صفحات من مدونات سورية

أزمات, إيمان المتحوّل, مفارقات إنسانيّة

يحبّذ الناس في أوقات الأزمات سماع نوعين من الأفكار.. الأول يخص دغدغة انتماءاتهم و مشاعر العصبيّة للجماعة و التأكيد الذاتي أن الخلل ليس في بنية الانتماء بل في قلّة الانتماء, و الحل يكمن في العودة إلى الأصل. الثاني يلقي بمسؤولية أغلب المشاكل الحاصلة بما فيها “قلّة الانتماء” على عناصر خارجية, و إن لم يكن من الممكن إلصاق صفة “الخارجية” عن هذه العوامل فمن الممكن توصيفها كدخيلة و غير أصيلة. الخطاب الناجح هو الذي يتمكن من دمج هذين النوعين من الأفكار في خطاب واحد و تبسيطه و تسطيحه, ففي أوقات الأزمات يحبّذ الناس سماع تفسيرات لمشاكلهم تعرض سبباً واحداً و مسبباً واحداً.. و حلاًّ واحداً و حلاًلاً واحداً..
الأزمات هي حاضنة الأفكار الشوفينية و العنصرية و الإقصائية.. لكنها أيضاً حاضنة الثورات عليها و على من يطبخها.
أخلاق المثقف أو السياسي أو الإعلامي هي التي تحدد كيف سيتصرّف لا إيديولوجيّته: هل سيعطي الناس ما يريدون كما يعطي تاجر الهيرويين الجرعة للمدمن أم سيواجه الناس و رغبتهم في الاستغباء و يحاول التصدّي للانتهازيين الذين رفض أن يكون بينهم؟ الخيار الأول هو ركوب الموجة و الثاني هو سباحة عكس التيّار, الخيار الأول ذو أرباح سريعة و فورية.. الخيار الثاني هو إقراض التاريخ ديناً كبيراً, و قلّما يفي التاريخ بديونه..
يحدث هذا في كل الأمم و الشعوب, في كل الدول و القارّات.. سمّه أصولية شعبوية, سمّه قومية شوفينية, بروباغندا استبدادية شرق أوسطية, يمين أوروبي متطرّف, حزب الشاي.. الخ. تتبدّل طرق التعبير و ألفاظه و مصطلحاته و أشكاله. المبدأ واحد.
قلتُ في نصّ سابقٍ و أعيد, البشر متشابهون أكثر مما نتوقّع الأغلبية, و أكثر بكثير مما يرغب البعض.

تجادلت مع أحد زملائي بشكل عنيف (عنيف فكرياً طبعاً) بخصوص قضية المهاجرين “غير الشرعيين” (لا أعترف بهذه الصفة إطلاقاً.. أعتقد أن البحث عن مستقبل أفضل هي شرعية أعلى من أي ختم على ورقة أو على جواز سفر), فقد كان هذا الزميل يردد مرة تلو الأخرى كلّ خزعبلات اليمين الأوروبي المتطرّف عن المشاكل التي تسببها الهجرة في أوروبا من تمييع الثقافة الأوروبية و انتشار الإجرام و المافيات و كل هذه الأمور.
أقر أنني جادلت محدّثي بعنف أكثر من المعتاد بالذات لأنه مهاجر, و بالذات لأنه قدم من دولة أمريكية جنوبية و دخل البلاد بشكل غير شرعي ثم قام بتسوية وضعه و هو اليوم يتمتع بالقدرة على المطالبة بتخفيض الضرائب و عدم الإنفاق على الصحة العامة “لمن هبّ و دب”.. لست نادماً على ذلك, ربما كنت أفضّل لو لم أستخدم معه مصطلح “إيمان المتحوّل” (La Fe del Converso) و هو مصطلح قديم جداً يعود إلى فترة ما قبل محاكم التفتيش عندما كان بعض المسلمين و اليهود من سكان المناطق التي سقطت تحت سيطرة ملوك قشتالة يبالغون في إظهار إيمانهم و تعصّبهم لمسيحيتهم الجديدة بعد تنصّرهم كمحاولة للظهور أمام الحكّام الجدد و كأنهم أفضل و أكثر أحقية بالارتقاء اجتماعياً من أولئك الذين تنصّروا ظاهرياً فقط.. و لا عجب في أن أغلب هؤلاء “المتعصّبين الجدد” كانوا من الأغنياء, و بعضهم كان من أشراف ممالك الطوائف. و يُقال هذا المصطلح للإشارة إلى من ينضمّ لجماعة من خارجها و يصبح “ملكياً أكثر من الملك” كمحاولة لإثبات أصالة انتمائه لهذه الجماعة للغير و لذاته.
لستُ ضد مناقشة مشاكل الهجرة و صعوبات الاندماج و مواجهة المظاهر الخاطئة و المعوقة للعيش المشترك, و لا أشك أنه كما أن للوافدين, كما لأهل البلد, حقوق فإن عليهم واجبات.. هذه نقاشات ضرورية و حيوية إن كان داخل الجاليات المهاجرة أو خارجها. ما لا أستطيع احتماله هو استخدام هذه الصعوبات و العثرات و الأخطاء للتشكيك في شرعية الهجرة بحثاً عن غدٍ أفضل و مهاجمتها.. خصوصاً عندما تبدر من مهاجر آخر حالفه الحظ و ارتقى اقتصادياً و اجتماعياً و يبدو أنه يريد أن يبقى عالياً بالدوس على أبناء جلدته و لإثبات أنه أفضل أو أرقى أو أكثر حضارة منهم.

من مفارقات الزمان أن التقدّم العلمي و التقني الذي ساعد الإنسان على اختراق و عبور الحدود الطبيعية من جبال و وديان و أنهار و بحار قد ساعده في الوقت ذاته على استنباط و بناء أنواعٍ جديدة من الحدود أكثر مناعة و خطراً من تلك الحدود الطبيعية التي لم تعد ذات أهمية.
هذا التقدم العلمي و التقني ذاته ساهم في إقامة الجسور و الروابط و تسهيل التواصل بين البشر باختلاف أماكنهم و اختلاف أعراقهم و أديانهم.. لكنه أيضاً ساعد المعنيين و المستفيدين في أن يجعلوا كل جماعات الأرض(شعوب, أديان, أقوام.. الخ) تتصرّف بمنطق الأقلية الخائفة من الذوبان وسط محيطٍ هائج الأمواج.
هذا هو الإنسان منذ فجر التاريخ, كان يداوي بالأعشاب فأصبح يعالج بالليزر.. كان يقتل الآخرين بالحجارة فأصبح يقتلهم بالقنابل الذرّية. العَظَمة نفسها و الحقارة ذاتها.. فقط اختلفت الوسائل و الأحجام.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى