صفحات العالم

فصل المجال المدني عن المشاركة الطائفية

سليمان تقي الدين
ليس المثال التركي شاهداً صالحاً لدعم شرعية النظام الطائفي كما أشار زعيم لبناني في المناقشات النيابية .
على العكس من ذلك، يشكل هذا النموذج، غير المثالي طبعاً، دليلاً على احتمال بناء دولة غير دينية في العالم الإسلامي تتناوب على إداراتها تيارات سياسية مختلفة انسجاماً مع تطلعات المجتمع . هناك عندنا ومن حولنا الكثير من المعطيات والوقائع التي تصلح للحذر من أي إجراء يمكن أن يؤدي الى تهديد جدي للحريات العامة والخاصة، ولا سيما حرية الجماعات الدينية والفكرية والسياسية، وينطوي على شكل من أشكال التمييز والتعدي على الحقوق . الحركات الدينية والمذهبية والعصبيات الأثنية والطائفية هي مثال حقيقي، خاصة في سعيها الى السلطة، في دول لا تتمتع ببنية مدنية قوية . نظامنا الطائفي ليس شكلاً أو مظهراً لدولة دينية لكنه يجنح بقوة الى تشجيع التيارات الدينية ويحفزها على تعزيز سيطرتها على المجتمع، وإذا تضافرت لمصلحتها الظروف الملائمة تضع يدها على الدولة .
هناك ذريعة استخدمت ولا تزال دفاعاً عن النظام الطائفي هي ضمانة الحرية . لم تظهر التجربة صحة ذلك . البلد الذي يعيش حروباً أهلية وأزمات بهذا المستوى لا يشكل ضمانة للوجود قبل الحرية .
لم يستطع النظام حتى الآن أن يوفر قاعدة ثابتة للحكم، ولا أن يمنع الصراع الطائفي على السلطة والتغيير في التوازنات، ولا هو يؤمن الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي . طبعاً مهم جداً ضمان حرية الجماعات الدينية وكذلك ضمان مشاركتها في الحياة الوطنية وكذلك في السلطة إذا اقتضى الأمر، كجماعات، لكن هذا النظام الطائفي لم يعد يؤدي هذه الوظيفة، بدليل عدم رضا المجموعات كلها عن دورها فيه، وبدليل فشل هذا النظام في بناء دولة تؤمن الحقوق الأساسية لمواطنيها . في واقع الأمر كان المسار التاريخي لهذا النظام أنه يمارس دوراً سلبياً في تحقيق المشتركات الوطنية . هو يعمق الطابع الزبائني للحياة السياسية ويحمي الفساد بأشكاله المختلفة . ويهدر كل الطاقات والإمكانات التي يحتويها المجتمع اللبناني، وفوق ذلك كله يفرغ الاستقلال والسيادة من مضمونها، ويشوه الثقافة المدنية الإنسانية لمصلحة أشكال من العصبيات التي تذهب في اتجاهات عدائية وعنصرية .
ما شهدناه في آخر انتخابات نيابية من تكوّر أو تكوكب مذهبي في إطار الحركات السياسية المنظمة القائدة يؤكد حقيقة ان الشعارات السياسية الوطنية لم تكن هي موضع الاختيار من قبل الجمهور . الحاجة الى إثبات الوجود السياسي لهذه الجماعة أو تلك هو الذي تجلّى في عملية الاقتراع حتى لدى الشارع المسيحي الوحيد المنقسم على نفسه .
لقد اختار الشارع المسيحي بهاجس مَن هو الفريق الذي يؤمن له فعالية أكبر داخل النظام السياسي، وأي تحالف هو الأكثر واقعية وضمانة لوجوده، وأي مشروع هو الأقرب لتطلعاته الى لبنان المستقبل، ولكن كمسيحي وليس كمواطن لبناني . وفي اللحظة التي انتهت فيها المنافسة السياسية على السلطة فتح المواطنون ملفاتهم وقضاياهم وهمومهم كمواطنين . هذا الفصام أو هذا الانشطار في الشخصية السلوكية اللبنانية هو واقعة لا يمكن إنكارها، غير أنه هو الذي يدعونا للبحث عن صيغة قادرة على تلبية هاتين الحاجتين معاً، المواطنة بما لها من حقوق والجماعات بما لها من ضمانات .
النظام الطائفي كما جرت ممارسته عندنا أدى الى المخاطر التي حذّر منها فلاسفة “الديمقراطية التوافقية”، أي نشوء الأوليغا رشية، أو الطغمة المتحكمة من قبل نخبة سياسية اقتصادية مغلقة على حاجات المجتمع وتطلعاته .
يفترض النظام التعددي إما تنمية اتجاه الاندماج الاجتماعي الوطني، أو على الأقل الحفاظ على التعايش الحر المستقر الذي يمنع تجاوز فريق على الفريق الآخر . في التجربة اللبنانية لم تنجز “الانصهار الوطني” أو “التدامج الوطني” أو حتى تنمية المشتركات، ولم نوقف عملية التغالب والنزاع الطائفيين، بل نحن في دوامة الحراك الهادف إلى تعديل توازنات السلطة . طبعاً هناك جزء من هذه المشكلة يتعلق بالمحرضات الخارجية والتحديات والصراعات الإقليمية التي تلهب مسألة الهويات الفئوية على حساب الهوية الوطنية والمواطنية . لكننا لا يجب أن نهمل الأساس الداخلي للمشكلة المتمثلة في حدة التمايزات والامتيازات الطائفية، وفي هشاشة مشروع الدولة وضمور المرتكزات الاقتصادية والاجتماعية للولاء الوطني .
حين نتداول المسألة الطائفية كمسألة مركزية مناقضة لمشروع الدولة إنما علينا أن نفتح آفاق المعالجة، لا مجرد فتح ملفات خلافية .
لن نتقدم في هذا الاتجاه إذا بقينا نتعامل مع المسألة الطائفية كمحرّم ومقدس وثابت، بل أن نبحث في الأمر انطلاقاً من حاجة اللبنانيين الى إطفاء النزاعات “السياسية الطائفية” لمصلحة تلبية متطلبات الناس في عيشهم اليومي وطموحهم لحياة هانئة مستقرة .
التوافقية ممكنة إذا استطعنا فصل المجال المدني والوطني عما هو قائم من امتيازات طائفية . هناك فارق جوهري يجب معالجته بين الطائفية كنظام من الامتيازات أو كنظام للمشاركة . فكرة المداورة بين السلطات ليست إلا صيغة لحل نزاعات الطبقة السياسية الحاكمة، وكذلك هي كل فكرة تبحث في مسألة الصلاحيات الدستورية كامتياز لهذا الفريق أو ذلك، وليس كتوازن يمنع الهيمنة، أو يحد جموح السلطة بالسلطة . لكن ما يطلبه المواطنون بالضبط هو تحضير الأجواء النفسية التي تبدأ من الاعتراف بحقوقهم الفردية وضمانتها من خلال الإصلاح الشامل للخروج من نظام المحاصصة والزبائنية والمحسوبية والفساد .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى