة تحرريّة إلى أداةٍ تقنيّة. ولكنْ ينبغي الاعترافُ بأنّ توسّعَ الحركة النسائيّة، المكوَّنة أصلاً من نساء الطبقة الوسطى المدينيّة المتعلِّمات، واكتشافَها قنواتِ اتصالٍ بالنساء “الأخريات،” قد تحقّقا إلى حدّ كبير بفضل المشاريع.
إذا ألقينا نظرةً على الحركة النسويّة في عقد التسعينيّات بعين الطير، فسوف نرى قبل كلّ شيء أنها ازدادت مأسسةً وتوسّعًا وتنوّعًا. المناقشات التي هيمنتْ على هذه المرحلة عكستْ بدورها هذين التوسّع والتنوّع، فغطّت مروحة واسعة من الموضوعات، كمسألة الهويّة والسياسات الاجتماعيّة.
شهد العقدُ الأول من القرن الحادي والعشرين، بالتوازي مع الأشكال والابتكارات الجديدة للممارسة السياسيّة في تركيا والعالم، تنوّعًا وتجدّدًا للشباب في الحركة النسويّة. فإلى جانب حفاظها على حيويّتها كحركة مستقلة، فإنّها لعبتْ دورًا مؤثِّرًا في جميع الحركات السياسيّة، كما في ميدان السياسات الحكوميّة، وقامت بتغييرها. بل إنّ مشكلة اللامساواة بين الجنسين وَجدتْ لنفسها مكانًا في أكثر الخطابات السياسيّة محافظةً. وتحوّل تحسينُ موقع المرأة الاجتماعيّ إلى إحدى أولويّات الحركات السياسيّة.
ما الذي يمكن أن نقوله، في ختام العقد الأول من القرن الجديد، عن تاريخ الحركة النسويّة القصير جدًا والغنيّ جدًا في الوقت نفسه؟ سوف نرى أنّ الخطاب النسويّ انتشر بسرعةٍ كبيرةٍ، وترك آثارًا عميقة، ولو كان ذلك بترجمته إلى لغات السياسة المختلفة. ولقد خلقتْ عمليّة “الترجمة” هذه قلقًا أدّى إلى ميلٍ يزداد قوة إلى “العودة إلى المصادر الصحيحة” في الحركة النسويّة. وسوف نرى قيام علاقات دوليّة للحركة النسويّة، من خلال قنواتٍ شديدة التنوّع. وسوف نرى أيضًا أنّ النساء انخرطن في منظّمات، ليس فقط في عدد من المدن الكبرى، بل في كلّ أنحاء تركيا تقريبًا.
هذا الانتشار لم تظهرْ آثارُه بوضوحٍ بعدُ على السياسات المحليّة، ولكنْ سيظهر في غضون وقت قصير. وهو قد كشف عن ضرورة البحث عن أشكال جديدة ومتنوّعة وخلاقة لربط التجارب المحليّة الفرديّة للنساء بالخطّ العامّ للحركة النسويّة.
وسنلاحظ أنّ الحركة النسويّة التركيّة تستمرّ في كونها حركةً شابّة، بخلاف قريناتها في الدول الأوروبيّة. وسنلاحظ قيامَ علاقاتٍ وثيقةٍ بين الحركة النسويّة وحركة LGBTT (المثليّات والمثليين وثنائيي الجنس والمتحوّلين جنسيًا والمتعدّين جنسيًا) وما ينشأ عن ذلك من بدائلَ مهمّةٍ تتعلّق بالسياسات الجنسيّة التي طالما كانت عرضة للإهمال.
ليس من السهل التقاطُ صورة، ولو للحظة محدّدة، من حركةٍ بهذا التنوّع والديناميّة والقدرة على التحوّل. فلو جمَّدْنا هذه الحركة لحظةً واحدة، فلن نتمكّن من رؤية التأثيرات المتبادلة والتيّارات المتدفّقة والتحوّلات التي لم تكتملْ بعد. وهذه الأمور هي كلّ شيء بالنسبة إلى حركةٍ تستحقّ فعلاً اسم “الحركة.
يمكننا القول، باختصار، إنّ مغامرةً عمرُها ربعُ قرن ما زالت مستمرّةً من غير تباطؤ، ومن غير أن تفقد حماستها وإثارتها للاهتمام، كمصدر إلهام لنفسها، ولجميع المعارضين أيضًا.

في بعض الشؤون السياسيّة التركيّة الراهنة: حوار مع إتيين محجوبيان
أجراه: بكر صدقي
يُعد إتيين محجوبيان من أبرز المثقّفين الليبراليّين في تركيّا. تولّى إدارة تحرير أسبوعيّة آغوس التي تصدر في إسطنبول باللغتين الأرمنيّة والتركيّة، بعد اغتيال مؤسِّسها هرانت دينك قبل ذلك بثلاث سنوات. وقد خاض محجوبيان، المعروفُ بأفكاره التحرريّة، معركة فكريّة شجاعة ضدّ النظام القائم على الوصاية العسكريّة والعلمانيّة المتشدّدة، وذلك بلغةٍ مُرّةٍ لا تخلو من السخرية.
في فترةٍ سابقةٍ كان محجوبيان ينشر مقالاته في يوميّة الزمان القريبة من التيّار الإسلاميّ، والتي انفتحتْ بسخاءٍ على كتّابٍ غير إسلاميّين. وهو يكتب الآن بانتظامٍ في يوميّة الطرف، المعروفة بمعارضتها للوصاية العسكريّة، والتي عرّضتْ بأخبارها هذه الوصاية لخضّات قويّة، فشاركت في تحديد وجهة الأحداث السياسيّة.
أُجريَ الحوار عبر البريد الألكترونيّ في أواخر آب 2010، وقد اقتصر على بضعة موضوعات تهمُّ القارئ العربيّ في هذه المرحلة.
الآداب: سيد إتيين محجوبيان، مرحبًا بكم، ونشكركم لتلبيتكم دعوة الآداب إلى هذا الحوار. أكثرُ المثقّفين الليبراليّين في تركيّا يتحدّرون من تقليدٍ ماركسيّ، ولا سيّما مَن يُعرفون بتيّار الجمهوريّة الثانية، كالأخوين محمد وأحمد آلتان ومراد بَلغة وجنكيز تشاندار. أنتم في رأيي أحدُ ممثّلي هذا التيّار، على الرغم من أنّكم لا تتحدّرون من تقليد يساريّ. تاريخيًا كان الخطّ الليبراليّ ضعيفًا في الفكر التركيّ كما تعلمون؛ وبعد الأمير صباح الدين، تمّ القضاءُ على قوى ليبراليّة، كالفرقة الحرّة والفرقة الجمهوريّة التقدّميّة وغيرهما؛ أمّا الحزب الديموقراطيّ الذي حكم عشر سنوات متّصلة، فقد أُسقط بأوّل انقلاب عسكريّ في تاريخ الجمهوريّة التركيّة، ثم “أُعيد تصميمُه” في صورة حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل.
مِن هنا نسأل: مِن أين أتيتم إلى الخطّ الليبراليّ؟ وهل لأصلكم الأرمنيّ نصيبٌ في هذا الخيار الفكريّ؟
محجوبيان: هناك الكثير من المثقّفين الذين يدافعون عن ضرورة دقرطة النظام الجمهوريّ القائم، ويتحدّر قسم مهمّ منهم من التقليد اليساريّ كما قلتم. ولأنّ اليسار الماركسيّ هو المهيمن على اليسار بعمومه، فإنه يتمّ التساؤلُ عن ماضٍ ماركسيّ أرثوذكسيّ كلّما ذُكرتْ كلمةُ “اليسار.” وفي حين أنّني عَدَدتُ نفسي دائمًا يساريًا، واعتبرتُ أعمالَ ماركس بصدد التاريخ، بصورةٍ خاصّة، ذاتَ قيمةٍ عاليةٍ جدًا، فإنني لم أكن يومًا داخل تيّار اليسار الكلاسيكيّ. وقد أصدَرْنا بين 1978 و1980 مجلّةً بعنوان الفكر الاجتماعيّ، وكانت تدافع عن مفهوم ديموقراطيّ لليسار. أمّا كلمة “الليبراليّ” في تركيّا، فلا تغطّي المثقّفين الليبراليّين حقًا؛ إذ لدينا تقليد دَوْلَتيٌّ يُطلق صفة “الليبراليّ” على كلّ مُدافعٍ عن الحرّيّة والتحرّر. واليسار الأرثوذكسيّ، من ناحيته، اختار سبيل الراحة بإطلاقه صفةَ الليبراليّ على كلّ داعيةٍ علمانيٍّ للديموقراطيّة لا يشبهه. وأنا من ناحيتي كتبتُ مقالاتٍ انتقدْتُ فيها الإيديولوجيا الليبراليّة نقدًا شاملاً، وخُضتُ سجالاتٍ عدّةً مع قادةٍ فكريّين للتيّار الليبراليّ.
خلاصة الأمر، يمكنني القول إنّني لستُ ليبراليًا، لكنّي أدافع عن الأفكار التحرريّة والليبراليّة بمعناها الشائع. وبالطريقة نفسها أقول إنّني لستُ يساريًا ماركسيًا، لكنّي على قرابةٍ مع مفهومٍ لليسار ذي عقليّةٍ ديموقراطيّة. ولو سُئلتُ أن أعرّفَ نفسي لكان جوابي أنّني “ديموقراطيّ.”
من المفيد هنا أن نضيف أنّ الجماعة الأرمنيّة كانت تقليديًا قريبةً من اليسار. بل كان ثمّة أعضاء أرمن في عددٍ من المنظّمات اليساريّة التي تورّطتْ في أعمال العنف. ومن جهة أخرى، فإنّ المجتمع الأرمنيّ هو مجتمع محليٌّ في هذا البلد… ومن وجهة النظر هذه يمكننا رؤية الأرمن في مختلف الحركات السياسيّة، بما في ذلك حزبُ الحركة القوميّة التركيّ (MHP).
الآداب: يبدو حزبُ العدالة والتنمية الحاكم اليوم امتدادًا لتيّار المنظور القوميّ الذي أسّسه نجم الدين أربكان ـ إيديولوجيًا، وسياسيًا عبر تبنّي الخطّ الليبراليّ للحزب الديموقراطيّ. كيف تحوّلتْ حركةُ إسلامٍ سياسيٍّ إلى الوجهة الديموقراطيّة والليبراليّة؟ هذا سؤال يثير الفضول الشديد في الرأي العامّ العربيّ.
محجوبيان: حزب العدالة والتنمية نتيجةٌ وخلاصةٌ للتحوّل الذي تعرّضتْ له الفئاتُ الاجتماعيّة ذات الحساسيّة الإسلاميّة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة في تركيا. من هنا يمكن القول إنّ حزب العدالة والتنمية لا يقوم بتغيير تركيا بقدْرِ ما تعيد تركيا المتغيّرةُ إنتاجَ هذا الحزب.
يمكن الحديث عن أربعةِ عواملَ لهذا التغيير. أوّلها نقدُ الحداثة وأدبيّاتِ ما بعد الحداثة الذي ظهر في الغرب منذ الثمانينيّات؛ ذلك لأنّ هذا النقاش بيّنََ لنا أنّ للغرب مشكلاتِه أيضًا، وأنّ الغربيّين ليسوا أبدًا متقدّمين علينا بالنظر إلى صورةِ العالمِ القادمة. وبالفعل أخذتِ الديموقراطيّاتُ الغربيّة تبدو فاشلةً بقدر فشل طريقة مواجهتها لمشكلة المهاجرين. هذه الملاحظات منحَتْ مسلمي تركيا ثقةً بالنفس، وأظهرتْ أنّه سيكون للمسلمين أيضًا كلمتُهم في حلّ المشكلات وفي بناء عالم الغد.
يتعلّق العامل الثاني بالعولمة. فهذه الظاهرة الجديدة دفعتْ بمسلمي تركيا إلى الانفتاح على العالم والتشابك مع الغرب. كما أنّها نقلت المعاييرَ السياسيّةَ والإرثَ الثقافيَّ الغربيّين إلى تركيا، فتلقتها بوصفها عناصرَ في ثقافةٍ أوسعَ يمكن أن يكون الأتراك جزءًا منها ويستطيعون التأثير فيها. وبنتيجة ذلك أصبح ممكنًا ظهورُ مجلاّتٍ إسلاميّةٍ في تركيا، مرجعيتُها الفكريّةُ الفلسفةُ الغربيّة. كما بات بوسع الحِجاب أن يتحوّل من رمزٍ يمثّل شرف العائلة والرجل إلى أداةٍ لتحرّر المرأة من خلال الدين، وإلى جواز سفرٍ ينقل المرأةَ إلى الميدان العامّ. أمّا ممثِّلو عالم البيزنس، فباتوا يبتعدون خطوةً خطوةً عن مفهوم المصرف الإسلاميّ الخالي الفائدة، وتحوّلوا إلى عاملين في شركاتٍ حديثةٍ عابرةٍ للحدود القوميّة (عولميّة)، وبهذه الطريقة أقاموا العلاقاتِ مع العالم وقلّصوا من تبعيّتِهم لاسطنبول وأنقرة. إنّ أحدَ أكثر جوانب هذا التحوّل لفتًا للنظر هو ظهورُ مفهومٍ حديثٍ للتمدين؛ فالبورجوازيّةُ المسلمة الصاعدة في الأناضول اهتمّت بمدنِها وأخذتْ تبحث عن وسائلَ لإحياء إرثها الثقافيّ ككلّ، الأمرُ الذي أدّى أيضًا إلى ظهور مفهومٍ جديدٍ للجمال.
أمّا العامل الثالث فهو ضغوطُ النظام العلمانيّة الطابع، وإسقاطُ حكومة أربكان من السلطة بانقلاب 28/2/1997. وقد أنتجَ هذا الوضع وعيًا جديدًا وعلمنةً ذهنيّةً (لدى الإسلاميّين). وعلى الرغم من بقاء المؤمنين على تديّنهم، فإنّهم أوجدوا مسافةً بين الدين من جهة، والاقتصاد والسياسة والأخلاق من جهةٍ ثانية. أضف إلى ذلك أنّ كلَّ مؤمنٍ دخل في سياق تجربة التحوّل إلى “فرد،” وقام بنقدٍ ذاتيٍّ على خُطى المثقّفين الإسلاميّين الذين أعملوا الفكر في ثقافتهم. وهكذا تشكّل نموذجُ المثقّف الإسلاميّ الذي يهتمّ أيضًا بمشكلات الجماعات الأخرى.
ويتعلّق العامل الأخير بمواجهة الحركة الإسلاميّة لأدائها السابق ونقدِها لماضيها. فقد عملت سياسةُ أربكان، بصورةٍ مفارِقة، على نقل المسلمين إلى ميدان السياسة وأكسبهم الاحترام؛ كما أظهر، في كلّ خطوة، شدّة قصور تلك السياسة وحاجتها إلى النضج. وبالنتيجة، أبرز هذا الوضعُ ضرورةَ سياسةٍ إسلاميّةٍ قادرةٍ على الاندماج مع العالم والحوار معه بندِّيّة وثقةٍ بالنفس، سياسةٍ منحازةٍ إلى الحريّات، ومتنبّهةٍ إلى مشكلات القطاعات الاجتماعيّة الأخرى.
بهذا المعنى جسّد حزبُ العدالة والتنمية ديناميّة متعدّدة الأوجه، وخلاصةَ ثورة صامتة في القطاع الاجتماعيّ الإسلاميّ، ظهرتْ في شروطٍ عالميّةٍ ملائمة.
هنا ينبغي أن أضيفَ أنّ حركة إسلامٍ سياسيٍّ، من النموذج الموجود في الشرق الأوسط، لم تشكّل في تركيا تيارًا سياسيًا مهمًا حتّى في أقوى مراحلها. ففي تاريخ الأناضول، أنتج الإسلام تقليدَيْن قويّيْن ما زالا يحتفظان إلى اليوم بقوّتهما: أوّلهما الطرق الصوفيّة التي أنتجتْ سياسةً متّجهةً نحو المركز، ووريثه تيّار المنظور القوميّ؛ أمّا الثاني فتكايا المدن التي نقلت الشبكاتِ الفرديّة والجماعيّة إلى المركز، ومثالُه الأبرز جماعةُ فتح الله غولن.
الآداب: كلّما قرأتُ مقالاتكم الناقدة للمفهوم المتشدّد للعَلمانيّة، برز في ذهني هذا السؤال: كيف لمحجوبيان أن يمتلك الثقة بألاّ يتحوّل القطاعُ الإسلاميّ المحافظ إلى خطر على القيم العلمانيّة؟
محجوبيان: التحوّل الجاري في تركيا اليوم هو في الاتّجاه المعاكس تمامًا، وذلك لسببٍ اجتماعيٍّ لا سياسيّ. إذ حين ننظر إلى مجتمع المسلمين، نرى أنّ الدافع الرئيس الذي يحرّكه هو الاندماجُ في العالم واحتلالُه موقع محترمٍ فيه من غير التنازل عن ثقافته وإيمانه. لذلك نرى تركيا في طليعة الدول المستخدمة لوسائلَ الاتّصال الحديثة كالانترنت والفيسبوك والتويتر.
ثم إنّ المسلمين لم يَحكموا هذا البلد يومًا، على رغم تشكيلهم أغلبيّةً فيه. بتعبيرٍ آخر، لدى المسلمين مشكلةٌ مع الدولة، وقد تذوّقوا قمعها، ولذا فَهُم مِن أكثر القطاعات التي لها مصلحةٌ في التحوّل الديموقراطيّ والحرّيّات. فإذا كان حزب العدالة والتنمية اليوم يريد إجراءَ الإصلاحات، فهذا لمعرفته أنّها ستسهِّل حياة ناخبيه وتحَرِّرهم. وليس لأحدٍ أنْ يشكَّ في أنّ هذا الحزب سيفقد تأييد القطاع الإسلاميّ المحافظ لو أدار الظهر يومًا لتلك الإصلاحات.
الخلاصة أنّ احتمال تحوُّل حزب العدالة والتنمية إلى فاشيّة إسلاميّة هو زعمٌ سورياليّ. في حين أنّنا نعيش، بصورةٍ محقَّقةٍ، ومنذ عقود، تحت الوصاية العسكريّة، ونعرف بالملموس احتمالَ صدور الفاشيّة من منطلق العلمانيّة!
الآداب: لطالما كان التياران العلمانيّ والقوميّ في تركيا في حالةٍ متداخِلة. كيف تفسّرون ذلك؟ وفي تركيّا ثمّة تمييزٌ بين مفهومَين للنزعة القوميّة، ulusalcılık و milliyetçilik، لم أرَ في العربيّة ما يقابلهما.
محجوبيان: يعود السبب في اتّحاد النزعتين القوميّة والعلمانيّة إلى العقيدة المؤسِّسة للجمهوريّة، أيِ الكماليّة. فقد كان على هذه الإيديولوجيا أنْ تستبدلَ النظامَ الامبراطوريّ بشكلٍ جديدٍ لإدارة الدولة، وأنْ تقدِّمَ هذا الشكل الجديد بوصفه تقدّمًا، وأنْ تُضفيَ المشروعيّة على أصحاب النظام الجديد في نظر الشعب. لذلك عرَّفَت الكماليّةُ نفسَها كجزءٍ من العالم الحديث و”المعاصر.” وفي الوقت الذي وصفتْ فيه الدين بالرجعيّة، فإنّها سوّقتْ فكرةً مفادُها أنّ البنيةَ المتعدّدة الثقافات للدولة والمجتمع العثمانيّين تنتمي إلى الماضي ويجب تقويضُها. أمّا الحداثة فقد قامت على ساقين، أولاهما النزعةُ القوميّةُ التي تُضفي معنًى على النظام الجمهوريّ والدولة ـ الأمّة، وثانيتُهما العلمانيّةُ التي زَعموا أنّها مقاربةٌ علميّةٌ…
وفي حين عبَّرَتِ القوميّةُ عن حبّ الوطن والذود عنه، عبّرَتِ العلمانيّةُ عن وسطٍ متعلّمٍ متنوّرٍ يعرف ما هو صحيح. فهل بعد هذا ما هو أكثرُ طبيعيّةً مِن بقاء النخبة القياديّة في السلطة، وهي التي تعرف الحقائقَ أفضل ممّا يعرفُها المجتمع، وتُميّز ما هو أفضلُ لمصلحة المجتمع، وتحبّ هذا الوطن أكثر ممّا يحبّه المجتمع؟! بهذه الطريقة تمّ إرساءُ أسسِ نظام الحزب الواحد. بعبارةٍٍ أخرى، لقد جعلتِ النزعةُ القوميّةُ والعلمانيّةُ خاصيّةً أخرى أكثر أساسيّةً ممكنةً إيديولوجيًا، عنينا بها “الدولتيّة” (وهي نظام قائم على مركزيّة دور الدولة من جهةٍ، وعلى نزعة تقديس الدولة من جهةٍ ثانية).
لكنّ العلمانيّة لم تكنْ ذلك النظامَ الذي يسْهل أنْ يتقبّلَه الشعب، لأنّ الدولة فهمتْها بصورةٍ سلطويّةٍ جدًا، وأوّلَتْها على أنّها إبعادٌ للدين من الميدان العامّ. من هذا المنطلق اهتمّ النظامُ الجديد اهتمامًا كبيرًا بتحويل الأغلبيّة المسلمة واستتباعِها من طريق القوميّة، وكانت غايتُه من ذلك تحويلَ المسلمين أولاً إلى أتراك، ومِن ثمّ علمنةَ هؤلاء الأتراك بقدر المستطاع. وقد نجح هذا المخطّط إلى حدٍّ كبير. وهكذا ظهرتْ “جماعةٌ علمانيّةٌ” مرتبطةٌ بالدولة، ومواليةٌ لها، وكان لها الفضلُ في الحفاظ على نظام الوصاية إلى اليوم. لكنّ هذا الوضع زادَ، في المقابل، من عمق الهوّة المطّردة بين الدولة والجماعة المسلمة.
وعليه، فإنّ أكثريّة المسلمين اليوم ما زالت ذات نزوع قوميّ، لكنّها لم تعد تقدّس الدولة. أما أعضاء الجناح القوميّ من الجماعة العلمانيّة فيقدّسون الدولة، وهؤلاء هم مَن يُطلق عليهم “ulusalcı”: إنّهم من يعتقدون أنّ للدين آثارًا ضارّةً، وأنّه يُميّع الرابطة القوميّة، وأنّ على الدولة أنْ تُرغمَ الشعبَ على الانتماء التركيّ والسلوك “العصريّ،” ويؤمنون بمشروعيّة الانقلابات العسكريّة لتحقيق هذه الغاية.
الخلاصة هنا هي أنّ الفارق بين الوطنيّين والقوميّين يعبِّرُ في الواقع عن الشِّقاق والمجابهة بين العلمانيّين الدولتيِّين من جهة، والمسلمين الذين يثقون بالمجتمع من جهةٍ ثانية. وهكذا يتحطّم قالبُ التركيب التركيّ – الإسلاميّ الذي أنتجته الدولة بعد الانقلاب العسكريّ في 12/9/1980. لقد اخترع الانقلابيّون هذا القالب الملفّق بهدف كسب المتديّنين إلى صفّهم. في عالم اليوم أخذتْ حاجةُ المسلمين إلى الهويّة التركيّة، من أجل تطوير شخصيّةٍ تتمتّع باحترام الذات والثقة بها، تتراجع باطّراد. وعلينا ألا ننسى أنّ النزعة القوميّة قامتْ أساسًا في مواجهة هذا الميل، والميول الديموقراطيّة التي ظهرت في كلا القطاعين الإسلاميّ والعلمانيّ.
الآداب: مرّ اليوم أكثرُ من سنة كاملة على الانفتاح الحكوميّ على الأكراد، لكنّه يبدو اليوم في حالةٍ من انسداد الأفق. والعمليّات العسكريّة المتصاعدة لكلٍّ من الجيش وحزب العمال الكردستانيّ تُرجِّح كفّةَ التشاؤم في حََلِّ المشكلة الكرديّة. ولو بحثنا عمّن يتحمّل مسؤوليّة هذا الوضع، فسوف نواجِهُ قائمةً من القوى: الحكومة، والمعارضة بجناحَيها العلمانيّ والديموقراطيّ، وحزب السلام والديموقراطيّة الذي من المفترض أنّه يمثّل الأكراد، وحزب العمال الكردستانيّ الذي يقف خلف هذا الأخير. بيدََ أنّ الحكومة التي تتمتّع بدعمٍ شعبيٍّ واسع، كما بدعم الغرب، تبدو لي المسؤول الأكبر عن هذا الانسداد. هل تشاركني هذا الرأي؟
محجوبيان: أنا لا أؤمن بقدرةِ أيِّ حكومةٍ على حلِّ هذه المشكلة بمجرد إصدار تشريعات أو القيام بخطواتٍ إصلاحيّة. المشكلة الكرديّة عميقة الجذور ومتعدّدة الوجوه، الأمرُ الذي لا يسمح بحلِّها دفعةً واحدةً. بعبارةٍ أخرى هناك حاجةٌ لمسارٍ يتقدّم خطوةً بعد خطوة. من ناحيةٍ أخرى ترتفع سويّة التوقّعات والآمال، ويحدث أنْ تطرأ أوضاعٌ تستوجب التراجع عن بعض الخطوات التي تمّت، ما يعني أنّ المشكلة الكرديّة يمكن دفعُها بسهولة في طريق اللاحلّ. وهذا بالضبط ما يحصل! وإذا نظرنا إلى المجتمع اليوم، فسنرى أنّه مجمِعٌ تقريبًا على وجوب الحلّ. كذلك الأمر بالنسبة إلى خطاب الفاعلين السياسيّين. ولكنْ، حين ننظر إلى مواقف هؤلاء وأفعالهم، فسنرى أنْ لا حزب مع الحلّ فعلاً باستثناء حزب العدالة والتنمية. والحال أنّ الحكومة ليست قويّةً لأنّ الحزب الحاكم يتحدّر من تيّارٍ يفتقد إلى الشرعيّة من وجهة نظر النظام. وهو مضطرٌّ، لهذا السبب، إلى تأكيد إخلاصه لـ “الدولة”. كما أنّ دعم القطاع العلمانيّ، في مسار الحلّ، شأنٌ ذو ضرورة مصيريّة، لكنّ حزب العدالة والتنمية لم يحصل على هذا الدعم. غير أنّ المشكلة الرئيسيّة، من وجهة نظر التوازنات السياسيّة في تركيا، هي الصراع حول بقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم أو إسقاطه، واستخدامُ المشكلة الكرديّة أداةً في هذا الصراع. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ كلاًّ من حزب السلام والديموقراطيّة وحزب العمّال الكردستانيّ يناهضان الحلّ أحيانًا، بُغية زيادة نفوذهما في البيئة الكرديّة، يصبح ممكنًا فهمُ الانسداد الذي نتحدّث عنه بصورةٍ أوضحَ.
من هنا أقول إنّ امتناع حزب العدالة والتنمية عن التفاوض مع الأكراد، واعتقادَه أنّ الحلّ ممكنٌ بمجرّد القيام ببعض الخطوات الإيجابيّة، خطأٌ سياسيٌّ كبير. لكنّ للقوى السياسيّة الأخرى نصيبًا كبيرًا أيضًا في انسداد أفق الحلّ، لأنّها تريد إفشال حزب العدالة والتنمية أكثرَ ممّا تريد الوصولَ إلى حلٍّ للمشكلة!
الآداب: بدا لي الاعتداء الإسرائيليّ على سفينة مرمرة الزرقاء صدمةً أعادت الرشد إلى الحكومة التركيّة. أعني أنّ تركيا، العاجزة عن حلّ مشكلاتها الداخليّة والراكضة وراء النجاحات الدبلوماسيّة في الخارج، تلقّت ردًا دمويًا من إسرائيل، وهذا الأمر أرغمها على العودة إلى الاهتمام بمشكلاتها الداخليّة.
محجوبيان: من وجهة النظر الداخليّة، وجهة نظر جماهير الشعب، رفعت حادثةُ مرمرة الزرقاء من هيبة حزب العدالة والتنمية وشعبيّته. حتّى الولايات المتّحدة أقرّت في النهاية بخطأ الموقف الإسرائيليّ. وفي هذا برزت السياسة الخارجيّة، منذ البداية، كميدان لنجاحات حزب العدالة والتنمية، إذ استطاع اتّخاذ مواقف أخلاقيّة ومحترمة. وهكذا فالمشروعيّة التي شقَّ على الحكومة الحصولُ عليها في الداخل إزاء القطاع العلمانيّ، رسَّخَها من خلال البريستيج الذي حقّقته في “القطاع العلمانيّ من العالم”.
الآداب: سبق أن وَقّعت الحكومة اتفاقيّةً لتطبيع العلاقات مع أرمينيا، ثمّ بدا وكأنّ هذا الطريق انسدَّ أيضًا. لماذا حدث هذا؟ وكيف؟
محجوبيان: تشكّل العلاقات مع أرمينيا كعبَ أخيل السياسةِ الخارجيّة لتركيا. عنيتُ بذلك أنّه مهما حقّقت الحكومة من نجاحات في ميادين أخرى، فإنّ فشلها في تحقيق تقدّمٍ في هذه العلاقات سيدفع بنجاحاتها الأخرى إلى الظلّ. وفي المقابل، فإنّ تسوية المشكلات وتطبيع العلاقات مع أرمينيا ليس من شأنهما وضع تركيا في موقع شديد الأهميّة من وجهة النظر الإقليميّة وحسب، بل سيمثّلان أيضًا مبادرةً كبيرةً جدًا في نظر الغرب. كانت الاتفاقيّات الموقّعة، بهذا المعنى، نصوصًا عمليّة وقابلةً للاستثمار، لأنّها لم تتطرّق بصورةٍ مباشرةٍ إلى موضوع التطهير العرقيّ (بحقّ الأرمن) ولا إلى مشكلة كراباغ. وبهذه الطريقة امتلك الطرفان مرونةَ تأويلِ تلك النصوص، كلٌّ من وجهة نظره.
غير أنّ تركيا أفرطتْ في الثقة بقدراتها حين ظنّت أنّها قادرة على تطوير سياسةٍ مقنعةٍ لكلٍّ من أرمينيا وأذربيجان في الوقت نفسه. فمن الناحية التكتيكيّة حرصت الحكومة على طمأنة الآذريين بصورةٍ خاصّة، لكنّ هذا التكتيك ارتدّ على تركيا لأنّ الآذريين الذين آمنوا بأنّ تركيا لن تنكثَ بوعودها لهم لم يستجيبوا لمبادرات الحلّ لمشكلة كراباغ. وبذلك لم تنشأ الأرضيّة المادّيّة المقنِعة للأرمن بالانسحاب من الأراضي الآذريّة، ولم تفتح تركيا حدودها مع أرمينيا.
اليوم يبدو وكأنّ الاتفاقيّات الموقّعة أصبحتْ على الرفّ، لكنّ احتمالات الحلّ ما زالت متوفّرة، وأهمّها أنّ جميع الأطراف المعنيّة ما زالت مستعدّة للتقدّم بخطواتٍ. والمسألة تكمن في تنسيق تلك الخطوات بصورةٍ متزامنةٍ من قبل الجميع. خلاصة القول: ثمّة ثلاثُ مشكلاتٍ مترابطةٍ يجب حلّها بالتزامن، أو على الأقلّ كأجزاءٍ من عمليّةٍ واحدةٍ، وهي تحديدُ مصيرِ كراباغ ووضعِها القانونيّ الجديد، وانسحابُ القوّات الأرمنيّة من أراضي أذربيجان إلى حدٍّ كبيرٍ، وفتحُ البوّابة الحدوديّة بين تركيا وأرمينيا.
الآداب: شكرًا لكم على هذا الحوار الغنيّ الشامل.

الجيش حزبًا سياسيًا
* عمر لاتشينر
ترجمه عن التركيّة: بكر صدقي
كنا نتحدث، في مقالاتنا في مجلة بيريكم منذ مطلع التسعينيّات، عن تصرّف الجيش، في بعض مواقفه ومبادراته، كحزب سياسيّ، وإنْ بمعنى مجازي. ولقد كان هناك ما يَسَّرَ لنا استخدامَ هذا التشبيه، ألا وهو تلك القاعدة “الخفيّة” في نظام تركيا السياسيّ.
فوفقًا لهذه القاعدة، فإنّ السلطة التنفيذيّة (أي الحكومة بصرف النظر عن الأحزاب التي تشكّلتْ منها)، المسيطرةَ بصورة غير مباشرة على السلطة التشريعيّة، لكونها تملك الأغلبيّة في البرلمان، لن تستخدم السلطة التي تمْلكها فعلاً إلا باقتسامها مع الجيش، بل وبربط بقائها في الحكم بموافقته، وذلك باسم البيروقراطية العليا العسكريّة ـ المدنيّة في الدولة. ومن ثمّ كان في وسعنا، بهذا المعنى، أن نعتبر الجيشَ الساقَ الأخرى أو الحزبَ الآخر في حكومةٍ ائتلافيّة، ولو تشكّلتْ هذه من حزبٍ واحد.
غير أنّنا حين استخدمنا هذا التشبيه في التسعينيّات كنّا نقصد أنّ الجيش يتصرّف، في بعض مواقفه ومبادراته، في إطار حساباتٍ تتعلّق بوضعه الخاصّ وأهدافه ومصالحه الخاصة، ضدّ “طرفٍ” آخر داخل المجتمع والدولة، مبتعدًا بذلك عن كونه جهازًا من أجهزة الدولة. ولم نقصدْ، بل لم نُلمحْ إلى أنه ينطوي على ميول إلى التحزُّب، بالمعنى الذي سنوضحه بعد قليل؛ ذلك لأنّ سلوكه هذا لم يكن قابلاً للتسويغ أو التفسير إلا بالوضع الخاصّ والمصالح الخاصّة لمجموعاتٍ ومؤسّساتٍ يمثلها، لا في إطار منطق الدولة وسياستها.
ومع ذلك، كان هذا المسلك “الحزبيّ” يظهر في حالاتٍ وأحداثٍ فرديّة، ولا يمتد خارج مستوى “السياسة العليا” في وقتٍ واحد.
في مرحلة انقلاب 28/2/1997، الموصوف بما بعد الحداثي، قامت “مجموعةُ العمل الغربيّة” الذائعة الصيت (داخل الجيش) بإعداد خططٍ “كفاحيّةٍ” ضدّ الموارد الاجتماعيّة ـ الاقتصاديّة لحزب الرفاه (الإسلاميّ بقيادة نجم الدين أربكان)، وقوائمَ سوداءَ ضدّ الصحافيين والإعلاميين الذين قد يعترضون على هذه الإجراءات باسم الديموقراطيّة، ووضعتْها موضعَ التطبيق. بدت هذه الإجراءات، في تلك الفترة، وكأنها عمليّةٌ خاصّةٌ هدفُها استبعادُ حزب الرفاه عن الحكومة، وأنها ستنتهي بعد تحقيق هذا الهدف؛ وظهر الجيشُ هنا وكأنه ذهب إلى ما هو أبعدُ من مجرّد “التصرّف كحزب.” ولكنْ بعد أن استقالت الحكومة الائتلافيّة المشكَّلة من حزب الرفاه وحزب الطريق القويم، وتشكَّلَتْ حكومةٌ من خارج هذين الحزبين؛ وبعدما تعرّض حزبُ الرفاه لهزيمةٍ كبيرة، في الانتخابات العامّة لسنة 1999، وتقهقر إلى المرتبة الثالثة بين الأحزاب، قبل أن ينقسم إلى حزبين؛ بدا الجيشُ وكأنه عاد إلى دوره السابق الذي اقتصرتْ تدخّلاته في السياسة على ذلك الجزء الذي يدور وراء الأبواب المغلقة لـ “السياسة العليا” (الدولة).
ولكنْ يبدو أنّ النجاح المفاجئ لحزب العدالة والتنمية، في انتخابات العام 2002، كان له أثرُ صدمةٍ أو انقلابٍ طوَّحَ بالقشرة ـ المتشقّقةِ أصلاً منذ بعض الوقت ـ لنمط تصرّف الجيش التقليديّ كحزب سياسيّ في بنية الدولة/السلطة. فمنذ تلك اللحظة أخذ الجيشُ يَستخدم تقنياتِ وأدواتِ التدخّل المباشر في الميدان الاجتماعيّ ـ العموميّ، بعد أن كان يسعى، حتّى ذلك الحين، إلى ضبطه مداورةً بواسطة مؤسّسات الدولة ذات الصلة، إذا استثنينا مراحل الانقلابات العسكريّة؛ وأصبح أقربَ ما يكون إلى حزبٍ سياسيٍّ “يمارس السياسة” بواسطة منظّمات مدنيّة شرعيّة وأخرى شبه عسكريّة غير شرعية، تعمل في خدمة أهدافه واستراتيجيّاته.
بالنسبة إلى المنظّمات المدنيّة الشرعيّة، تمّ تكثيفُ الجهود لتوجيه منظّمات قائمة فعلاً، كجمعيّة الدفاع عن الفكر الأتاتوركيّ وجمعيّة التضامن من أجل الحياة العصرية، بما يَخدم هذه “السياسة،” من غير إهمال لعب دورٍ مؤثّرٍ داخل منظّمات الشباب أو أُسَر الشهداء [قتلى الجيش التركيّ في صراعه ضدّ حزب العمّال الكردستاني] داخل التيّار القوميّ. أما بالنسبة إلى المنظّمات شبه العسكريّة غير الشرعيّة، فنلاحظ، بموازاة شبكة “أرغنكون” الشهيرة التي تتصدّر قائمتها، تسارعَ الجهود لتأهيل وتنظيم الكوادر التي يمْكن استخدامُها في عمليّات تحريضيّة، وفي حشد الجماهير، غالبًا بقيادة ضبّاط متقاعدين وبمبادرةٍ منهم.
نحن لا نعْرف طبعًا متى، وكيف بالضبط، اتُّخذ القرار بهذه “الهيكلة.” بل يُحتمل ألاّ يكون هناك أيُّ قرار رسميّ بهذا الشأن. لكنّ المعلومات المحدودة والقرائن التي وصلتْ إلى الرأي العامّ بخصوص “الهيكلية” التي أَعلنتْ عن وجودها بواسطة المظاهرات المناهضة لحزب العدالة والتنمية وعمليّات تفجير القنابل والاغتيالات، بدءًا من مطلع السنة الأخيرة من عمر حكومة حزب العدالة والتنمية، وبخاصّةٍ مع اقتراب موعد انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة (ربيع 2007)، دفعتْ إلى الاستنتاج أنّ قرارًا اتُّخذ، رسميًا أو بصورة مبطّنة، منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بهذا العمل السرّيّ المنظّم. أضف إلى ذلك أنّ الوثائق التي تمّ التأكّدُ من صحّتها بصدد الخطط الانقلابيّة المسمّاة “ضوء القمر” و”الفتاة الشقراء” (2004) تحدّثتْ عن نموذج مشابه في التنظيم والنشاط بهدف “تهيئة البيئة الملائمة للقيام بانقلابٍ عسكريّ، وتكوين رأي عامّ مؤيِّدٍ له”؛ كما كشفتْ أنّ المستوى القياديّ كلَّه داخل الجيش على علم بالفعّاليّات الجارية على قدم وساق في خدمة الهدف المذكور. وبقدر ما نفهمه، فإنّ المستوى القياديّ بأكمله تقريبًا في تراتبيّة الجيش يرى وجوبَ “النضال” ضدّ سلطة حزب العدالة والتنمية، من خلال الروابط شبه السرّيّة مع منظّمات تشبه حزبًا “مدنيًا” شبه شرعيّ. ولكنْ في حين كان بعضُ “الصقور” يدفعون باتجاه تسريع الأنشطة المنظّمة لخلق بيئةٍ ملائمةٍ للانقلاب العسكريّ خلال فترة قصيرة للإطاحة بالقوة بحكومة حزب العدالة والتنمية، رأى آخرون ممن رجحتْ كفّةُ الموازين لصالحهم أنّ الإطاحة بالقوة ليست ضروريّة الآن، وأيّدوا استمرارَ البنية التنظيميّة المشار إليها في أنشطتها الهادفة إلى ترهيب حزب العدالة والتنمية والحطِّ من اعتباره، لفترةٍ أطول.
النتيجة التي يمكن استخلاصُها من كلّ هذه الأدلة والقرائن هي أنّ الحركة المنظّمة تحت يافطة “العلمانيّة” أو “الجمهوريّة” في العامين الأخيرين بشكلٍ خاصّ، والعلاقات والفعاليّات التي تمت باسمهما، تنطوي جميعًا على منطقِ تحوُّلِ الجيش إلى حزب سياسيّ، وإنْ لم يكن ذلك بقرارٍ خطّيّ من المستوى القياديّ فيه. وهذا يعني أنّه أصبح، عمليًا، “حزبًا سياسيًا.” وما زال يلعب في المشهد السياسيّ في تركيا دورَ حزب المعارضة الحقيقيّ في مواجهة حكومة حزب العدالة والتنمية. وبموازاة موافقة المعارضة الأخرى (حزبي الشعب الجمهوريّ والحركة القوميّة) على هذا الدور بلا اعتراض، فإنّ حزب العدالة والتنمية بدوره هو على وعي بذلك، ويضع سياسته “المواجِهة للمعارضة” على أساس هذا الوعي.
بكلامنا هذا لا نكشف طبعًا عن حقيقةٍ مفاجئةٍ تجهلها أغلبيّةُ المجتمع. فجميع الناس تقريبًا في تركيا يعرفون أنّ الصراع والاستقطاب في الميدان السياسيّ ـ الاجتماعيّ يدور بين حزب العدالة والتنمية من جهة، والجيش من جهة أخرى. ومن يقول ذلك كمن يعلن ما هو معلن. وهذا هو الوضع غير الطبيعيّ، أعني تآلفنا إلى هذا الحدّ مع هذا الواقع الخاص بتركيا! فلنضربْ صفحًا عن أكثر التيّارات والحركات السياسيّة التي وُجدت طوال أكثر من قرن (ولو أنّ عددًا منها فقط ما ما زلنا نتذكّر اسمَه)، والتي وعت ما يعنيه النظامُ الجمهوريّ الديمقراطيّ في التقدّم العامّ للمجتمعات البشرية. فلو أنّها بذلت جزءًا من الجهد الذي صرفتْه في الصراع السياسيّ، من أجل نشر هذا الوعي وتكوين مفهوم متماسك للجمهوريّة والديمقراطيّة والإيمان بهما؛ ولو أنها خضَّت بهذه الطريقة ثقافتنا السياسيّة التقليديّة؛ فمن المحتمل أننا ما كنّا في الحال الشائعة من التآلف مع وضعٍ بهذا الشذوذ. لطالما ارتفعت الشكوى طبعًا من زيادة وزن الجيش في الحياة السياسيّة عمومًا، ومن كون الانقلابات العسكريّة أمرًا لا يمكن القبولُ به، ومن تصدّر الجيش إلى اليوم واجهةَ المشهد السياسيّ وسلوكه مسلك حزب سياسيّ. غير أنّ هذه الشكاوى لم تتجاوزْ مستوى النقّ، ولم تصبح قطّ موضوعًا لمعارضةٍ جدّيّةٍ ومتواصلةٍ وجبهيّة، ولا بطبيعة الحال موضوعَ حملةٍ سياسيّة شاملة.
ولكنْ مهما كان الحديث يدور هنا عن “فيض” وزن الجيش في الحياة السياسيّة، وعن “إرثه” الانقلابيّ، فهذا وذاك ليسا في حقيقتهما سببين بقدْر ما هما نتيجتان. صحيح أنّهما باتا عامليْن مؤثِّريْن بحدّ ذاتهما في النظام السياسيّ والثقافة السياسيّة، واكتسبا صفة التحديد، لكنهما ليسا المصدرَ الأصليّ للمشكلة. وإذا كان لا بدّ من تحديد مصدر أصليّ أو سبب أكثر تجذّرًا، فهو ثقافتنا السياسيّة القديمة التي بدأتْ تتفارق، بعد نقطةٍ محدّدةٍ من تاريخ حداثتنا، وأخذتْ تتشكل في تياريْن متخاصميْن هما: التيّار السلطويّ المتمركز حول الدولة، والتيّار الاجتماعيّ ـ الثقافيّ المحافظ. لقد وُلد هذان التيّاران من رحم ثقافتنا السياسيّة القديمة، ولم يشاءا الانفصال عنها قطّ، لأنّهما يتغذّيان عليها معًا. ولطالما حافظا كلاهما على أهمّ عناصر هذه الثقافة الموغلة في القدم، وهي: مفهومُ الدولة الواقفة فوق المجتمع، وذهنيّةُ الرعيّة المتجذّرة إلى درجةٍ يتحوّل فيها مفهومُ “المواطنة” الحديث إلى مفهومٍ لفظيّ، وما يرتبط بهما ارتباطًا وثيقًا من معايير سياسيّة مدعَّمةٍ غالبًا بأحكام مسبّقة قوميّة/دينيّة. ولطالما تمّ إضفاءُ مضامين مشوّهة ومقزّمة على أكثر الشعارات والأفكار حداثةً في ظاهرها. على هذا الأساس، “نجح” كلا التياريْن المتخاصميْن في تسويق مفهومَيْ “الجمهوريّة” و”الديمقراطيّة” اللذيْن تقاسماهما فيما بينهما، وفي تسويق مفهوم المواطن المتمتّع بحقوقٍ وحريّاتٍ لا يجوزُ المساسُ بها ويرى في نفسه شريكًا في السيادة والسلطة والمسؤوليّة، بمضمونٍ يسَطِّح الوعي. لذلك حين تدلي الأكثريّةُ العظمى بأصواتها للجمهوريين أو الديمقراطيين، تكون في الحالة الأولى قد منحت الحقَّ في اتخاذ القرارات التي تمسّ مصيرَ المجتمع إلى مؤسّساتٍ وكوادرَ تعمل بطريقة الاحتواء kooptasyon، وتكون في الحالة الثانية قد عبَّرتْ عما تريده في من انتخبتهم ـ والأصحّ في من اختاروا لها من ستنتخب. وتكون الأكثريّة بذلك قد تقبّلتْ أن السيادة والمسؤوليّة وسلطة اتخاذ القرارات المصيريّة تبدأ وتنتهي مع هذا الاختيار بين البديلين.
إنّ التيارين اللذين يتقاطعان عند اختزال المواطَنة إلى “الانتخاب” وحده لم تكن لديهما أصلاً أيّةُُ هواجس لتطوير وعي وإيمان حقيقيين بالجمهوريّة والديمقراطيّة. العامل الذي كان يُحتمل أن يرغمهما على ذلك، أو يُحتمل أن يبدّد هيمنتهما على الحياة السياسيّة في تركيا بقدْر ما يرغمهما على ذلك، هو التيّارات والحركات الليبراليّة واليساريّة التي هي إفرازٌ مباشرٌ للحداثة، ومثَّلَتْ قطيعتها مع التقليد، وقيمها الأصليّة كالتجدُّد والتقدم. معلومٌ أنّ التيّارات الليبراليّة، في جميع المجتمعات تقريبًا، ضمُرتْ منذ البداية باحتمائها تحت أجنحة النزعة المحافظة، في مواجهة التيّارات الراديكاليّة التي تبنّت قيمَ التجدد والتقدّم لغايات مساواتيّة ـ وإن لم يكن ذلك بالمقاييس التركيّة ـ وابتعدتْ عن دورها “الإرغاميّ” المفترض المذكور أعلاه.
أما التيّارات الاشتراكيّة ـ المساواتيّة، فقد تراجع اهتمامُها بهذا الدور بقدر انسياقها نحو مقاربة اقتصادويّة تختزل السياسةَ والوعيَ السياسيَّ والوجودَ السياسيَّ إلى مجرّد مشتقّات للاقتصاد والمصالح الاقتصاديّة. هذه المقاربة، التي أبعدتْها عن فكرة أنّ للوعي الديمقراطيّ والوعي بالمواطنة أهميّةً مصيريّةً بحدّ ذاتهما، دفعتْها إلى ممارسة السياسة والتفكير في النضال السياسيّ ضمن قوالب لا تختلف قطّ عن قوالب التياريْن الرئيسيْن. التيّار العامّ للحركات الاشتراكيّة حاد عن أنّ للسياسة / “الاشتغال بالسياسة” مضمونًا وقيمةً وجوديّة في ذاتهما، ولم يتورّعْ عن جعلهما فعّاليّتيْن تابعتيْن لمصالحَ وأهدافٍ اقتصاديّة، أو لتحقيق “مكاسب” يمكن تحويلُها إلى مكاسب اقتصاديّة. لذلك، لم ير التيّار الاشتراكيّ، مثله مثل التيّارات الأخرى، المشكلاتِ النوعيّةَ في ميدان السياسة، كقصور الحقوق والحريّات الفرديّة والتشوّهات المؤسسيّة والبنيويّة في النظام الجمهوريّ الديمقراطيّ، بوصفها مشكلاتٍ مستقلة، من شأن الاهتمام المعمَّقِ بها أن يحفز ديناميّات التغيير بصورةٍ مباشرة. لقد رأت التيّارات الاشتراكيّة فيها مشكلات ثانويّة تنتمي إلى البناء الفوقيّ. وبلغ بها الأمر أن رأت إمكانيّة قيام “ثورة اشتراكيّة” في بلدان لم تسمع بشيء اسمه المواطنة، شأن أفغانستان وأثيوبيا، حيث مجتمعاتٌ لا يتجاوز مستوى الوعي السائد فيها اعتبارَ الجمهوريّة والديمقراطيّة عبارةً عن إسقاط الملك على يد ضبّاط الجيش الملكيّ.
وإذا كانت أكثريّة الحركات الموصوفة بالاشتراكيّة في تركيا تلاقي اليوم صعوبةً في احتلال موقع مستقلّ في المشهد السياسيّ، حيث يدور صراع متصل بين أطرافٍ تخندقتْ وراء قطبي الجمهورية العلمانية والديمقراطية المحافظة، فمردُّ ذلك بصورة رئيسة إلى أنها لم تتحرّرْ بعدُ من المقاربة الموصوفة أعلاه. أكثريّة الاشتراكيين تهرب من صعوباتها إلى الأمام، إمّا بزعم أنّ الصراع لا علاقة له بالمسألة الحقيقيّة “الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة” لتصل إلى موقف المتفرج القائل “فخّار يكسّر بعضه،” وإمّا أنها تدرك عجزها عن إظهار الاختلاف النوعيّ، وبالقدر الكافي، لوجهة نظرها عن هذا الطرف أو ذاك في الصراع الدائر، فتلجأ إلى التبرير وتُكثر من الاستدراكات، فتضطرّ إلى تحمّل وضع من لا يُحمَل على محمل الجدّ.
وإحدى الخصائص الرئيسة لهذا الموقف وللمقاربة التي تنتجه هي أنه يُعَرِّف ويعي السياسة، ويصوغ مفهومَها للظواهر والأحداث والتطورات، على مستوى السلطة السياسيّة وفي الإطار المرجعيّ للمؤسّسات والكوادر التي تلعب دورًا في هذا المستوى. وهو ما يعني، باختصار، النظرَ إلى السياسة من وجهة نظر الحاكمين. في حين أنّ “المقاربة السياسيّة الثوريّة” التي على الحركة الاشتراكيّة أن تمتلكها وتعي أهميتها ومضمونها تقتضي، قبل كلّ شيء، تناولَ السياسة على مستوى “المحكومين،” وتعريفَ الظواهر والأحداث السياسيّة انطلاقًا من هذا المستوى، والبحثَ عن إمكانات وديناميات التطوّر والنضج السياسييْن، والاشتغالَ على ذلك كلّه في هذا المستوى. لهذا السبب فإنّ السياسة الثوريّة/الاشتراكيّة لا تقْصر اهتمامَها على ما يدور في مستوى الحاكمين، بل تتعدّى ذلك إلى كلّ الظواهر والأحداث في الميدان الاجتماعيّ بأكمله، بحيث يمكن تلخيصُها بلا حرج بأنها “حملةٌ” دائمةٌ لرفع مستوى الوعي السياسيّ من شأنها تنميةُ حجم معارف الفرد أو المواطن العاديّ ومسؤوليّاته وتجاربه. هذا هو السبب الأصليّ لكون التيّار الاشتراكيّ أكثرَ “سياسيّةً” قياسًا إلى التيّارات الأخرى التقليديّة والحديثة التي تَعدّ الفردَ أو المواطنَ العاديّ “ذاتًا” على الورق فقط، ولا يشكّل ابتعادُه العمليّ عن كونه ذاتًا أيَّ هاجسٍ لديها، بل تشجِّع على ذلك عمليًا. إذ فقط، وفقط على هذا النحو، يمكن تطويرُ الديناميّات التي تؤدّي إلى تجاوز الديمقراطيّة “التمثيليّة” نحو ديمقراطيّة مباشرةٍ أكثر وأكثر، نحو دفع التمييز بين الحاكمين والمحكومين ـ وهو شكل أكثر تجذّرًا من اللامساواة ـ إلى خارج التاريخ، الأمر الذي سيعني تحقيق أحد أهمّ أبعاد “الهدف النهائيّ” لدى تلك التيّارات الاشتراكيّة.
من زاوية النظر هذه، فإنّ على كلّ من يحْْملون صفة الاشتراكيّة على محمل الجدّ، حين يتّخذون ـ في الصراع والاستقطاب الدائريْن في “مستوى الحاكمين” بين حزب العدالة والتنمية والجيش ـ موقفهم المنحاز إلى أولويّة الديمقراطية، أن يوضحوا المسافة التي تفصلهم عن حزب العدالة والتنمية، ليس فقط من خلال إبراز محدوديّته وتناقضاته كحزبٍ ديمقراطيّ محافظ، بل أساسًا من خلال إبراز الفارق النوعيّ لمفهومهم الخاصّ عن الديمقراطيّة المباشرة.

إنّ القيام بذلك في الشروط القائمة سيكون بالتوازي مع تشهيرٍ شاملٍ بالانحطاط الذي وقع فيه النظامُ السياسيّ. الظاهرة المركزيّة لهذا الانحطاط هي انسياقُ المؤسّسات والكوادر التي طالما حملتْ صفة “مؤسّس الجمهوريّة والقائم على حمايتها ومراقبتها” إلى موقفٍ يدمِّر جوهر مفهوم الجمهوريّة ويقلبه إلى نقيضه. إذا كان الجيش، بوصفه إحدى المؤسّسات التي حمَّلَها النظامُ الجمهوريّ وظيفةَ خدمةِ المجتمع بأسره بلا تمييز، واعتبرَها لهذا السبب أحد”أجهزة الدولة،” قد ركّز جهودَه على الصراع ضدّ “عدوّ داخليّ” يكاد يشكّل أغلبيّة المجتمع الساحقة، أكثر من تركيزه على وظيفته الدفاعيّة الأصليّة ضدّ الخارج، بل ذهب إلى حدّ نسجِه شرنقةً حزبيّةً حول نفسه، أفلا يمكن القولُ إنه لم يعد جيشًا جمهوريًا بقدْر ما هو حزب من الأحزاب تتألّف نواتُه الصلبةُ من القوّات المسلّحة؟ كذلك هي حال مؤسّسات القضاء الأعلى على سبيل المثال، التي انطلقتْ مع قيام الجمهوريّة، حاملةً مسؤوليّة تحقيق سيادة القانون والحقوق بمفهومهما الحديث، لكنها ابتعدتْ ـ في السنوات القليلة الماضية بصورة خاصة، بقراراتها المتلاحقة وبمواقفها ـ عن المفهوم الحديث للقانون والحقوق إلى درجةٍ تثير القشعريرة. ألم تخفضْ بذلك النظامَ الجمهوريَّ، القائم على المفهوم الحديث للحقوق، إلى سويّتها؟
يلتزم حزبُ العدالة والتنمية وحكومتُه الصمتَ أمام هذا الانحطاط. ولا يعود سبب ذلك إلى أنه يريد الحفاظ على موقفه المعتدل ولا يريد التشدّد في صراعه ضدّ اللاعبين الرئيسين في هذا الانحطاط، بقدر ما يعود إلى أنه لا يرى أيَّ انحطاطٍ من منظوره القاصر إلى النظام الجمهوريّ الديمقراطيّ، وبراغماتيّته السطحيّة التي تمنعه من الرؤية. لا يرى حزبُ العدالة والتنمية من ذلك الانحطاط سوى تجلّياتِه التي تصيبه هو. ومن المحتمل أنه يحْلم بالعمل المشترك مع تلك القوى، بل جرِّها إلى صفّه، لو تراجَعَ ما يصيبه من أذاها أو أمكن تلافيه.
التيّار الديمقراطيّ المحافظ، وبخاصةٍ نسخته القائمة في مستوى الحاكمين، يمكنه تحمُّل هذا الانحطاط بسهولة والتوافقُ والتشابكُ معه. إنّ مشهد النظام الجمهوريّ المتهالك، هذا، يؤكّد قبل كلّ شيء الضرورة المصيريّة لوعي المواطنة بمعناها الحقيقيّ، مواطنة تتحمَّلُ مسؤولية القيام بوظيفة الإرادة المؤسِّسة. لا شكّ في أنّ ذلك يتعلّق بامتلاك الوعي والعزيمة الضرورييْن لفهم هذا الدور. إنّ المجتمع التركيّ، والاشتراكيين الأتراك خصوصًا ـ إذا كانوا على وعي بصفتهم هذه إلى الآن – يقفون في مواجهة هذا الامتحان، بوجودهم ونضجهم وثقتهم بالذات وإرثهم الثقافيّ.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١١-١٢ /٢٠١٠

الخوف من مواجهة التاريخ: خطوات أساسيّة على طريق المصالحة التركيّة – اﻷرمنيّة
* تانَر أكجام
مقدّمة
تزايدتْ سياسةُ الاعتذار في العالم حتى سمّى البعضُ القرنَ العشرين “عصرََ الاعتذار”.1 وقد قُدّمتْ هذه الاعتذاراتُ من جهاتٍ مختلفة، أفرادًا ومنظّمات مهنيّة وتجاريّة وزعماء دينيين وحكوماتٍ ورؤساءَ دول؛ كلٌ يعتذر لخطإ ما ارتُكب في الماضي.2 ثمة محاولات كثيرة لشرح سبب هذا التضخّم في الاعتذارات، وأكثرُها يتمحور حول أفكارٍ من قبيل العولمة، وانحسار الدول – الأمم، وتزايد النزعة الأخلاقيّة في العالم، وتأثير الهولوكوست [المحرقة النازيّة]، إلخ.3 نقدّم ههنا عرضًا موجزًا لهذه الشروح.

يفسّر ألازار باركان تزايدَ الاعتذارات بتسليط الضوء على “تركيزٍ جديدٍ على الأخلاق.” بالنسبة إليه، تشكّل “الأخلاقُ العالميّة،” المتجسّدةُ في قوانينِ حقوق الإنسان وأعرافه، محدِّدًا أوّليًا لظاهرة الاعتذار العالميّة. إذ يقول إنّ “تفتّح الشعور بالذنْب في العالم” قاد إلى استراتيجيّات مختلفة للاعتذار.4 ويرى جون توربي أنّ الاعتذار السياسيّ نتاجٌ للأعراف الدوليّة بشكل عامّ، ولنجاح نشر الوعي بالهولوكوست بشكل خاصّ، وأنّ الهولوكوست حدّد معاييرَ الاعتذار الكونيّة.5 أما ميشيل – رولف ترويلوت فيجد أنّ موجة الاعتذارات السياسيّة تعبّر عن انتصار أفراد ليبراليّين على الجماعة؛ ففي عالمنا الكونيّ نفكّر بالجماعات وكأنها أفراد، وننسب إليها بعضَ خصائصهم كالعيب والشرف والذنْب والكرامة والكبرياء، وبذلك نتوقّع منها أن تتصرّف ضمن هذه التصنيفات الأخلاقيّة المترسّخة.6 يختلف جيفري ك. أوليك وبريندا كوفلين مع هذا الطرح ويعتبران أنّ “صعود الندم بأشكاله جميعِها علامةٌ على فشل الدولة في خلق آليّات دفاعٍ سيكولوجيّة مُواتية،” ويعكس انحسارَ الجماعات، كالدولة – الأمّة، لا انتصارها.7
أما يورغان هبرماس فيرى أنّ الأفق الزمنيّ للتاريخ قد قُلب: فاليومَ يحلّ رعبُ الماضي وتذكّر الضحايا محلّ جاذبيّة يوتوبيات القرنين التاسع عشر والعشرين التي كانت قد هيمنتْ على نظرتنا عن المستقبل وعن أنفسنا. والمفارقة أنّ هذه اليوتوبيات عينَها كانت مصدر الكثير من الضحايا الذين نستذكرهم الآن. إنّ تذكّر الضحايا وحدَه، لا اليوتوبيا نفسها، هو القادرُ على تشكيل أساسٍ لا شكّ فيه لأحكامنا الأخلاقيّة، وهو جزءٌ مهمّ من الهويّة العالميّة الجمعيّة.8
وأما برنارد غيسن فيرفض أن تكون أنساقٌ ثقافيّة مختلفة، كانهيار اليوتوبيات العظمى، أساسًا وحيدًا لصعود النسق الجديد للهويّة الجمعيّة؛9 ذلك لأنّ انحسار اليوتوبيات العظمى والالتفاتَ إلى الذاكرة حصلا في أمم مختلفة بدرجاتٍ متفاوتة. وهو يفسّر اعتناق طقس الاعتراف الجديد بالتواصل المتسارع، وبتضاؤل أهميّة المسافة بين الشعوب والثقافات والأديان، حتى لم يعد “الآخرون” أجانب غير مرئيين، بل باتوا قريبين إلى حدّ أننا نستطيع أن نراهم ونتواصلَ معهم كلّ يوم. لذلك فإنّ الكليشيهات القديمة لتعريف “الآخرين” بعباراتٍ مزدريةٍ لم تعد صالحة اليوم، ومن نتائج ذلك أننا لم نعد قادرين على أن نتحدّث بفخرٍ عن إبادة العدو وأن نحتفي بانتصاراتنا الماضية التي تقوم على النقاوة الإثنيّة وإقصاء الآخرين. علاوةً على ذلك، كما يقول غيسن، فإنّ هذه الاستذكارات الثقافيّة لا تستمرّ إلاّ إنْ نُقلتْ من مستوى الطقس القوميّ الجادّ والرصين إلى مستوى الفولكلور العديم الضرر؛ فعلى هذه الاستذكارات الجديدة ألاّ تسيء إلى مشاعر الغرباء (الخُرّج)؛ بل إنها قد تجتذب السيّاح أيضًا. وأحدُ طرق تحديد هويّة الذات هو خلقُ صورةٍ لاسياسيّةٍ عن الجماعة الضحيّة يستجيبها المراقبون الخارجّيون. هكذا يصبح التركيزُ على الضحايا بدلاً من المنتصرين، على الماضي بدلاً من المستقبل، على المصير المشابه للخُرّج بدلاً من تجانس الدُخّل، وعلى انقطاع الاستمراريّة بين الماضي والحاضر.
بإمكان المرء أن يقدّم تفسيرًا آخر لنزعة الاعتذار المتزايدة، وهو أنها لا تكلّف شيئًا، إذ إنّ “كثيرًا من هذه الجهود – وربما جميعها – ليس سوى جهدٍ رخيصٍ لتلطيف شعور ذنْبٍ متلكّئ يتعلّق بسوء فعلٍ ماضٍ.”10 يصبح الاعتذار بالمحصّلة لفتةً فارغةَ المضمون. إذا كان في هذا التقييم بعضُ حقيقة، فعلينا أن نأخذ في الاعتبار أنّ اعتذارات الدول قد تلعب دورًا أهمّ بكثير من حيث تطوير أعراف ومعايير جديدة في العلاقات الدوليّة. وأيًا كانت أسبابُ هذه الاعتذارات، فإنّ ما يهمّ هو أنّ عمليّة التصالح مع الماضي قد ابتُنيتْ ضمن نماذج جديدة. وهذه المقالة محاولة لمعاينة التوتّر التركيّ – الأرمنيّ ضمن نموذج جديد.
ضرورة إيجاد نموذج جديد
حتى الآن، كان يُنظر إلى المشكلة التركيّة ـ الأرمنيّة ضمن إطار النموذج القديم الذي أنتج هذه الصراعات، ألا وهو انهيارُ الأمبراطوريّة العثمانيّة وتخاصمُ جماعات إثنيّة وقوميّة مختلفة. بإمكان المرء أن يلقي بتبعة هذه الصراعات على رغبة كلّ من تلك الجماعات في ترسيم حدودها، وهو ما أدّى إلى الإبادة العرقيّة داخل هذه الحدود. اقتراحي هو ضرورة إيجاد إطار مفاهيميّ جديد، ووضع الصراع ضمن إطار النموذج الجديد للعدالة الانتقاليّة، كجزء من جهود الدَقْرطة داخل الدول ـ الأمم الموجودة حاليًا. ينبغي ألا يُنظر إلى الصراع على أنّه مجرّدُ خلافٍ بين فريقَين على أرضٍ أو حدود، بل باعتباره قضيّةَ حقوق إنسان داخل كلا المجتمعيْن وبينهما كجزءٍ من عمليّة دقرطتهما.
وذلك يعني أنّ على تركيا وأرمينيا، كدولتين متجاورتين، تمرّان بمرحلة انتقاليّة، أن تُقاربا الصراعَ كجزء من سيرورة انتقالهما باتجاه الديمقراطيّة: تركيا في عملية قبولها في الاتحاد الأوروبيّ، وأرمينيا في واقعها الجديد كدولة مستقلة بعد انفصالها عن الاتحاد السوفييتيّ. وعلى كل منهما أن تتعامل مع ماضيها كجزء من عملية الدقرطة، وأن تحاول إعادةَ تعريف نفسها، وتعريفَ الأخرى من خلال الحاضر لا الماضي. لكنْ حتى يتحقّق ذلك، على كلّ من المجتمعيْن أن يتفاعل مع الآخر، فاصلاً بشكل واضح بين الماضي والحاضر، بدلاً من البقاء رهينَ الماضي.
جوهر مجادلتي هو أن العلاقات التركيّة – الأرمنيّة الراهنة يمكن أن تتّصف بصرف النظر عن كلّ اختلافٍ صغيرٍ بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو ما يقود إلى إحساس باللازمنيّة. لاحظتْ تينا روزنبرغ، عند الحديث عن أوروبا الشرقيّة، أنّ “أوّل درس تعلّمتُه هو أنّ العديد من الدول لا تتعامل مع ماضيها لأنّ الماضي لا يزال معها.”11 وبالمثل، فإنّ العلاقات التركيّة – الأرمنيّة الراهنة مبتلية بحضور الماضي باستمرار، ومن ثمّ بـ”مِثليّة” الفاعلين sameness of actors في تصرّفاتهم وعلاقاتهم المتبادلة ووجهاتِ نظرهم. فاعلو اليوم يستمرّون بالتصرّف بعضهم تجاه بعض كما فعل سابقوهم. ولكي تتحلّى هذه المثليّةُ بالصدقيّة، يُفترضُ ضمنًا ثباتٌ نسبيٌّ للهويّة الجمعيّة على مرّ الزمن، وتقام سلسلةُ نَسَبٍ تصل المُذنبَ والضحيّةَ الأصليّيْن بممثّليهما اليوم، فيُخلقُ إحساسٌ بالمثليّة بين جماعات اليوم ونظيراتِها في الماضي. وهكذا يمْكن تخيّلُ الفاعلين الجمعيين بوصفهم مُجرَّداتٍ لاتاريخيّةً.
عقليّةٌ كهذه تقاربُ التاريخَ من وجهة نظر مزدوجة: فمن جهة، يُطرح التاريخُ جانبًا من أجل وصلِ فاعلي الماضي بممثّليهم الراهنين؛ ومن جهةٍ أخرى، تَستخدم هذه العقليةُ حدثًا تاريخيًا معيّنًا لتعيين هذه الجماعات في علاقتها بعضها ببعض. وبالنتيجة، بات الشعبان التركيّ والأرمنيّ اليوم مجرّدَيْن واحدهما بالنسبة إلى الآخر، تعميمَيْن لاتاريخيّين؛ بل هما ليسا تعريفَيْن بقدر ما هما ابتناءان. وباعتبارهما كذلك، يمكن المرءَ أن يستبدل بسهولةٍ كلمةَ “تركيّ” و”أرمنيّ” بأيّة صفةٍ من الصفات التي تشكّل “الآخر.” فبدلاً من تصنيفٍ معيّنٍ تاريخيًا، لدينا ابتناءاتٌ فارغة. وبذلك يكون التركيُّ ما ليس الأرمنيُّ إيّاه، ويكون الأرمنيُّ ما ليس التركيُّ إيّاه. فما الذي يمْكن فعلُه لبعث الحياة في هذه الأشكال الطينيّة، ولتحويل المجرَّدات إلى لحم ودم؟
نتيجةً لهذا الدمج بين الماضي والحاضر في مساحةٍ لازمنيّة، يتجمّد التاريخُ أيضًا. ولقد أسهمت الحرب الباردة، مع دعم الغرب غير المشروط لتركيا متراسًا ضدّ الاتحاد السوفييتيّ، في ذلك التجميد. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ، برز الأتراكُ والأرمن من الجليد متجلّدين في الماضي، فواصل كلُّ فريق النظر إلى علاقته الراهنة بالآخر ضمن سياق الفترة التي كان فيها الزمنُ متجمّدًا، أيْ خلال بناء دولتيْهما في بدايات القرن العشرين. إنّ عدم إمكانيّة تمييز الاختلافات بين الماضي والحاضر، وحقيقةَ أنّ كلا الفريقين لا يزال سجينَ ماضيه، مؤشّرٌ قويٌّ على أنّ كلا المجتمعين مصدومٌ نفسيًا. والطريق الوحيدة أمامهما لتعلّم كيفيّة التمييز بين الماضي والحاضر وكيفيّة بناء مستقبل جديد هي مواجهةُ ماضيهما، تاريخِهما المشترك، والتفاعلُ مباشرة بعضهما مع بعض.
لماذا تعاني تركيا صعوباتٍ في مواجهة تاريخها؟
لماذا تتجنّب الدولة التركيّة مواجهة ماضيها؟ قد تكون كلمة “التجنّب” في الواقع لطيفة أكثر من اللزوم. وإلاّ فكيف نفسّر عمق المقاومة التركيّة، والغضب والهياج الدفاعيّ، كلما ذُكر موضوعٌ من قبيل الإبادة الجماعيّة الأرمنيّة؟
تبدو الإجابة بسيطة للوهلة الأولى. إذ تشعر تركيا بأنها تُتّهم ظلمًا؛ وعندها يكون الموقفُ الدفاعيّ مُتوقَّعًا جدًا. لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة. فمن المتوقّع أيضًا أن يقوم شخص يشعر بأنه يُتهم ظلمًا بمواجهة متّهِِمِه، وبأن يطالب بالدليل، وأن يتحدّى النتائج. لكنّ تركيا تجرّم أيّة مناقشة للموضوع. والحال أنه يمكن فهمُ موقف تركيا تجاه الماضي بطريقتين. سأبدأ أولاً بملاحظةٍ عامّة، ثمّ ألتفت إلى الإبادة الأرمنيّة بشكل خاصّ.
إنّ نقص الوعي التاريخيّ في المجتمع التركيّ يبعث على الدهشة، حتى ليذهب المرءُ إلى حدّ تشخيص فقدان الذاكرة مرضًا اجتماعيًا هناك. وهذا لا يقتصر على فترة الحرب العالميّة الأولى وإنّما يمتدّ إلى أحداث في الستينيّات والسبعينيّات. النفور من مناقشة الماضي مضربُ الأمثال في الثقافة التركيّة، إذ تُتبّل الأحاديثُ اليوميّةُ بتعابير تفيد بأنّ الماضي لا يهمّ وأنّ المكوث فيه ليس صحيًا. على سبيل المثال، كلمة boşver تعني “انسَ ذلك، لا يهمّ”؛ وتعبير başka işin gücün mü yok? تمكن ترجمتُه بـ “أليس لديك شيءٌ آفضلُ تقلق عليه؟” بهذه الطريقة لا تُنسى الإبادةُ الجماعيّة الأرمنيّة وحسب، وإنّما الماضي الحديث أيضًا. المجتمع التركيّ ينزع إلى النسيان، لا بل يحبّ النسيان. يمكن أن نجادل أنّ في ذلك خللاً ثقافيًا جدّيًا ومصدرًا لكثير من مشاكل تركيا الراهنة. ولأنّ المجتمع التركيّ يفضّل المضيَّ إلى الأمام من دون مواجهةٍ ملائمةٍ للصراعات المُضمرة، فإنّ التوترات الاجتماعيّة تتراكم إلى أن تتفجر على نحو مُبالغ فيه.
يعزِّز هذه الرغبةَ في النسيان واقعٌ تاريخيٌّ آخر: رغبةُ الجمهوريّة الجديدة في خلق تاريخٍ جديدٍ لنفسها. والحال أنّ امتلاك أرض، وشعبٍ متجانسٍ، شرط ضروريّ لبناء الأمّة، لكنه غيرُ كافٍ. فبالإضافة إلى ما يُزعم أنهما الشرطان الإثنو- ثقافيّان أو الإثنو- دينيّان “الموضوعيّان” للأمّة، فإنّ شرط الذاكرة الجمعيّة ضروريّ هو الآخر؛ إنّه الأساس السيكولوجيّ للأمة “المتخيَّلة،” وللدولة القوميّة فيما بعد. خلال عمليّة خلق الذاكرة الجمعيّة، لا بدّ من إعادة كتابة التاريخ القوميّ بشكل فريد يعكس تجربةَ الجماعة القوميّة عبر الزمن. وغاية هذا العمل هي خلقُ شعور مشترك بين أفراد الجماعة بأنهم كانوا متّحدين في الماضي ولا يزالون يمثّلون جماعةً متّحدة. بتعبير إرنست رينان المفصِح، “لا يمكن تشكيلُ أمّة إلاّ بتحريف ماضيها”؛12 “وأكثرُ أشكال التحريف شيوعًا هو ‘النسيان’.”13
حين أخذ مؤسّسو الجمهوريّة التركيّة هذه المهمّةَ على عاتقهم، واجهوا تحدّيًا إضافيًا. إذ لم يكن في وسع الكوادر الكماليّة هؤلاء أن يتطلّعوا إلى قرونٍ قريبة العهد من أجل تأريخ قوميّ تركيّ وشرعيّة قوميّة. من الأسباب الأساسيّة لذلك ميلُ الإسلام إلى “عكس القَوْمَنة،”، وهو ما نجح بشكل خاصّ مع الأتراك العثمانيين الذين تماهوْا بشكلٍ كاملٍ تقريبًا مع المجتمع الإسلاميّ. وكان ذلك من العمق بحيث تنوسي كلُّ الماضي التركيّ السابق للإسلام تقريبًا. هيمنةُ الإسلام على الهويّة القوميّة أقصتْ كلَّ ما كان يُدعى تركيًا إلى النسيان طوال فترة التاريخ العثمانيّ. وكان على حكّام الجمهوريّة الجديدة، من أجل إيجاد أو استعادة تاريخٍ تركيٍّ جديد لأنفسهم، القفزُ إلى الوراء ستمائة عام، متجاوزين بذلك العثمانيين.
ردًا على إهمال العثمانيين خلْقَ إحساسٍ بالتركيّة، وبهدف قطع أيّة صلة بالماضي العثمانيّ، قام مؤسّسُ الجمهوريّة بإقصاء الفترة العثمانيّة إلى النسيان، وعملَ على حجْب الذاكرة الجمعيّة من خلال مُقتَرَبٍ راديكاليٍّ تَمثّلَ في هجر الأبجديّة العربيّة وإدخال أبجديّةٍ لاتينيّةٍ جديدةٍ مع “ثورة” 1928. وفي الأعوام التي تلتْ ذلك، تمّ تأسيسُ معهدٍ للغة التركيّة بهدف إعادة اكتشاف كلماتٍ تركيّةٍ قديمة، أو ابتداع كلماتٍ جديدة. تتريكُ اللغة هذا تمّ بسرعةٍ وجذريّةٍ بلغتا من الحدّة أنْ حُرمت الأجيالُ اللاحقةُ الاطّلاعَ على شهادات أسلافهم الكتابيّة على الماضي؛ فبالنسبة إلى قارئ تركيّ حديث، تبدو النصوصُ الكتابيّة المُلتّنة (من اللاتينيّة) في الثلاثينيّات لغةً أجنبيّةً هي نفسها. وهكذا أصبحتْ علاقةُ المجتمع التركيّ بماضيه وتاريخه محدّدةً بالشكل الذي حدّده بضعةُ أساتذةِ تاريخٍ مُصادَقٍ عليهم رسميًا. من الصعب تخيّلُ مجتمعٍ لا يعرف تاريخَه القوميّ ما قبل عام 1928، لكن الحقيقة هي أنّ الناس لا يستطيعون وإنْ قراءةَ مذكّراتِ آبائهم وأجدادهم. وهكذا فإنّ المجتمع التركيّ اليوم يعتمد على ما علِق في الذاكرة والتجربة والتقليد الشفاهيّ.
هذه الملاحظاتُ تفيد في فهم فقدان الذاكرة الاجتماعيّ في تركيا، لكنها لا تفسّر لماذا يسبِّب موضوعُ الإبادة الأرمنيّة كلَّ هذا الانزعاج لدى الأتراك. لا بدّ، إذن، أن تكون هناك أسبابٌ أخرى، أكثر تحديدًا، لهذه الحساسيّة.
1. الخوف من الذنْب و/أو العار. أوّل ما يتبادر إلى الذهن في محاولة شرح الصعوبة التي تعانيها تركيا في مواجهة ماضيها هو الخوفُ من الذنْب، وما قد يتلو ذلك من عار.14 ربما تكون كلماتُ أدولف آيخمان، إذ حاول قسّيسٌ حثّه على الاعتراف بإحساسه بالذنْب، مفيدة في هذا الصدد: “لا أستطيع أن أسمح لك بغرس الشكّ في قلبي في هذه المرحلة المتأخّرة.”15 الحقّ أنّ الدولة التركيّة أو المجتمع التركيّ يعانيان مشكلةً مشابهة. فبعد تسعين سنةً، يطوّر المرءُ هويّةً معيّنة؛ وإذا ما قبلتْ تركيا ذنْبَها فجأةً الآن، فقد تكون الأعباءُ الأخلاقيّةُ والمادّيّةُ ثقيلة جدًا.
علاوةً على ذلك، يعني الاعترافُ بهذا الذنْب قبولَ أمرٍ مدمِّرة جدًا، وخطر على الهويّة القوميّة التركيّة وعلى صورة الأتراك عن أنفسهم. باختصار، تخاف تركيا من أنّ تمزِّق مواجهتُها لتاريخها نسيجَ المجتمع التركيّ إربًا. هذا الخوف يمْكن شرحُه بفكرة هبرماس عن وجود عنفٍ سرّيٍّ داخل بُنية النسيج الاجتماعيّ ومؤسّساتِ المجتمع، وهذا العنف يخلق بُنية اتصالٍ في المجتمع تشرعن التقييدات الضمنيّة وتستبعد مواضيع معيّنةً من الخطاب العامّ.16 من المهمّ أن ندرك أن هذه البُنية لا تُفرض على المجتمع من قبل الحكّام، بل تُقبل وتُستدخَل من قِبل المحكومين. وبسبب”العنف السرّي” هذا، لا تُقصى المواضيعُ التي يريد المجتمعُ تجنّبها إلى ساحة الماضي وحسب، بل تُنسى تمامًا بإجماعٍ عامّ بين أفراد المجتمع. يصف فرويد هذا بأنه سيكولوجيّة إنسانيّة طبيعيّة تمامًا: “ما يجده المجتمعُ مصدرَ إزعاج يتحوّل إلى خطأ.”17 وهذا ما حدث مع الإبادة الجماعيّة للأرمن: المزعج يُقْصى عن الخطاب العامّ باعتباره خطأ، إنْ لم يكن باعتباره قضيّةً غيرَ موجودةٍ أصلاً. لقد طوّر المجتمعُ التركيّ تخدّرًا أخلاقيًا في ما يتعلّق بموضوع الإبادة الأرمنيّة.
ما نتحدّث عنه هنا هو وجودُ واقعٍ اتصاليّ في المجتمع،18 يمكن وصفُه بأنّه سرّ جمعيّ بين أفراد هذا المجتمع. أجادل بأنّ الإبادة الأرمنيّة قد قُذفتْ، بهذه الطريقة، إلى “ثقب الذاكرة الأسود.” لقد قدّم هذا الإجماعُ المجتمعيّ على “حلفٍ جمعيٍّ للصمت” أولَ هويّةٍ قوميّةٍ بعد تأسيس الجمهوريّة التركيّة. فإذا واجه المجتمعُ التركيُّ التاريخَ الآن، غدا كلُّ شيء عرضةً للمساءلة، بما في ذلك المؤسّساتُ الاجتماعيّة، وأنظمة الاعتقاد، والثفاقة، واللغة نفسُها؛ بل إنّ صورة المجتمع عن نفسه بشكل عامّ تكون عرضةً للمساءلة. ولا شكّ أنّ لذلك بعضَ الآثار المدمِّرة، إذ ليس سهلاً تغييرُ واقع اجتماعيّ تمّت مأسستُه على مرّ تسعين سنة خلت!
2. الخوف من العقاب. سبب آخر لعدم الرغبة في مواجهة التاريخ هو الخوفُ من العقاب. فأكثر المجادلات شيوعًاً هي أنّ تركيا ستُضطرّ، إذا اعترفتْ بالإبادة، إلى دفع تعويضٍ على شكل أرضٍ أو مال. ينظر البعضُ إلى الإصلاح كنوع من الابتزاز الأخلاقيّ، كمحاولةٍ لغشّ تركيا لدفع كميّاتٍ كبيرةٍ من الأرض والمال. يدفع القوميّون على كلا الجانبين بمسألةٍ مفادُها أنّ على تركيا أن تسلّم أرضًا لأرمينيا. ولكنْ ليس لهذه القضيّة أيُّ أساس قانونيّ تبعًا للقانون الدوليّ.19 ولوادّعى البعضُ أنّ هناك مسألة أرض لم تُحلّ بعد، فلن تكون أيّةُ مصالحةٍ بين الدولتين ممكنة.
لقد تحدّث رئيسُ الوزراء الألمانيّ السابق هلمت كول عن أهمية “تثقيب” الحدود في عمليّات المصالحة. وحدّد الهدف من جهود المصالحة الألمانيّة – الفرنسيّة والإسرائيليّة والبولونيّة بالكلمات الآتية: “نريد أن نحقّق الأهداف التي أعلنها أديناور باعتبارها الغايات الأساس للسياسة الخارجيّة الألمانيّة عام 1949: الفهم والمصالحة، وبخاصّة مع فرنسا وإسرائيل وبولونيا. نودّ أن نخلق مع جارتنا الشرقيّة بولونيا ما كان ممكنًا مع… فرنسا. علينا أن نتعلّم درسًا حازمًا… أنه لن تكون مشاكلُ حدوديّةٌ في أوروبا مرةً أخرى… علينا أن نجعل الحدود مثقّبة، كما هي الحال بين ألمانيا وفرنسا… ولهذا نريد أن تصبح بولونيا… جزءًا من الاتحاد الأوروبيّ.”20
إذا طرحنا جانبًا مشكلة إعطاء أرض لأرمينيا، فسيكون لأطروحة التعويض/الإصلاح هذه شيءٌ من الملموسيّة، على شكل تعويض من الخسائر الفرديّة، ممتلكاتٍ وثروات. وذلك يعني أن تُوافق تركيا على دفع مبلغٍ محدّد من المال لتعويض الأرمن من خسائرهم في الماضي. لذا يمكن القول إنّ أحد أسباب ممانعة تركيا للتاريخ هو أنها إذا اعترفتْ باقتراف خطإ في الماضي، فسيتوجّب عليها دفعُ تعويضات الآن. وعليه، يمكن الاستنتاج من هذا النوع من المجادلات أنّ ما يهمّ تركيا ليس ما حدث فعلاً في الماضي، بل ما قد يترتّب على الاعتراف بذلك من عواقب. بيد أنّ هناك مؤشِّرات أخرى تعارض هذه الفرضيّة. ففي 18/6/1987، أعلن الاتحادُ الأوروبيّ أنّ أحداث 1915 تُعتبر إبادةً جماعيّةً بحسب اتفاقيّة الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها لعام 1948، لكنه أضاف أنّ البرلمان “يقرّ بأنّ تركيا اليوم لا يمكن أن تتحمّل مسؤوليّة الفاجعة التي حلّت بأرمن الإمبراطوريّة العثمانيّة، ويؤكّد أنه ليس ممكنًا اشتقاقُ أيّة مطالب سياسيّةٍ أو قانونيّةٍ أو ماديّةٍ بناءً على الاعتراف بهذا الحدث التاريخيّ كعمل إبادةٍ.” وقد أقرّ البرلمان قراراتٍ أخرى معدّلةَ المضمون بعض الشيء في السنوات التالية،21 لكنها لم تنفعْ في شيء. وحتى حين أعلن الرئيسُ الأرمنيّ السابق روبرت كوشاريان أنّ الأرمن لا يطالبون تركيا بأيّة أرض، وأنّهم قد يقْنعون بإقرارٍ لفظيٍّ فقط، ظلّ الأتراكُ غير مقتنعين وغارقين في قلقهم العميق من هذه القضيّة.22 ومع ذلك، يمكن أن يجادل المرء أنّ ضمانةً قويّة من المجتمع الدوليّ تحمي تركيا من أيّة عواقب مقابل الاعتراف بالإبادة قد تخفّف عنها الضغط. لكنْ، لمّا كانت تركيا غيرَ مستعدّة لمواجهة التاريخ، فإنه يبدو أنّ هناك أسبابًا أخرى عميقة لذلك، ندعوها بـ”الجوانب الأخلاقيّة” للقضيّة.
3. ما بعد الصدمة النفسيّة والخوف من الماضي. إذا صنّفنا جانب العقاب سببًا مادّيًا، فسأجادل أنّه ليس العاملَ المسيطر في ردّ فعل تركيا على مواجهة تاريخها. فثمة مجادلات أخلاقيّة تبدو أكثر أهميّةً. إحداها هي الصدمة النفسيّة الماضية وصعوباتُ مواجهتها؛ والأخرى هي الاحتمالُ المرعب لأن يُنعت بعضُ الآباء من مؤسِّسي الجمهوريّة بالسارقين والقتلة. أخيرًا، قد يسأل البعض: أين ينتهي الشعورُ بالذنب واتهام الذات؟
لطالما كان يُنظر للأرمن بوصفهم رموزًا تُذكّر دائمًا بأكثر الأحداث التاريخيّة صدمًَا للأتراك: انهيار الإمبراطوريّة.23 ويمكننا وصفُ هذه العملية على النحو الآتي: وقعت الإمبراطوريّة العثمانيّة، التي امتدت يومًا على ثلاثِ قارّات، أسيرةَ الانحلال والتجزئة خلال 150 عامًا من وجودها. أيقظت الحروبُ والهزائمُ والخسائرُ الكبيرة في الأرواح التي تلت ذلك مخاوفَ عميقةً تتعلّق بديمومة الإمبراطوريّة. يكفي أن نستذكر أنه “بين عاميْ 1870 و1920، فقدت الإمبراطوريّة 85 بالمئة من الأراضي التي كانت تحْكمها و75 بالمئة من سكّانها.”24 وترافق الانهيار مع ما اعتبرته النخبة الحاكمة سلسلةً مستمرةً من الإذلالات والإهانات للشرف العثمانيّ – التركيّ من قِبل القوى العظمى. شعر الحكّام العثمانيون أنهم سيصبحون نكرات؛ أنهم سيُطرحون جانبًا، سيُجتثّون، وأنّ بلادهم ستتقاسمها القوى الأوروبيّةُ والشعوبُ الأخرى القاطنة في الأناضول. بتعبير آخر، كان يواجههم محوُ الدولة بشكل كامل. مع تأسيس الجمهورية التركيّة، ظنّ القادة أنهم لأموا جراحَ الماضي، إذ اعتبروا تأسيس الجمهوريّة عام 1923 بدايةً جديدةً لعصرٍ جديد. ومن الطبيعيّ أن يُعتبر كلُّ ما قد يُذكّر بالفترة السابقة أمرًا يجب تجنّبه. باختصار، يرى المجتمعُ التركيُّ نفسه عنقاءً انبعثتْ من رمادها، لكنّ الأرمن يذكّرونهم بذلك الرماد. لقد اعتُبرت الجمهوريّة، وهي رمزُ الانتصار الأخلاقيّ لمشروع جماعيّ بُني على ركام الإمبراطوريّة وحظي باحترام أقرانه أيضًا، مرهمًا لجراح الهزيمة والموت خلال الحرب. من المفهوم، إذن، أن يتمّ تجنّب أيّ نقاش عن الفترة التي سبقت الجمهوريّة.
من المعروف في علم النفس أنّ بعض المرضى النفسيين تنقصهم المرونةُ العاطفيّة لمواجهة الصدمة النفسيّة التي تسبّبتْ في مرضهم. ويمْكن قولُ الشيء نفسه عن كلّ جماعة مرّت بصدمات نفسيّة عظمى في تاريخها، لكنها لم تمتلك ما يكفي من الشجاعة – أو ربما لم تسنحْ لها الفرصة – لمواجهة تلك الصدمات، بل آثرتْ أن تكبتها أو أن تنساها. هذا النوع من مقاربة التاريخ يشْبه حالة عقليّة معيّنة تُوصف في التحليل النفسيّ بالشخصيّة الهستيريّة.25 يعاني الأتراك هذه المشكلة الاجتماعيّة – النفسانيّة، التي حلّها الوحيد هو مواجهة مباشرة مع أحداث الماضي ومناقشة مفتوحة لهذا التاريخ.26 لن يَبْرأ المجتمعُ التركيُّ من جراحه حتى يستطيع مواجهة الماضي وإعادةَ دمج ذكرى الصدمة النفسيّة في سرد تاريخيّ متماسك.
4. معضلة تحويل الأبطال إلى مجرمين. ثمة عامل إضافيّ عزّز الحاجةَ إلى تجنّب مواجهة التاريخ. “فإذا تبيّنتْ جماعة أنّهم [أيْ آباءها المؤسِّسين]، بدلاً من أن يكونوا أبطالاً، كانوا آثمين أو مرتكبي جرائم انتهكوا الأسسَ الثقافيّة لهويّتهم نفسها، فستغدو أيّةُ إشارة ٍإلى الماضي صادمةً حقًا. ليس بإمكان الجماعةَ أن تتعايش مع التناقض الجوهريّ بين ادّعاءات الهويّة والاعتراف إلا من خلال فصام شخصيّة جمعيّ، من خلال الإنكار، أو الفصلِ بين الأشياء، أو الانسحاب.”27
هذه هي الحال تمامًا في تركيا. فقد ضمنت استمراريّةُ النخبة الحاكمة، من الإمبراطوريّة العثمانيّة إلى الجمهوريّة، أنه ستكون هناك علاقةٌ قويّةٌ بين إبادة الأرمن وتأسيسِ تركيا الحديثة. وثمة رابطة ثلاثيّة الأبعاد. أولاً، بعد خسارة الحرب عام 1918، نُظّمت الحركةُ القوميّة في الأناضول من قِبل الجهة نفسها التي نظّمت الإبادة الأرمنيّة. وحتى قبل الحرب، كانت هذه الجهة، أيْ “جمعيّة الاتحاد والترقّي،” قد رسمتْ خططًا للمقاومة في حال الهزيمة العسكريّة، فأسّستْ بعد الهدنة مباشرة أولى منظّمات الدفاع والمقاومة في الأناضول، وإحداها، كاراكول، بأمرٍ مباشرٍ من قائدَي الجمعيّة، طلال وأنور.28 كانت مهمّة كاراكول الأساسيّة هي تنظيم المقاومة، وتدبير طريق فرار سرّي لأعضاء الجمعيّة المطلوبين بتهمة ارتكاب جرائم حرب. الرابطة المهمّة الثانية هي نتيجة طبيعيّة للأولى: فقد كان عدد لا بأس به من منظّمي الحركة القوميّة الأوائل قد شاركوا هم أنفسُهم في الإبادة، إذ كان الكثير (إنْ لم تكن الغالبيّة) من قادة الوحدات الأولى في “القوات الوطنيّة” في مناطق بحر مرمرة وبحر إيجة والبحر الأسود مطلوبين من قبل قوات الاحتلال والحكومة في إسطنبول. الرابط الثالث بين الجمهوريّة والإبادة الأرمنيّة هو بروز طبقة من الرجال الأغنياء في الأناضول ممن ارتبحوا بشكل مباشر من الإبادة، وكانت هذه الطبقة تحمل لواء الحركة القوميّة في مناطق معيّنة.
من الجليّ أنّ هناك تناقضًا صارخًا داخل الهويّة التركيّة؛ فقد يتقوّض المجتمع إنْ نعت المرءُ أولئك الذين يُعتبرون “المخلّصين العظماء” “الذين خلقوا أمّةً من لا شيء” بالـ “قتلة واللصوص.” يمكن، إذنْ، اعتبارُ الإبادة الأرمنيّة المرجعيّة الصادمة نفسيًا بالنسبة إلى الهويّة القوميّة التركيّة بعد العام 1923. ولا شكّ في أن إنكار الإبادة يبدو أسهلَ بكثير من أخذ زمام المبادرة ومواجهة تحطّم صورة عزيزة على النفس عن الجمهوريّة والهويّة القوميّة التركيّة.
5. أين سينتهي كل هذا؟. من الآراء الأخرى الشائعة في تركيا اعتبارُ مناقشة المظالم التاريخيّة نوعًا من صندوق باندورا [المليء بالمفاجأات]. فأين يبدأ نقاش كهذا، والأهمّ أين ينتهي؟ يجادل العديدون في تركيا أنّ حفر الماضي قد يكون في الواقع ضارًا، وهذا موقفٌ قد يعكس عجز المجتمع عن مواجهة المظالم التاريخيّة بسبب ضخامة الآثام المُرتكبة. إنّ تاريخ العنف الجماعيّ في تركيا العثمانيّة ليشبهُ، فعلاً، بئرًا لا قرار لها.
فإذا أخذنا نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين نقطة بداية، أمكننا أن نصنّف المظالمَ التاريخيّة في فئتين رئيستيْن. فقبل 1923، كان محور الصراع يدور بين المسلمين وغير المسلمين بشكلٍ أسا؛ بل ثمة أعمال عنف متأخرة تجاه غير المسلمين خلال فترة الجمهوريّة، كمذبحة المسيحيين (لا سيّما اليونان) في إسطنبول عام 1955. بيْد أنّ المحور الرئيس للصراع خلال الجمهوريّة انتقل بين الشعوب المسلمة: فبين عاميْ 1920 و1938 فقط، قُمع أكثرُ من 20 انتفاضة كرديّة، ما أدّى إلى مئات القتلى.29 ومع الاقتراب من نهايات القرن العشرين، تزعزع استقرارُ المجتمع بسلسلةٍ من الانقلابات والاختفاءات والتعذيب وفِرق الموت وقمعِ الأكراد والهجمات على العلويين والصدامات المسلّحة بين القوميّين الفاشيّين واليساريّين. فكيف يستطيع مجتمع أن يتحمل كلّ هذا الدمار في تاريخه الحديث؟ من الطبيعيّ أن يرغب في التستّر عليه ونسيانِه.
إحدى السمات المهمّة للصراعات المحليّة في فترة الجمهوريّة هي التغيّر المستمرّ في التحالفات بين قطاعات المجتمع المسلم المختلفة. فبسبب تبادل أدوار الضحيّة، والجلاّد، والمتعاطف، والمراقِب، عبر مراحل مختلفة، يواجه كلّ من المجموعات الإثنيّة والدينيّة والسياسيّة المتقاطعة تحدّياتٍ متفرّدةً في عَرض نفسه تاريخيًا بصورةٍ إيجابيّة. يساهم هذا التاريخ المتشابك، بالإضافة إلى نفور ثقافيّ مشترك من مواجهة الماضي، في زيادة تعقيد مهمّة التصالح مع الظلم التاريخيّ في تركيا. قال كيفن أفروش: “الثقافة تهمّ.”30 وكذلك التاريخ.
دعوني أستشهدْ بمثال قريب عن واقعتين وردتا في التقارير الإخباريّة في اليوم نفسه. في منطقة دياربكر، اكتُشفتْ مقبرةٌ جماعيّة تحوي حوالى عشرة قرويين أكراد.31 يبدو أنّ هؤلاء “المفقودين،” الذين كانوا قد اعتُقلوا من قبل قوّات أمن الدولة، قُتلوا رميًا بالرصاص ودُفنوا معًا. في أخبار أخرى، طلبتْ ليلى زانا، وهي قائدة كرديّة بارزة أمضتْ عشر سنوات في السجن، أن تجتمع بقائد حزب قوميّ محافظ. كرئيس أمن داخليّ سابق في تركيا، يُحتمل أنّ هذا الرجل، قبل سنوات خلتْ، كان مسؤولاً عن الجرائم الشنعاء التي اكتُشفتْ في المناطق الكرديّة، بما فيها المقبرةُ الجماعيّة قرب دياربكر. لكنْ يبدو أنّ كلا الفريقين قرّر أنه من الأسهل أن يبقى ساكتًا عن الماضي من أن يواجه الآخر بأفعاله الماضية. وهكذا يستمرّ فقدانُ الذاكرة. صفّق المعلّقون في الصُحف للاجتماع الودّيّ بوصفه خطوة شجاعة تبعث على الإعجاب على طريق التئام جراح الماضي.32
* جامعة كلارك، قسم التاريخ، كرسيّ روبرت آرام وماريان كالوسديان وستيفن وماريون موغار في دراسات الإبادة الأرمنيّة.
1- ألازار باركان، ذنب الأمم: التعويض والتفاوض على المظالم التاريخية (نيويورك: دبليو دبليو نورتن، 2000)، ص XVII.
2- جون توربي، “إعادة تشكيل ما تمّ تحطيمه: إعادة التفكير والإصلاح،” مجلة مودرن هيستري 73، حزيران 2001، ص334-338.
3- ميشيل- رولف ترويلوت، “طقوس انسحابيّة: اعتذارات تاريخيّة في العصر العالميّ،” إنترفينشنز 2، 2000، ص171-186.
4- جيفري ك. أوليك وبريندا كفلين، “سياسة الندم: إطارات تحليليّة،” في جون تروبي (تحرير)، السياسة والماضي: عن إصلاح المظالم التاريخيّة (نيويورك، أوكسفورد: دار راومان وليتفيلد، 2003)، ص56.
5- مُقتبس في بيرنارد غيسن، “صدمة الجلادين،” في جيفري سي. أليكساندر، روي آيرمان، بيرنارد غيسن، نيل ج. سميلسر، بيوتر شتومبكا (تحرير)، الصدمة الثقافيّة والهويّة الجمعيّة (باركلي، لوس أنجلس، لندن: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2004)، ص146.
6- المصدر السابق، ص151-154.
7- مارك جيبني وإيريك روكستروم، “حال اعتذارات الدولة،” هيومان رايتس كورترلي 23، 2001، ص912-913.
8- مقتبس في مارثا ميناو، بين الانتقام والمسامحة (بوسطن: بيكون برس، 1998)، ص120.
9- إرنست رينان في أولريخ شنيكنر، حق تقرير المصير، السياسة الإثنو- قوميّة والدوليّة (هامبورغ، 1996)، ص26.
10- إرنست رينان، مقتبس في غاري سميث، “العمل على النسيان،” في غاري سميث وهينديرك م. إمريخ (تحرير)، عن استخدام النسيان (برلين، 1996)، ص15.
11- نموذج رووث بينيديكت الثقافي عن الذنب مقابل ثقافة العار غنيّ عن التعريف. تبعًا لهذا التصنيف، تُجبِر ثقافة الذنْب الجماعة على التحدّث عن أخطاء الماضي؛ وعلى العكس، تتجنّب ثقافةُ العار التحدثَ عن الماضي وتتبنّى شيفرة صمت. أستخدمُ ههنا كلا التعبيرين من دون التمييز الواضح بينهما؛ ذلك أنّ اهتمامي لا يتركز على ما إذا كان موقفُ تركيا في إنكار الإبادة مبنيًا على الذنب أم العار. للمزيد من المعلومات عن ثقافتي الذنب والعار،انظر إيان بوروما، رواتب الذنب: ذكريات الحرب في ألمانيا واليابان (لندن: فينيكس، 2002)، ص252-253.
12- غيسين سوان، السياسة والدَين: القوة المدمّرة للصمت (فرانكفورت، 1997)، ص109.
13- يورغان هبرماس، “يوتوبيا الحاكم الفاضل،” في الثقافة والنقد (فرانكفورت، 1973)، ص386-387.
14- سيغموند فرويد، محاضرات تمهيديّة في التحليل النفسيّ، الأعمال المختارة (فرانكفورت)، ص 16.
15- استعرتُ تعبير “الواقع الاتصاليّ” من إلياس سيبرسكي، الذي يستخدمها إحدى مزايا المنظمات السريّة. إلياس سيبرسكي، المنظمات السريّة والعلنيّة: أسئلة التأويل البنيويّ للظواهر الاجتماعيّة (شتوتغارت، 1967)، ص.51.
16- اتفاقيّتا موسكو وكارس (1921)، الموقّعتان من قبل أرمينيا وتركيا، حددتا الحدود الرسميّة بين الدولتين. اليوم، لا تحتلّ تركيا، تبعًا للقانون الدوليّ، أيّة أراضٍ أرمنيّة.
17- خطاب أمام مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجيّة، شيكاغو، 19 حزيران 1997، نشرة مكتب الحكومة الفيدراليّة للصحافة والمعلومات، رقم 63، 30 تموز 1997، ص751.
18- من أجل قائمة بالقرارات الصادرة عن إبادة الأرمن، انظر http://www.armenian-genocide.org/affirmation/resolutions/index.php
19- آغوس 2، شباط 2001، عدد 253.
20- ثمة الكثير من الاختلاف على تعبير “الصدمة النفسيّة الجمعيّة.” لكنْ، “رغم الصعوبات المترافقة مع الاستخدام الواسع للعبارة بشكل عامّ، يبدو أنّ هناك حاجة لتعبير كهذا.” أنجيلا كوهنر، “مفهوم ’الصدمة النفسيّة الجمعيّة’،” ورقة غير منشورة قُدّمتْ في ندوة “الشبكة الدوليّة لأبحاث الصدمة النفسيّة العابرة للمناهج،” 28-30 حزيران 2002، فيزبادن-ناورود، ألمانيا، ص1.
21- بناء وتطور مراكز البحث والتوثيق التاريخيين، الأرشيف العثمانيّ، مجموعة يلدز: القضيّة الأرمنيّة، المجلد 1 (إسطنبول، 1999)، ص XII.
22- للمزيد من المعلومات، انظر ستافروس مينتسوس، الهستيريا: الديناميّات النفسيّة للإنتاج اللاواعي (ميونيخ، 1980)، ص72-82.
23- تانر أكجام، من الإمبراطوريّة إلى الجمهوريّة: القوميّة التركيّة وإبادة الأرمن (لندن، 2004)، ص208-226.
24- برنارد غيسن، سابق، ص114.
25- للمزيد من المعلومات، انظر تانر أكجام، “إبادة الأرمن والجمهوريّة التركيّة،” ورقة غير منشورة قُدّمتْ في مؤتمر “الأرمن والأتراك: ألف عام من العلاقات،” فينيسيا، جزيرة سان جيورجيو ماغيوري، 28-30 تشرين الأول 2004.
26- من أجل كرونولوجيّة لهذه الانتفاضات، انظر كَنَل كورماي باشكانليي، الانتفاضات في الجمهورية التركية 1924 – 1938 (أنقرة، 1972)، ص496.
27- كيفن آفروش، الثقافة وحلّ النزاعات (واشنطن: مطبعة المعهد الأمريكيّ للسلام، 2002، الطبعة الثالثة)، ص ix.
28- راديكال، 10 تشرين الثاني 2004، ص1.
29- أرتوغول أوزكوك، “بالنسبة لمن كان هذا الموعد صعبًا؟”، حريت، 10 تشرين الثاني 2004.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١١-١٢ /٢٠١٠

عن الحقدِ المتنامي في تركيا ضدَّ الأكراد
* تانل بورا
ترجمه عن التركيّة: بكر صدقي
قامت الإيديولوجيا القوميّة الرسميّة في تركيا أو التيّارات القوميّة البارزة، على السواء، بتعريف المشكلة الكرديّة في أنساق مختلفة: بربطها ببقايا العلاقات الاجتماعيّة قبل الحديثة، ومن ثمّ بكونها مشكلةً مرتبطةً بالرجعية الدينية؛ أو بوصفِها مشكلةً تنمويّة؛ أو مشكلةً انفصاليّة مدعومة من الخارجِ ومرتبطةً أيضًا بالخطرِ الشيوعيّ؛ أو الأمور كلّها معًا.
كانت المقاربة المشترك بين جميع هذه المقاربات هو الميل إلى الصهرِ القوميّ: فإمّا أنّها كانت تنْكر وجودَ الأكراد تمامًا وتعتبرُهم أتراكًا أصلاً، أو تفترضُ قابليّتَهم للصهرِ والذوبان. ويمكن القولُ إنّ هذا الخطاب ظلَّ ساريًا طيلةَ “الحرب ذات الكثافة المنخفضة” التي بدأتْ منذُ صعودِ حزبِ العمَّالِ الكردستانيِّ في منتصفِ الثمانينيّات، واستمرَّتْ إلى حينِ اعتقالِ قائدِهِ عبد الله أوجالان في أواخرِ التسعينيّات. ولم يقتصر الأمرُ على الخطاب القوميّ الرسمي، بل إنّ الحركة القوميّة الراديكاليّة التي تغذّتْ على تلك الحرب (وتتمثّل في حزبِ الحركة القوميّة MHP والتيّارِ العقائديّ ülkücüler) واصلتْ هي أيضًا خطَّ الصهر والتذويب. ونجدُ خلاصةَ هذا الموقفِ في الشعارِ القائلِ “التركُ والكردُ إخوة/ من يفرّقهم خونة.” ولكنْ بموازاة ذلك، كان الخطابُ العرقيُّ [النابذُ للكرد] هو الشائع ضمنًا وخفيةً في القاعدة الاجتماعيّة ذاتِ الميولِ القوميَّة المتشدِّدة.
السنوات الأولى منَ الألفيّة الجديدة، التي شهدتْ تطبيقَ تركيا للإصلاحات المطلوبة منها شرطًا للانضمامِ إلى الاتِّحاد الأوروبيّ، كانت “سنواتِ السبات” بالنسبة إلى المشكلة الكرديّة، أو مرحلةَ “السلامِ السلبيِّ” وفقًا لتعبيرِ مدحت سنجار. لكنّ خيبةَ الأملِ الناجمة عن بقاء تلك الإصلاحات في مستواها الشكليّ، والبؤسَ، وغيابَ الأفقِ لدى الكتلِ الشعبيّة الكرديّة، وعودةَ حزب العمّالِ الكردستانيّ إلى الصراعِ المسلّحِ الذي ازداد نزوعًا إلى أساليب يمكنُ وصفُها بـ”الإرهاب الأعمى،” أنهتْ معًا، في السنة أو السنتين الأخيرتين، ذلك “السلامَ السلبيّ.” كان للنزعة القوميّة التركيّة دورٌ محدِّدٌ أيضًا في هذا المآلِ، بسبب موقفها السلبيّ من الإصلاحات المذكورة التي فهمتْها تنازلاً عنِ “السيادة القوميّة.” في هذه الشروط ثمة خطرٌ، من وجهةِ نظرِ خطابِ القوميّة التركيّة، في أن تنقلبَ عمليّةُ الصهرِ assimilationnisme إلى عمليَّةِ نبذ dissimilationnisme . ففي السنتينِ الأخيرتين لوحظَ صعودُ خطابٍ عرقيٍّ، وحقدٍ عنصريٍّ مُعادٍ للكُردِ، يتمُّ النفخُ فيهِ. ويمكن القول إنّ هذا الصعود تطوَّر في ثلاثة مستويات ليست معزولةً بعضها عن بعض: النزعةُ القوميّةُ العنصريّة التركيّة، والتيّار العقائديّ (أولكوجولر) وسائرُ القوميّين الترك، والنزعة القوميّة الشائعة (الشعبيّة). في السطور الآتية سنتناول مظاهر هذه المستويات الثلاثة، ونتعرّف من خلالها أيضًا إلى النبرات المتمايزة للخطاب القوميّ.
النزعةُ العنصريّة التركيّة والعقائديّون القوميّون
تيّار القوميّة العنصريّة الذي انتشر في الثلاثينيّات والأربعينيّات، وكان في تناغم مع النزعة القوميّة الرسميّة، هو أحدُ المصادرِ الإيديولوجيّة لحزب الحركة القوميّة التركيّة MHP. تحوَّلَ هذا الحزب في السبعينيّات إلى حركةٍ هامشيّة حين سعى إلى زيادة شعبيّته عن طريق تطويرِ صلاته بالحساسيّات الإسلاميّة. واستعاد حيويَّتَه في التسعينيّات، سواءٌ بفضلِ ظهورِ أفقٍ لفكرةِ وحدة التُركِ العابرةِ للحدود، في أعقابِ تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ، أو بفضلِ ما حقّقَتْه له المشكلةُ الكرديّةُ من أساسٍ للتحريض.
كان المفكِّرُ الرئيسُ للإيديولوجيا القوميّة التركيّة نِهال آتسِزْ (1905-1975) قد انتقد المفهومَ الرسميَّ للقوميّة القائمة على أساسِ المواطنة وعلى نزعة التذويب الملازمةِ لها. فقد قال بفظاظةٍ شديدة إنّ “الكُردَ موجودون…، وهم مخلوقاتٌ أدنى ومعاديةٌ لنا.” الكردُ بالنسبة إليه “فرعٌ جبليٌّ بدائيٌّ وهمجيّ من الفُرسِ، يتحدّثون بفارسيّةٍ ركيكة، ويميلون إلى السَّطوِ والنهب (ودميمون فوق ذلك!).”
التيّار القوميّ الذي طوّر، في سنوات الألفيّة الجديدة، “يقظَتَه” التي بدأتْ في التسعينيّات، وله حضورٌ نشطٌ على شبكة الانترنت، ما زال إلى اليوم تيّارًا حديًا متطرِّفًا. لكنّنا نلاحظ أنّ خطابه و”مقولاتِهِ” تحظى بشعبيّةٍ متصاعدةٍ، قائمةٍ على الحقد الموجَّه ضدّ الأكراد. هناك نقطة تستحقّ أن نتوقّف عندها، وهي أنّ انتشار هذا الخطاب القوميّ العنصريّ يعكس الحقدَ الذي نفّذَ إلى مشاعرِ الناسِ اليوميَّةِ واكتسبَ شعبيَّتَه بهذهِ الطريقة، بعيدًا عنِ الاهتمامات السياسيّةِ الظرفيّةِ كاحتمالِ قيامِ دولةٍ كرديَّةٍ في شمالِ العراقِ وما إلى ذلك.
هناك ظاهرة لافتة نراها في ما يُنشرُ على الإنترنت من تصريحاتٍ أو مناقشات، وفي الرسائلِ التي تُرسَل بكثافة إلى تلك المواقع، وفي تعليقات القرّاء المُرسَلَة إلى المواقع الالكترونيّة للصحف اليوميّة، وهي كتابة الحرف الأوّل في كلمة “كرد” أو “كردي،” بصورةٍ منهجيّة، بالحرفِ الصغير (وهما في التركية من أسماء العلم التي تجب كتابة حرفها الأول كبيراً – المترجم). ومن الشائع في حياة الناس اليوميّة التحدّثُ عن فظاظة الكرد وهمجيّتِهِم وعدوانيّتِهم. ويُنظَر إلى ملاحقتهِم لـ “نسائنا” بوصفها أبرزَ تجلِّيات الخطرِ الكرديّ وما يؤدّي إليه من انحطاط… أو بالأحرى يُشَكِّل الخوفُ من ملاحقتهِم لـ “نسائنا” أيسرَ السُبُلِ وأضمنَها لاستفزازِ النزعة العنصريّة المعادية للكرد. (علينا أن نقولَ إننا نلاحظ ما يوازي هذا في الخطاب القوميّ الكرديّ أيضًا). فحوى الرسالة الرئيسة في “قضيّة البنات” هذه مواجهةُ “اختلاط الأعراق،” وبخاصةٍ وجوبُ عدمِ اِختلاط الدّم الكرديّ بالتركيّ، وأنّ الأتراك متنبِّهون إلى ذلك سلفًا. هذا يعني رفضَ الصورة النمطيّة الشائعة، التي حظيتْ بالتشجيعِ الرسميّ، عن الزيجات المختلطة على مدى قرون، وعن الأخوَّة وقرابةِ النَسَبِ والتشبيهِ الشائعِ عن كونِ الكُردِ والترك “كاللحمِ والظُفْرِ” لا يمكنُ الفصلُ بينهما.
هناك فكرة موازية وهي أنّ الكُرد ميّالون بالفطْرة تقريبًا إلى ارتكاب الجرائمِ، وأنّهم بهذهِ الطريقَة يكتسبون القوّة. هناك حملة قائمة منذ فترة طويلة على تداولِ نصٍّ بصياغاتٍ مختلفة، يتناول هذا الحكمَ النمطيَّ المسبّق بصورةٍ مفصّلة، ويحملُ عنوانًا فصيحًا بذاته: “كلُّ أنواعِ الجرائمِ يرتكبُها الأكراد.” سأقتبس مقطعًا طويلاً من هذا النصّ الذي يرسم صورةَ الأكراد بأسلوبٍ يذكِّرُنا بالخطاب المعادي للساميّةِ في مفصلِ القرنينِ التاسع عشر والعشرين، بوصفهم أولئك الذين يستولون على الثروات بوسائل لا-أخلاقيّة، بل بوصفهم جراثيمَ يدفعون بالأخلاق الاجتماعية حيثما انتشروا أو “سَرَوْا” إلى الانحطاط.
“تبيَّنَ أنّ من قاموا بعملياتٍ إرهابيّة، ففَجَّروا القنابِلَ في اسطنبول، هم أكراد. الإرهاب هو المهنة التي توارثَها الأكرادُ أبًا عن جدّ. هل يتوقّفُ الأمرُ عند هذا الحدّ؟ لا… فالأكراد هم الذين يرتكبون كلَّ أنواعِ الجرائم في عموم تركيا. وحدهم الأكرادُ هم من يقومون بكلِّ الأعمالِ القذرة، كالنشلِ والسرقةِ والاغتصابِ والسَطوِ والقتلِ والدعارةِ والتسوُّلِ وتجارةِ المخدِّراتِ وإدارةِ دُورِ البغاءِ والملاهي الليليَّةِ وأماكنِ لعبِ القمارِ ومواقفِ السيارات غيرِ الشرعيّة…
“لماذا من يُطلَقُ عليهم المافيات، في كلّ أنحاءِ تركيا، هم من الأكرادِ حَصرًا؟…. ذاك الذي يبرزُ أمامنا لحظةَ نركنُ سيّارتَنا قرب الرصيف، ويطالبُنا بالنقود، ثمّ يَخدشُ طلاءها في غيابِنا بسكّينٍ إذا امتنعنا عن الدفع، لماذا هو كرديٌّ دائمًا؟… وأولئك الذين يلتصقون بنوافذ سيّاراتنا عند إشارة المرور الحمراء ويتسوّلون، لماذا هم دائمًا أكراد؟… وتلك المخلوقات الجشعة التي تتراوح أعمارُها بين عشرِ سنواتٍ وخمسَ عشرةَ سنةً وتلتصقُ بنا في الشوارعِ كالحلزوناتِ تطلبُ النقودَ، فإذا لمْ نعطِها شتمتْنا، لماذا هي دائمًا من الأكرادِ؟…
“القوّادُ الكبير، جمعة قارصلي، المشهور بلقب ’ملكِ دُورِ البغاء‘ بسبب إدارته لدُور البغاءِ في مدنٍ كبرى كاسطنبول وأنقرة وأضنة، لماذا هو كرديٌّ لا من جماعةٍ أخرى؟… لماذا 73 في المئة من العاملات في دُور البغاء، وفقًا للإحصائيّات الرسميّة، هنّ من جنوب شرق الأناضول؟…
“هاكان كارايافوز، الملقَّبُ بـ ’مُنْحَرِفِ آلانيا‘، واغتصبَ أربعة سيّاحِ هولنديّين (أحدُهم رجل) وقتلَ اثنينِ منهم، وفَضَحَنَا بذلك أمام العالم بأسرِه، لماذا هو كرديّ؟ وعاملُ البناء رجب إيبك، الذي خنقَ الطفلة التركيّة آفشار سلا تشالديران (11 سنة) بواسطةِ حبلٍ في منطقةِ سوسورلك، ثم اغتصب جثّتَها، لماذا هو كرديّ؟…
“خلاصةُ القولِ، ليست ’المشكلة الكرديّة‘ عبارةً عن مشكلةِ حزب العمّال الكردستانيّ، أو نتيجةً لتحريض الدول الغربيّة، كما يحاول البعضُ تصويرَها. بل المشكلة هي أنّ الأكراد هم من يقومون بكلِّ أنواع الأعمال القذرة والجرائم الوضيعة على الأراضي التركيّة عمومًا. القوى الإمبرياليّة لا تقوم بتحريضِ الكرديّ على إدارة دُورِ البغاء أو الملاهي الليليّة أو أماكن لعب القمار، ولا تشجِّعُه على تشكيلِ عصاباتِ المافيا أو بيع المخدِّرات أو القيام بعمليّات النشل والسرقة واستثمارِ الأرصفة بصورةٍ غيرِ شرعيّة لابتزازِ أصحاب السيّارات، ولا على اغتصاب النساء. كذلك لا علاقة تربطهم بحزب العمّالِ الكردستانيّ… إنهم يرتكبون كلَّ هذه الجرائم استجابةً لنداء الدم الذي يدورُ في عروقهم.” (انتهى الاقتباس)
هناكَ أيضًا حضورُ الكرديّ في المستوى الثقافيّ، وهو حضورٌ يُنظر إليه كخطرٍ يهدِّدُ بتضييق مساحات الحياة على الأتراك. على سبيلِ المثالِ هناكَ نجومُ غناء من ذوي الشعبيّة الواسعة، من أصولٍ كرديّة مع أنهم يغنُّون بالتركيّة، كـ “السوبر ستار” إبراهيم تاتليسس، يُنظَرُ إليهم كخطرٍ على الهويّة التركيّة يهدِّدُها بالهيمنة الثقافيّة عن طريقِ حملةٍ منظّمةٍ “لحقنِ الناسِ بالإعجابِ بالأكراد.”
سببُ بلوغِ الخطر الكرديّ درجةً استدعتْ إطلاقَ صفّارات الإنذارِ، في رأيِ القوميين الأتراك الذينَ يقودونَ حملةَ العداءِ العنصريّ هذه ضدّ الأكراد، هوَ “أنَّ كلَّ الأقليَّات في تركيا تمارِس نزعاتِها القوميَّة بكلِّ ارتياح تحتَ يافطاتِ ’حقوقِ الإنسانِ وحريَّةِ الفكرِ والمعتقدِ والديموقراطيّة‘، في حين أنَّ العنصرَ المؤسِّسَ للوطن التركيّ، أيْ الأتراك، إذا مارسوا نزعتهم القوميّة، عُدَّ ذلك ’عيبًا‘ حينًا و’جريمةً اجتماعية‘ حينًا آخر.” ويرى هذا الخطابُ القوميُّ العنصريُّ أنّ الحركة القوميّة الراديكاليّة (حزب الحركة القوميّة MHP والتيّار العقائديّ Ülkücüler)، بتبنّيها فكرةَ التذويب القوميّ، ساعدتْ على إضعاف الرابطة القوميّة عند الأتراك.
من المحتملِ أنّ هذه الدعاية العنصريّة التركية يتمُّ استخدامُها من قِبلِ أناسٍ مرتبطين بجهاز الحرب غيرِ النظاميّة في الدولة، في حملةٍ موجّهةٍ إلى التيّارِ القوميّ العقائديّ، أداةً للتلاعب والتحريض. وعلى الرغم من هواجسِ حزب الحركة القوميّة MHP المتصاعدةِ بصدد الخطرِ الذي يهدِّد الأمّة، وعلى الرغم من لغته التي تزداد تعصّبًا، فما زال موقفُهُ “الرسميّ” في نظرِ القوميين العنصريين متمسّكًا بخطّ التذويب القوميّ الذي بات موضوعَ سخريتهِم.
في موازاة الخطاب العنصريّ الموصوف أعلاه، يمكن الحديثُ عن وجودِ أوساطٍ قوميّة منفتحة على الحوارِ في أقلِّ تقدير. “المنتدى العقائديّ،” الذي يشكِّل المنظّمةَ الشبابيّةَ للحركة، لا يتورّع عن وصف الأكراد بأنّهم “عشائر بدائيّة ارتهنتْ طوال تاريخِها لمختلف القوى وهزَّتْ لها ذيلَها،” وذلك بمناسبةِ التطوّراتِ في شمال العراق، أي احتمالِ قيام دولةٍ كرديّة بدعمٍ من الولاياتِ المتحدة. وفي نشرات هذه المنظمة نرى الأحكامَ المسبّقة العنصريّة التي تحمِّل الأكرادَ مسؤوليّةً جرميّةً في ما وراء الأحداث السياسيّة، بحقدٍ موجَّهٍ ضدّ الأكرادِ بالمطلق، ومنتشرٍ في حياة الناس اليوميّة.
بين قوسين: “اليسار القوميّ”
في تركيا أيضًا خطابٌ “يساريّ قوميّ” يعرِِّف نفسَه بمناهضةِ الإمبرياليّة وبالنزعةِ الوطنيّة، ويميِّزُ نفسَه، على هذا الأساسِ، من النزعةِ القوميّة الإثنيّة – الثقافيّة ذاتِ المرجعيّةِ الدينيّة. وفي السنوات القليلة الماضية، عبَّر هذا الخطابُ عن نفسهِ، من جهةٍ أولى، على أساسِ العلمانيّة، في مواجهةِ الإسلاميّةِ الصاعدة، وتحفَّزَ من جهةٍ ثانية ضدَّ “العولمةِ،” وكَيَّف شعاراتِهِ المناهضة للإمبرياليَّة على ضوء التهويلِ من أنّ الاتحاد الأوروبيّ يريد تحويلَ تركيا إلى مستعمَرةٍ تابعةٍ له. هذا الخطاب الشائع ضمن نطاق تأثير حزب الشعب الجمهوريّ، الموصوفِ زورًا بالاشتراكيّ الديمقراطيّ، ظهر في الشروط التاريخيّة لعقد التسعينيّات، كردّةِ فعلٍ على النزعة الانفصاليّة الكرديّة. الحقدُ الموجَّهُ ضدّ الأكراد يجد الأرضيّةَ المناسبةَ لإعادةِ إنتاجهِ في أوساط هذا اليسار القوميّ أيضًا. ففي الوقت الذي يُتّهَمُ فيه الأكرادُ، في هذهِ الأوساط، بأنّهم “أداةٌ في يدِ الولايات المتحدة والإمبرياليّة،” نلاحظ أنّ وصمَهم بوصمةِ “الآخر” المقابلِ لصورةِ “المدنيّة” الكماليّة – الحداثويّة، شائعٌ إلى حدٍّ كبير.
تبلغ هذه النزعةُ نهايتَها القصوى في المجموعة المتحلِّقة حول مجلة اليسارِ التركيّ. في أعدادِها التي سبقَت الانتخابات المحليّة في العام 2004، ناشدتْ مناصريها التصويتَ لصالح المرشَّحِ التركيّ الأوفرِ حظًا حيثما تمتَّعَ الحزبُ الممثلُ للأكراد DEHAP بشعبيّة قوية. وحمل غلافُ عدد شباط 2005 من المجلة هذهِ الجملةَ: “ستكون كركوك مقبرةً للأكراد.” في مجموعة مجلة اليسار التركيّ أو في المنظّماتِ “القوميّة ـ الاشتراكيّة” ذاتِ الجذورِ الماويّة كحزب العمّالِ التركيّ، نلاحظ التهويلَ الشوفينيَّ ضدَّ الأكرادِ وقد اكتسى، بين السطورِ، بأحكامٍ مسبّقةٍ عنصريّة.
القوميّة الشعبيّة العاديّة
فيما وراء النتاج الإيديولوجيّ النسقيّ ذي الدوافعِ السياسيّة، هناك أيضًا حقدٌ كامنٌ ضدّ الأكراد في الخطابِ القوميّ الشعبيّ الشائع، يتغذّى أيضًا على المؤثِّرات “المتطرِّفة” المذكورة أعلاه. يتمثَّل أحدُ وجوه هذه النزعة العنصريّة في خطابِ “التُرك البيضِ” الذي يرى في الكردِ “جوهرَ” الفظاظة والهمجيّة، في استئنافٍ للتنميطِ التقليديّ الذي يلخِّصُه تعبيرُ “كرو” التحقيريّ. (نمطُ الكرديِّ في بعضِ المسلسلاتِ التلفزيونيّة يعزِّزُ هذهِ الصورة). على سبيلِ المثال، أبدى الإعلامُ اهتمامًا كبيرًا، في الأشهرِ الأخيرةِ، بـ “إرهابِ الكاب – كاتش” (خطفُ الأشياءِ عنوةً من يدِ المارَّةِ والهربُ بها)، فأدّى ذلك إلى استقرارِ حكمٍ مسبّقٍ في الأذهانِ، يُحَمِّلُ الكردَ الجرائمَ الوضيعةَ في المدنِ الكبرى، وعلى رأسها الكاب – كاتش.
بين الذين يراقبون هذا الحقدَ المتصاعدَ بنوعٍ من “التفهّمِ،” وإنْ لم يبرِّرُوه، أشخاصٌ لا يربطهم بالنزعة القوميّة “الراديكاليّة” رابط.
تتمثّل المشكلة في الجذورِ العميقة لذهنيّةٍ جَعلَت النزعةَ القوميّةَ أمرًا مألوفًا وطبيعيًا. كما يظهرُ ذلكَ في تعبيرِ “الانعكاس اللاإراديّ القوميّ” (national reflex) الذي يُستخدم ببساطةٍ ـ كما لو كان انعكاسًا شرطيًا طبيعيًا! ـ من دون النظرِ، من مسافةٍ نقديّة، إلى الديناميّاتِ والأواليّاتِ القويّة العاملة على إعادة إنتاجها كإيديولوجيا؛ ومن ثم الاعتقاد بأنّ عقلنةَ النزعة القوميّة أو “تأهيلَها” نوعٌ من الحِمْية الصحّيّة. فعلى المرء أن يضبطَ نفسَه كي لا يفقدَ السيطرةَ على “غريزته” القوميّة. ولكن ليتمكّنَ المرءُ من هذه السيطرة على النفسِ، فإنّه ينبغي ألاّ توجدَ عواملُ تستفزّ مشاعره القوميّة. من وجهة النظر هذه، تتوقف “تهدئَة” النزعة القوميّة التركيّة، أو تخلِّيها عن حقِّ الاستثارةِ – ويُعَدُّ هذا التخلي ثقافةً – على ركودِ النزعات القوميّة “الأخرى.”
الكرد بوصفهم الآخرَ الأساسي… والحقد
كتبَ مسعود يكن في كتابه، من تركيِّ المستقبل إلى المواطنِ المزعوم، أننا نمرُّ في مرحلةٍ أصبحتْ فيها الهويّةُ القوميّةُ الكرديّة تمثِّلُ الآخرَ الأساسيَّ الذي تتموضع إزاءه الهويّةُ القوميّةُ التركيّة. لم تكن الحال هكذا بعدُ أثناءَ مرحلة الحرب ذات الكثافة المنخفضة. فالخصومة التي نمَتْ خفيةً ظلَّت في المستوى المحليّ ولم تتعمّم بعدُ. بعد إلقاءِ القبضِ على أوجالان، كان يُتَوقّع أن تهدأ هذه “الخصومة غير المعمَّمَةِ بعدُ.” لكنّ العكس بالضبطِ هو الذي حدث. أسبابُ ذلكَ واضحة: أوَّلُها التطوّراتُ في شمالِ العراقِ (أي احتمالُ قيامِ دولةٍ أو كيانٍ دولتيّ كردييْن هناك)؛ وثانيها مسارُ الانضمامِ إلى الاتِّحادِ الأوروبيّ الذي من شأنه أن يفتحَ الطريقَ أمام الاعترافِ بالهويّة القوميّة الكرديّة، ومن ثم ازدياد صعوبة النظرِ إليهم كجزءٍ من الهويّة التركيّة على الرغم من كلِّ شيء. فبهذه الطريقة يزداد الشعورُ بعدم الثقة بالكرد في نظرِ النزعة القوميّة التركيّة، ويزداد منسوبُ الارتياب في قابليّتهِم للتماهي مع الهويّة التركيّة. إنّ النظر إلى الأكراد بوصفهِم الآخرَ الرئيسيّ – ودائمًا بحسب رأي مسعود يكن ـ يؤدّي إلى تهديدِهِم بوضعٍ يكونون فيه دستوريًا “مواطنين من الدرجة الثانية” كحالِ الأقليّاتِ غيرِ المسلمة (منذ معاهدةِ لوزان)، أو إلى ردودِ فعلٍ من نوع محاولة إخراجهِم من حمايةِ مظلّة الإسلامِ المشترك، بنَسْبِ “اليهوديّةِ” إلى جذرهِم العرقيّ.
على امتداد حديثنَا عنِ القوميّة والعنصريّة في هذا النصّ، تواترَ استخدامُنا لمفهومِ الحقد. والحقد، قبل كلِّ شيء، هو “التسميمُ الذاتيّ للذهنِ” وفقًا لماكس شيلر. وكتب أورهان كوتشاك في مقدّمته لكتاب شيلر: “[الحقد هو] حين لا يكتفي الشخصُ بإنكارِ القيمةِ الموجودةِ في الفردِ أو المؤسّسةِ أو العملِ أو الموضوعِ الذي أمامَهُ، بل يكادُ لا يراهُ فعلاً ولا يعيهِ من حيث المبدأ.” في ردود الفعل الموجّهةِ إلى الأكراد، نُلاحظُ انسدادًا أو عماءً من هذا النوع. يربطُ شيلر الحقدَ بمشاعرِ العجز، ويؤدّي كبتُ المشاعرِ الثأريّة ـ الموجّهةِ إلى القوة أو الحالة أو الذات والتي تثير الشعورَ بالعجز ـ إلى ردَّةِ فعلٍ حاقدة (ressentiment).
إن إقامةَ علاقاتٍ غيرِ مباشرة، بل اختزاليّة، قد تخدعُنا. ولكن إذا فكَّرنا في الانطلاقِ من هاتينِ الفكرتينِ لشيلر، فسوف نجدُ في سيكولوجيّة النزعة القوميّة التركيّة ديناميّاتٍ تؤدّي إلى إنتاج الحقد: نقصُ الإشباعِ في الشعورِ بالثأرِ على الرغم من هزيمة “الكردِ الانفصاليين الإرهابيين،” وأنّهم “ما زالوا” يكسبون مساحاتٍ إضافيّة في الاعترافِ بهويّتهِم، والعجزُ عن مواجهة ذلك (فعدمُ إعدامِ عبد الله أوجالان، مثلاً، هو موضوعُ شعورٍ دائمٍ بالحيفِ وجلدِ الذاتِ لدى التيارِ العقائديِّ القومي)، و”الوعيُ بالعجزِ” على الرغم من وجودِ بيئة ملائمةٍ لرفع “الراية” (رايةِ الغزوِ والنصرِ – المترجم)، سواءٌ بسبب تشرذم الحركة القوميّة وخلافاتِها الداخليّة، أو بسبب عجزِهَا عن القيامِ بحملةٍ سياسيّةٍ واسعة نحو السلطة…
علينا أيضًا أن نضعَ مسوّدةَ اللوحة السيكولوجيّة هذه للحركةِ القوميّةِ داخلَ عالمِها الخاصّ، في إطارٍ أوسع. فوراءَ شعورِ الإيديولوجيا القوميةِ بالعجزِ، علينا أن نتحدثَ عن شعورٍ مجتمعيٍّ بالعجزِ أعمُّ وأوسع: العجزُ عنِ السيطرة على شروط الحياةِ، والفشلُ في العثورِ على مرجعيّاتٍ تُساعِد المجتمعَ على رؤية نفسِه كذاتٍ فاعلة، وما يؤدّي إليه ذلك من تراكمٍ للحنقِ والحقد…
إنتاجُ الحقدِ هذا، الذي لا يقتصرُ على المحافل الإيديولوجيّة بل نرى تجلّياتِه أيضًا في الخطاب القوميّ الشعبيّ الشائع، يشكِّل في الوقت نفسِه ثمنَ التهرُّب من مواجهةٍ فعليّةٍ للمشكلة الكرديّة وللمآسي التي وقعَتْ إبّان الحرب ذاتِ الكثافة المنخفضة.

حزب العدالة والتنمية وبحث تركيا عن نفوذٍ إقليميّ
* يوكسَل طاشقِن
نقله عن الإنجليزيّة: شيار يوسف
بعد أن استدعت تركيا سفيرَها إلى إسرائيل في أعقاب الهجوم الإسرائيليّ الفتّاك في المياه الإقليميّة على سفينة المساعدات الإنسانيّة التركيّة المُتّجهة إلى غزّة، اتّخذتْ تركيا إجراءاتٍ انتقاميّةً أخرى ضدّ إسرائيل يومَ 28 حزيران (يونيو)، إذ أعلنتْ أنها لن تسمح بعد الآن للقوات الجويّة الإسرائيليّة باستخدام مجالها الجوّي. وكان التصريحُ آخر حلقةٍ في سلسلةٍ من المناوشات الدبلوماسيّة بين البلدين منذ عمليّة “الرصاص المصبوب” ضدّ غزّة في شتاء 2008-2009؛ سلسلةٍ ضمّتْ فيما ضمّت إدانةَ رئيس الوزراء التركيّ علنًا للرئيس الإسرائيليّ، واستدعاءَ وزير الخارجيّة الإسرائيليّ للسفير التركيّ لمناسبة تصويرٍ اعتلى فيها الوزيرُ على السفير لافتًا انتباهَ الصحفيّين الحاضرين إلى دونيّة موقع الأخير!
قاد هذا التردّي في العلاقات بين البلدين الكثيرَ من المحلّلين إلى استخلاص نتيجةٍ مفادُها أنّ السياسة الخارجيّة التركيّة قد انحرفتْ نحو الشرق. بل إنّ المواقف السياسيّة الخارجيّة لتركيا مؤخّرًا أوحتْ للكثيرين أن يخلصوا إلى أنّ تركيا تتبع أجندةً إسلامويّةً تستلزم ابتعادًا متعمّدًا عن الغرب. فقد توقّع المؤرّخ برنارد لويس، مثلاً، أنّ تركيا قد تُشبه خلال عقدٍ من الزمن الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.1 أمّا معلّق صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان فارتأى أنّ “حكومة تركيا الإسلامويّة لا تركّز، كما يبدو، على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ بل إلى جامعة الدول العربيّة. لا، اشطبوا ذلك، إنّها تركّز على الانضمام إلى جبهة مقاومة حماس – حزب الله ـ إيران ضدّ إسرائيل.”2 وتَصدر تأويلاتٌ مشابهة من المؤسّسة العلمانيّة في تركيا، فيجادل أوكتاي أكسي، المعلّقُ في صحيفة حُريت، أنّ جهود حزب العدالة والتنمية الحثيثة لإدخال تركيا إلى الاتحاد الأوروبيّ لم تكن سوى حيلةٍ من أجل كسب “دعم الغرب للتغلّب على العلمانيّين.”3 وذهب بعضُ المحلّلين إلى حدّ الإيحاء أنّ لحزب العدالة والتنمية أجندةً عثمانيّةً جديدة، إذ يشرح إيليوت كوهن، البروفيسور في جامعة جون هوبكنز، أنّ “مزيجًا من الحكم الإسلامويّ، والاستياءٍ من استبعاد الغرب لتركيا، وإيديولوجيّةٍ عثمانيةٍ جديدةٍ تراها قوّةً عظمى في الشرق الأوسط، قد جعل تركيا دولةً معادية في غالب الأحيان، لا لإسرائيل وحسب، بل لأهداف أمريكا ومصالحها أيضًا.”4
تُخطئ تحليلاتٌ كهذه هدفَ حكومة العدالة والتنمية، وهو ليس القطيعة مع سياسة تركيا التقليديّة في الاصطفاف مع الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبيّ، بل زيادة استقلاليّة تركيا النسبيّة تجاه هاتين القوتين. فبدلاً من الانفصال، يدلّ نهجُ تركيا الجديد على نقلةٍ في التكتيكات، مع بقاء الهدف نفسه. وقد لفتتْ هذه النقلةُ انتباهَ الناس أوّلَ مرة حين ترك رئيسُ الوزراء التركيّ رجب طيب أردوغان منصّةً كان يتشاركها مع الرئيس الإسرائيليّ شمعون بيريز في المنتدى الاقتصاديّ العالميّ في دافوس بسويسرا عام 2008، وذلك بعد إلقاء إدانةٍ حماسيّةٍ للعدوان الإسرائيليّ على غزّة، إذ جاءت عمليّةُ “الرصاص المصبوب” ضربةً لجهود تركيا الوساطيّة التي كانت تجري على قدمٍ وساق بين سوريا وإسرائيل حتى ساعة وقوع الهجمة. وكانت هذه الجهود الوساطيّة جزءًا من سياسة “لا مشاكل” التركيّة الخارجيّة الجديدة مع جيرانها؛ سياسةٍ ترى تركيا قوةَ مبادَرةٍ ووساطةٍ في سياسة حيادٍ إيجابيّ تتعلّق بمحاولات تركيا الانضمامَ إلى الاتحاد الأوروبيّ.
وقد قادت الرؤيةُ السياسيّةُ الخارجيّة تركيا إلى لعب دورٍ وساطيّ أكثر فاعليّة في الخلاف النوويّ بين إيران وقوى الغرب. ففي قمّة الأمن النوويّ التي ترأّسها باراك أوباما في واشنطن في أيّار (مايو) الماضي، قدّم قادةُ تركيا والبرازيل، العضوين المُنتخَبين في مجلس الأمن، خطّةً مستقلّة للتعامل مع برنامج إيران للأبحاث النوويّة. واقترح رئيسُ الوزراء التركيّ رجب أردوغان والرئيسُ البرازيليّ لولا دا سيلفا أن يدخل المجتمعُ الدوليّ في مفاوضاتٍ مع إيران لضمان أن يكون برنامجُها النوويّ سلميًا بالفعل كما تدّعي إيران. أما أوباما فحاول أن يستحصل على دعم مجلس الأمن لجولةٍ أخرى من العقوبات على إيران. بعد بضعة أسابيع من القمّة، حاولت البرازيلُ وتركيا عرقلة الخطط الأمريكيّة لفرض عقوباتٍ إضافيّةٍ على إيران في مجلس الأمن بالإعلان عن توصّلهما إلى اتفاق مع إيران يقضي بأن تشحن وقودَها النوويّ إلى تركيا مقابل إسطوانات وقودٍ نوويّ ستُستخدَم في مُفاعلٍ طبّيّ في إيران. وحين اقتُرح قرارٌ يدعو إلى فرض المزيد من العقوبات على إيران في مجلس الأمن في حزيران (يونيو)، صوّتتْ تركيا ضدّه.
إنّ حزم تركيا في معارضة خيارات السياسة الأمريكية تجاه إيران لافتٌ للانتباه إذا تذكّر المرءُ سياستَها الخارجيّة المنحازةَ إلى الغرب على مرّ العقود التي سبقتْ – وهو تقليدٌ تشكّلَ خلال سنوات الحرب الباردة، حين كان يَحْكم البلدَ أتباعٌ متشدّدون لمؤسّس الجمهوريّة مصطفى كمال أتاتورك. فالحال أنّه لا يمكن فهمُ السياسة التركيّة الخارجيّة أثناء الحرب الباردة في معزلٍ عن مماهاة النخبة الكماليّة للتحديث مع الغَرْبنة. ولقد استلزم مشروعُ التحديث الكماليّ تجريدَ المجتمع والسياسة التركيَّين من كلّ التأثيرات “الشرقيّة” واستبدالَها بممارسات سياسيّة واقتصاديّة وقضائيّة وثقافيّة غربيّة من خلال سلسلةٍ من الإصلاحات التي بلغت حدَّ استبدال التشريع الإسلاميّ بقوانين أوروبيّة، وتبنّي الأبجديّة اللاتينيّة بدل العربيّة، والتقويم الغريغوريّ والأزياء الغربيّة. ومالت النخبة الكماليّة، في سعيها إلى الحصول على الاعتراف بها جزءًا من “الغرب،” إلى صرف النظر عن الشرق، بل إلى “استشراقه” أيضًا. وهكذا لم يعد “الآخرُ” بالنسبة إلى هذه النخبة المتغربنة هو اليونانيّين، الذين وقّعتْ تركيا معهم معاهدةً عام 1930، بل العرب والأكراد. وفي مجال السياسة الخارجيّة، عَنتْ هذه النظرةُ، التي تضع الغربَ في مركز العالم، أن تصطفَّ تركيا مع القوى الغربيّة/ وأن تهملَ الانخراط في الشرق الأوسط.
حاول الكماليّون قبل 1946 اتّباعَ سياسة حيادٍ سلبيّ تجاه القوى الغربيّة بسبب ذكريات الحرب العالميّة الأولى الأليمة. وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية، بدأتْ نخبة الدولة التركيّة اتّباع سياسةٍ أكثر حزمًا تمثّلتْ في اصطفاف تركيا مع “المعسكر الغربيّ ضدّ التهديد السوفييتيّ.” وهنا علينا أن نميّز بين كماليّي الأربعينيّات، ومَن خلَفهم من الكماليّين اليساريّين الذين زاد نفوذُهم في الستينيّات: فقد ابتعد الجيلُ الجديد، متماهيًا مع أسلوب بولند أجاويد العالمثالثيّ والمعادي للإمبراليّة، عن موقف قادة وسط اليمين الداعم لأمريكا في الخمسينيّات؛ لكنّ الكماليّبن اليساريّين شاركوا آباءهم في خياراتهم الحضاريّة واستخدموا تعابيرَ من قبيل “التنمية والتحديث” بدل التغرْبُن. وبسبب هذا الإرث من القوميّة الكماليّة والغَرْبنة، لم يتخيّلْ هؤلاء أنفسهم يومًا بين أعضاء حركة عدم الانحياز أو أمم العالم الثالث.
بعد أن فتح حزبُ الشعب الجمهوريّ الحاكم النظامَ السياسيّ أمام تعدّد الأحزاب عام 1946، لم تنءَ أحزابُ المعارضة الوسط – يمينيّة، التي تميّزتْ من كماليّي حزب الشعب الجمهوري الوسط – يساريّين بدعمها إيديولوجيّة السوق الحرّة وإنشادها للقيم والرموز الإسلاميّة، بنفسها عن النظرة السياسيّة الخارجيّة للنخبة الكماليّة. وهكذا فقد كان حزب الديمقراطيّين الوسط – يمينيّ، الذي استلم السُلطة في انتخابات 1950، هو مَن أرسل قواتٍ تركيّةً لتشارك في الحرب الكوريّة بهدف الانضمام إلى حلف الناتو. كما لعبتْ تركيا دورًا فاعلاً في المنطقة لمنع “التوسّع الشيوعيّ” ورفضت الانضمامَ إلى حركة عدم الانحياز على أساس أنّ تركيا دولة غربيّة. وعمل القادة الأتراك جاهدين للحفاظ على هذه الطاعة اللامُسائلة لـ “الكتلة الغربيّة” خلال سنوات الحرب الباردة، حتى في وجه تنامي نفوذ معارضةٍ يساريّةٍ يقودها الكماليّون اليساريّون ومجموعاتٌ اشتراكيّةٌ أصغر حجمًا، لا سيّما بين الشباب والمثقفين. لكنّ وسط اليمين لم يكن وحيدًا في هذا الخطّ السياسيّ، إذ إنّ المؤسّسة العسكريّة شاركتْه في موقفه الداعم لأمريكا والمعادي للشيوعيّة، وكانت خياراتها ذات أهميّة إذ طالما امتلك العسكريّون قوّة التدخّل، أو التهديد بالتدخّل، في السياسة باعتبارهم حرّاس الجمهوريّة الذين لم يثقوا يومًا بالسياسيّين المدنيّين بشكل كامل. والواقع أنّ دستور 1961 مأسس قوتَهم اللامتكافئة من خلال تشكيل “مجلس الأمن القوميّ” الذي تجاوزتْ سلطته أحيانًا سلطة السياسيّين المدنيّين، في التسعينيّات بسكلٍ خاصّ، حين بلغ تمرّدُ الأكراد ذروته.
المعروف أنّ تورغوت أوزال، رئيسَ تركيا خلال حرب الخليج الأولى، وأكثرَ قادة أحزاب وسط اليمين تديّنًا منذ الخمسينيّات، انضمّ عن رغبةٍ إلى قوّات الحلفاء آنذاك، على الرغم من معارضة كبار جنرالات الجيش التركيّ. حتى إنّ القائد الأعلى للجيش استقال من منصبه اعتراضًا على إصرار أوزال على الانضمام إلى التحالف الذي كانت تقوده الولاياتُ المتحدة، مجادلاً أنّ الجيش التركيّ لم يتلقَّ أوامرَ للاستعداد لانخراطٍ فاعلٍ كهذا. وربّما تخوّف كبارُ الجنرالات أيضًا من احتمال الطائفيّة في عراقٍ مُجزّأ، والتي يمكن أن تحرّك الأكرادَ في تركيا. كما شاركتْ تركيا في الحظْر الذس فرضتْه الأممُ المتحدة على العراق في أعقاب حرب الخليج الأولى، على الرغم من الخسائر الماليّة الفادحة التي سبّبها انقطاعُ التجارة بين البلدين.
ليس جسرًا بل بوّابة
اختلف المسرحُ السياسيّ التركيّ تمامًا بعد أحداث أيلول (سبتمبر)، إذ إنّ حزبًا إسلامويًا جديدًا، هو حزبُ العدالة والتنمية الذي تنحدر قياداتُه من تجمّع أحزابٍ إسلامويّةٍ يُدعى “حركة النظرة القوميّة،” استلم السُلطة بعد انتخابات 2002. ابتعد حزبُ العدالة والتنمية بنفسه عن “حركة النظرة القوميّة” وحدّد إيديولوجيّته بـ “الديمقراطيّة المحافِظة” من أجل موْقَعة نفسِه ضمن التقليد الوسط – يمينيّ الراسخِ الأسس. لكنه ميّز نفسَه من بقية أحزاب وسط اليمين بمعارضته الشديدة لسياسات تركيا تجاه العراق وإسرائيل على وجه الخصوص. ومع ذلك، فقد عملت نخبةُ “العدالة والتنمية” جاهدةً لإثبات ولائها للشراكة التقليديّة مع الولايات المتحدة، وأقرّتْ سياساتٍ إصلاحيّةً متتاليةً لتسريع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبيّ. وعمل الحزب خلال فترة حكمه الأولى (2002 – 2007) على تثبيت ركائز مصداقيّته بين حلفاء تركيا الأقوياء، الذين كان يحتاج دعمَهم في تركيا ضدّ مَن عيّنوا أنفسهم حرّاسًا للجمهوريّة من عسكريّين ومدنيّين.
أثناء حرب الخليج الثانية، لم يكن بمقدور أردوغان أن يغامر باتباع سياسة حيادٍ كامل، إذ كان حزبه لا يزال ضعيفًا مقارنة بالنخبة الجمهوريّة، وكان يحتاج إلى دعمٍ وشرعيّة دوليّين. لذلك مارس ضغطًا على حزبه لتمرير مذكّرة عام 2003 كانت ستسمح للولايات المتحدة باستخدام تركيا قاعدةً تغزو منها العراق وتسمح بإرسال قواتٍ تركيّةٍ إلى المنطقة الكرديّة في شمال العراق. إلا أنّ المجلس، بمن فيه بعضُ أعضاء العدالة والتنمية تحت ضغطٍ من زملائهم نوّابِ البرلمان وتنامي المشاعر المعادية لأمريكا في الشارع التركيّ، رفض ذلك التمريرَ بفارق أصواتٍ قليلة، على الرغم من دعم أردوغان له. لكنْ كان لا يزال باستطاعة القوّات الأمريكيّة استخدام قاعدة إنجيرلِك الجوّيّة لشنّ غاراتها. إحدى العواقب، غير المقصودة ربّما، لرفض مذكّرة 2003 كان تمكين تركيا من فرض نفسها كلاعب مهمّ في الشرق الأوسط. ولتركيا كذلك قوّاتُ حفظ سلام غير مقاتِلة في أفغانستان كجزء من “قوّات المساعَدة الأمنيّة الدوليّة،” وهي مبادرة مشتركة بين الأمم المتحدة وحلف الناتو.
بعد فوز ساحق في انتخابات 2007، شعرتْ قيادة العدالة والتنمية بقدر كافٍ من الأمان لمراجعة سياسة الحزب في الشرق الأوسط. فقد عُيّن أستاذُ العلوم السياسيّة أحمد أحمد دافوطوغلو وزيرًا للشؤون الخارجيّة عام 2009، واستطاع أن يطبّق رؤيته لدور تركيّ أكثر حزمًا. وفي كتابه العمق الاستراتيجيّ، يرفض الصورة التقليديّة لتركيا كجسرٍ بين الشرق والغرب، ويقترح سياسةً تفاعليّة لتركيا بوصفها صاحبة مبادرةٍ ونفوذٍ وساطيّ في سلام المنطقة واستقرارها ــ وهي سياسة تُعرف شعبيًا بسياسة “لا مشاكل” مع الجيران.
إعادة مَوْقَعة تركيا نفسَها قوةً إقليميّةً مستقلة أحدثتْ، كذلك، نقلة في موقفها تجاه الاتحاد الأوروبيّ. يقدّم أردوغان صورة تكميليّة للعلاقة بين بلاده والاتحاد الأوروبيّ: “تركيا قادمة لتُشارك في حمل أعباء الاتحاد الأوروبيّ، لا لتكون عبئاً عليه. ولكي تكون قوّةٌ ما كونيّةً، فيجب أن تكون هناك رؤيةٌ كونيّةٌ وعلاقاتٌ مع بقيّة الأقاليم. سوف تكون تركيا بوّابةَ انفتاح الاتحاد الأوروبيّ على آسيا والشرق الأوسط والعالم الإسلاميّ. إنّ الأمن الكامل للاتحاد الأوروبيّ يمرّ بالعضويّة الكاملة لتركيا [في الاتحاد الأوروبيّ].” وبسبب إحساس تركيا بقوة أكبر في علاقتها بالاتحاد الأوروبيّ، فقد فقدتْ في ظلّ حكم العدالة والتنمية رغبتَها في إنجاز إصلاحاتٍ جديدةٍ لتسريع انضمامها إلى الاتحاد، خاصة بعد أن بدأتْ حكومتا ألمانيا وفرنسا، منذ عام 2005، برفع صوتيهما ضدّ عضويّة تركيا المتأمَّلة.
أكثرُ التغيّرات أهميّةً في سياسة تركيا الخارجيّة هي في علاقاتها بالشرق الأوسط، ما أدّى إلى تحدّيات جديدة للشراكة التقليديّة بين تركيا والولايات المتحدة. لكنْ حدثتْ أيضًا تغيّرات في سياسة تركيا تجاه روسيا؛ فقد ابتعدتْ تحت حكم العدالة والتنمية عن سياسات التسعينيّات التي دعمت، قولاً على الأقلّ، فكرةََ حماية “العالَم التركيّ من البحر الأدرياتيكيّ إلى الجدار العظيم،” وأصبح موقفُها أقلَّ قومويّةً تجاه الشعوب التركيّة والمسلمة في آسيا الوسطى وروسيا. فبينما تُزوِّد روسيا تركيا بالغاز الطبييعيّ، تلعب تركيا دورًا محوريًا في تأمين الأنانبيب الدوليّة التي تنقل النفطَ والغازَ التركيّين إلى العالم الخارجيّ.
هذا وقد أحرزتْ تركيا كذلك بعضَ التقدّم في تطبيع علاقاتها بأرمينيا، إذ توصّل البلدان عام 2009 إلى اتفاق على تأسيس علاقات دبلوماسيّة وفتح الحدود التي كانت تركيا قد اغلقتها بينهما منذ 1993 تضامنًا مع أذربييجان في نزاعها مع أرمينيا. وعلى الرغم من تعثّر البروتوكولات بسبب صعوبة ضمان مصادقة برلمانَي البلدين عليها، فإنّ هذا الاتفاق خطوةٌ أولى مهمّة على طريق فتح موضوع حسّاس ومحظورٍ نقاشُه. وتشير هذه الإجراءات كلُّها إلى ابتعادٍ ملحوظٍ عن تقاليد السياسة الخارجيّة الحذِرة، بل السلبيّة (عكس الفاعلة)، في الماضي.
النظر في اتجاه الشرق
انتهج حزبُ العدالة والتنمية، بدرجات نجاحٍ متفاوتة، منهجَ القوّة الناعمة تجاه العراق، مبتعدًا عن الخطاب القومويّ للحكومات القوميّة المتطرّفة التي سبقتْه، والذي ركّز على حماية الأقلّية التركمانيّة في كركوك من الأغلبيّة الكرديّة. فبدلاً من الحديث عن “الخطر الكرديّ،” تبنّت حكومةُ العدالة والتنمية عبارة “أقرباؤنا في العراق،” في إشارةٍ ضمنيّةٍ إلى رابطةٍ دينيّةٍ تضمّ الأكرادَ بين أولئك الأقرباء. قبل عشر سنوات فقط، كان السياسيّون الأتراك يشيرون إلى الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ، الذي يتزعّمه مسعود البارزاني، بالأحرف الأولى من اسمه (ح . د . ك)، وذلك لتجنّب التابو المتمثّل ف كلمة “كردستان”؛ كما كانوا يستهزئون بالبارزاني والرئيس العراقيّ جلال الطالباني بوصفهما “زعميْ عشائر” لا يستحقّان أن يُعاملا كنُظرائهما الآخرين. أما اليوم، تحت حكم العدالة والتنمية، فقد فتحت الحكومةُ التركيّة علاقاتٍ رسميّةً مع كلا الرئيسين، من دون أن تنسى التشديد على دعم تركيا لدولةٍ موّحدةٍ في العراق.
ولتركيا أيضًا مصالحُ اقتصاديّةٌ في كردستان العراق، ما يزيد من مصلحتها في بناء علاقاتٍ أفضل مع أكراد العراق. إذ ثمة اليوم قرابة 500 شركة تركيّة في كردستان العراق كانت تدير عام 2009 145 مشروعًا بقيمةٍ بلغتْ 16 مليار دولار أمريكيّ. من الطبيعيّ، إذنْ، أن تتردّد تركيا في المخاطرة بهذه المصالح بتوتّراتٍ سياسيّةٍ جديدة.
ويعترف قادة العدالة والتنمية، بشكل غير رسميّ، بأنّ دعم البارزاني والطالباني ضروريٌّ من أجل أيّة خطّة تهدف إلى وقف نشاطات مقاتلي حزب العمّال الكردستانيّ داخل تركيا. ففي أواسط 2009، أعلن أردوغان عن سياسة حزبه الجديدة تجاه الأكراد، سياسة “الانفتاح الكرديّ”، وكان الهدف منها وضع نهاية لصراع حزب العمّال المسلّح من خلال تنازلات من قبيل منح الأقليّة الكرديّة في تركيا مزيدًا من الحقوق ثقافيّة ونوعًا من الاستقلاليّة المحليّة. لكن “الانفتاح” لم يستمرّ طويلاً، إذ إن أردوغان تخوّف من ردّة فعل القومويّين فغيّر الاسم أوّلاً إلى “الانفتاح الديمقراطيّ” ثمّ إلى “مشروع الوحدة والأخوّة الوطنيّة.” والحقّ أنّ النتائج غير السارّة لـ “الانفتاح الكرديّ” لا تشجّع على توقّعات متفائلة إزاء منهج حزب العدالة والتنمية “الناعم” في السياسة الخارجيّة: فإنْ لم تستطع تركيا حلّ المشكلة الكرديّة بوسائل سلميّة، فإنّ ادّعاءات سياستها الخارجيّة ستفقد مصداقيّتها لدى حلفاء تركيا في الغرب. فعلى سبيل المثال، يُسائل المنتقدون لاعتراضات تركيا، المتزايدة في صخبها، على السياسات الإسرائيليّة تجاه الفلسطينيّين مصداقيّةَ تركيا بالاستشهاد بمعاملة هذه لأقلّيتها الكرديّة.
وفي حين يبدو أنّ هناك تناغمًا بين تركيا والولايات المتحدة في سياستيْهما في العراق، يسبّب التقاربُ المتزايدُ بين إيران وتركيا قلقًا في الولايات المتحدة. ففي مقالة في نيويورك تايمز، ينتقد توماس فريدمان البرازيلَ وتركيا قائلاً: “هل هناك ما هو أقبحُ من مراقبة ديمقراطيّين وهم يبيعون ديمقراطيّين آخرين إلى مجرم إيرانيّ منكرٍ للهولوكوست وسارقٍ للأصوات [في الانتخابات] فقط من أجل قََرْص الولايات المتحدة وإثباتِ أنّ باستطاعتهم، هم أيضًا، أن يلعبوا على طاولة القوى العظمى؟”5 بيد أنّ موقف تركيا من إيران لا يقوم على أيّة مودّةٍ طويلةِ الأمد تجاهها أو رغبةٍ في تغيير موازين القوى في المنطقة. فبعد الثورة الإسلاميّة عام 1979، تدهورتْ علاقاتُ تركيا مع إيران بسبب مخاوف كلّ طرفٍ من مطامح الآخر في تغيير النظام. وحتى اليوم، ثمة نقصٌ في التعاطف الصادق مع إيران على مستوى الشارع التركيّ، مقارنةً بالتعاطف الذي يُظهره للفلسطينيّين مثلاً. فوفقًا لاستطلاعٍ أجرته الـ بي بي سي مؤخّرًا، فإنّ نسبة المتعاطفين مع إيران كان 13 بالمئة فقط، مقارنةً بـ 6 بالمئة تجاه إسرائيل، و13 بالمئة تجاه الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما. لكنّ غالبيّة عظمى من الأتراك تعارض أيّة عقوبات أو عمل عسكريّ ضد إيران، لاعتقادهم أنّ أمريكا وإسرائيل تتعاونان على هذه القضيّة. غير أنّ الرأي العامّ التركيّ ليس وحده ما يُجبر أردوغان على اتخاذ موقفٍ أقلّ مواجَهةً من إيران، إذ ستخلق العقوباتُ مشاكلَ مهمّة للاقتصاد التركيّ، الذي ما فتئتْ تجارتُه مع إيران تزداد منذ العام 2002 ـ إذ يبلغ حجمُ التجارة بين البلدين حاليًا 10 مليار دولار، أيْ خمسة أضعاف ما كان عليه آنذاك. وإيران ثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعيّ بالنسبة إلى تركيا؛ كما تخطّط تركيا لاستثمار 3.5 مليار دولار في حقل الغاز الطبيعيّ في جنوب بارس. لذلك فإنّ أية فوضى في إيران لن تتسبّب في صعوبات اقتصاديّة لتركيا فحسب، بل قد تجلب عشرات الآلاف من اللاجئين الجدد إلى تركيا أيضًا، كما حدث إبّان الثورة الإسلاميّة. وعلاوة على ذلك، فإنّ عدم الاستقرار في إيران قد يسهم في تصعيد التمرّد الكرديّ الذي تقوده المنظمةُ الشقيقةُ لحزب العمّال الكردستاني، أيْ حزب الحياة الحرّة الكردستانيّ، وهو ما قد تكون له عواقبُ في تركيا. وهكذا فإنّ دوافع أردوغان عقلانيّة جدًا رغم الادعاءات بأنه مستعدٌّ للتخلّي عن السياسة الخارجيّة التقليدية لتركيا لاعتبارات إيديولوجيّة إسلامويّة. لقد أخفق دور تركيا الوساطيّ، إلى جانب البرازيل، حين أقرّ مجلسُ الأمن عقوباتٍ على إيران، وصوّتتْ تركيا ضدّها، وكان ذلك بمثابة صفعةٍ لهذه الأخيرة. ورغم وعي أردوغان بتزايد انعدام ثقة واشنطن بحكومته، فإنّه ما يزال يحاول الترويج لتركيا كقوّةَ وساطةٍ مثاليّةٍ قريبةٍ من كلا المعسكريْن في الوقت نفسه.
بمقدور المرء التخمين أنّ تركيا ستبتعد بنفسها تدريجيًا عن إيران بوصفها “جارًا يتسلّح نوويًا.” كما انّ الاصطفاف مع إيران يغامر بخسارة تعاطف دول الخليج العربيّة ذات الدولارات النفطيّة البرّاقة. بل الواقع أنّ أحد الدوافع المحرِّكة لحكومة العدالة والتنمية هو اجتذابُ هذه الدولارات للاستثمار في تركيا. فمنذ أن استلم حزبُ العدالة والتنمية السلطة عام 2002، ارتفعت استثماراتُ دول الخليج في تركيا بشكلٍ كبير، إذ بلغتْ 30 مليار دولار عام 2008.
مكان على الطاولة
يدرك حزبُ العدالة والتنمية أهميّة تقديم صورةٍ عن تركيا بوصفها قوّة أساسيّة في المنطقة من أجل تهميش نفوذ إيران الإيديولوجيّ. ومثل الرئيس الإيرانيّ أحمدي نجاد، زادت شعبيّةُ أردوغان في الشرق الأوسط بسبب انتقاداته الصريحة للدولة الإسرائيليّة. كما يشكّل بطلُ الفلسطينيّين الجديدُ تحدّيًا للقادة العرب الذين يصرّون على صمتهم إزاء الحصار الإسرائيليّ على غزّة. بل إنّ انتخاب أردوغان المتديّن رئيسَ وزراء بعد انتخاباتٍ عادلةٍ قد يفسّر جزئيًا شعبيّته بين بعض المجموعات الإسلاميّة في الدول العربيّة، والتي تَستخدم نموذجَه لممارسة الضغط على حكّامها المستبدّين.
إنّ إشارات أردوغان المتكرّرة إلى القضيّة الفلسطينيّة يدفعها مزيجٌ من الإيديولوجيّة والتكتيك المتعمّد. كما أنّ النزعة الأبويّة لحماية الفلسطينيّين لها صلةٌ بحاجةٍ سيكولوجيّةٍ لدى الديمقراطيّين الإسلاميّين وقد تحوّلوا إلى محافظين لإثبات أنهم لا يزالون متمسّكين بالتزاماتهم الأخلاقيّة تجاه الأمّة [الإسلاميّة]. لقد مرّ الإسلامويّون السياسيّون في تركيا بعمليّة اعتدال إيديولوجيّ جدّية، سوى ما خصّ قضيّتي فلسطين والحجاب. إذ يعاني كوادرُ العدالة والتنمية، وكذلك المجموعاتُ التي لا تزال تتبع الإسلامويّة، انعدامَ أسس إيديولوجيّة مشتركة توحّدهم. إنّ تعاظم قوّة العدالة والتنمية، اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، قد دفعته في اتجاه الوسط داخل الطيف السياسيّ التركيّ، إذ يستعيد الحزبُ الآن التقليدَ الوسط – يميني الذي بدأه حزبُ الديمقراطيّين في الخمسينيّات. كما أنّ المجموعات الإسلامويّة بشكل عامّ قد ابتعدتْ عن استراتيجيّة استلام السُلطة المركزيّة بهدف أسْلَمة البلد، بل راحت تنشط على نحو متزايد ضمن إطار المجتمع المدنيّ، ولاسيّما عن طريق الجمعيّات الخيريّة ومنظّمات حقوق الإنسان.
ومع ذلك، لا تصحّ المجادلة بأن سفينة مساعدات غزّة الأخيرة كانت مبادَرةً من حزب العدالة والتنمية منذ البداية. فبعد أن غادرت السفينة الشواطئ التركيّة، جهد الحزبُ في إقناع مسؤولي مؤسسة الإغاثة الإنسانيّة التركيّة على وجه الخصوص بتجنّب غزّة وإكمال الرحلة إلى أحد الموانئ المصريّة. لكنْ يبدو أنّ أعضاء مؤسسة الإغاثة إما متعاطفون مع حزب السعادة، وهو حزبٌ إسلامويّ قريبٌ من حركة النظرة القوميّة ومنافسٌ صريح لحزب العدالة والتنمية، أو هم أقربُ إلى مجموعاتٍ إسلامويّةٍ متطرّفة. بل إنّ أغلبهم ينتقد العدالة والتنمية لـ “موقفه السياسيّ الداعم لإسرائيل وأمريكا.” على أيّة حال كانت سفينة المساعدات ائتلافًا ضمّ كذلك الكثيرَ من اليساريّين وغير المسلمين وأنصار العدالة والتنمية.
أخيرًا لا آخرًا، بدأتْ تركيا استخدامَ وسائل ثقافيّة لإعلاء مكانتها في الشرق الأوسط. فقد أطلقتْ حكومةُ العدالة والتنمية قناةً تلفزيونيّةً وبرامجَ إخباريّةً ناطقةً بالعربيّة للترويج لسياسات تركيا في البلدان العربيّة. كما لاقت المسلسلاتُ التلفزيونيّة التركيّة جمهورًا واسعًا في المنطقة، وأغضبتْ بعض الدوائر المحافِظة التي اعتبرتْها جهودًا متعمّدةً تقود إلى التحلّل الأخلاقيّ بين المسلمين. فقد أنحى بعضُ أعضاء الأزهر في مصر، على سبيل المثال، باللائمة على مسلسل “نور” التركيّ (Gümüs في الأصل) في تزايد عدد حالات الطلاق في البلد بسبب رفع “الآمال الرومانسيّة لدى النساء.”
من الناحية التكتيكيّة، تتيح زيادةُ قوّة تركيا ومكانتها في الشرق الأوسط تأكيدَ نفسها لاعبًا لا غنى عنه في المنطقة. إنّ حزب العدالة والتنمية لا يرمي إلى قطع روابط تركيا التاريخيّة بأمريكا وأوروبا، بل إلى تعزيز مكانة تركيا لاعبًا أساسًا ومستقلاً في المنطقة.. كما أنّ الإشارات المتزايدة إلى تعدّد الأقطاب في السياسة الدوليّة تقدّم فرصًا كثيرةً للحكومة التركيّة من أجل مضاعفة نفوذها الإقليميّ، الذي يمكن تحويلُه إلى قوّةٍ تساوميّةٍ في علاقتها بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ. وربما أجملتْ كلماتُ أحمد دافوطوغلو الآتية رؤيتَه عن تركيا بشكل واضح: “على النظام الكونيّ الجديد أن يكون أكثرَ احتواءً وتشاركيّة… ستكون تركيا بين أولئك اللاعبين النشطين والمؤثّرين الذين يجلسون حول طاولةٍ ليحلّوا المشاكلَ بدلاً من مجرّد مراقبتها.”6

* أستاذ العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة في جامعة مرمرة، إسطنبول.

1- وُل ستريت جورنال، 11/5/2010.
2- نيويورك تايمز، 15/6/2010.
3- غلوب آند ميل، 11/6/2010.
4- وُل ستريت جورنال، 7 /6/2010.
5- نيويورك تايمز، 25 /5/2010.
6- صحيفة زمان التركيّة، 21 /5/2010

مجلة الآداب العدد ١١-١٢ /٢٠١٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى