الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةالدور التركي في المنطقة

تركيا وايران: هوية إسلامية واحدة، مساران مختلفان

نسرين عظيمي
بينما كانت تركيا تستعرض نفوذها، وتتحدّى شركاءها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) حول اختيار الأمين العام الجديد للحلف، كان الرئيس هيوغو شافيز في طهران يفتتح مصرف التنمية الإيراني-الفنزويلي.
أن يبدو الرئيس الفنزويلي المثير للجدل الصديق المفضّل الوحيد لإيران في منطقة تزداد عدائية حيالها – حتى بينما تملي تركيا السياسات في الناتو وتحاضر في دافوس وتشغل مقعداً في مجلس الأمن الدولي – هو مؤشر على المسافة الهائلة بين اثنين من أهم البلدان في العالم الإسلامي.
يفصل الكثير بين إيران وتركيا في محكمة الرأي العام العالمي اليوم إلى درجة أنه من السهل أن ننسى نقاط التشابه العديدة التي تتشاطرانها. للبلدين حضارات قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام، وكان كلاهما أمبراطوريتين لفترات طويلة من الزمن. ويغطّي كلاهما أراضي استراتيجية في الشرق الأوسط أو بجواره، ونسبياً عدد سكانهما كبير ومتعلم جيداً (66 مليون نسمة في إيران، و76 مليوناً في تركيا). ليس أي منهما عربياً، لكن كليهما مسلمان في غالبيتهما الساحقة. ويتشاطر البلدان أيضاً أكثر من ألف عام من الخصومة والتعاون. في مطلع القرن العشرين، شهدت كل من إيران وتركيا انقلاباً عسكرياً، وأصبح الانقلابيان رضا شاه وأتاتورك إصلاحيَّين بصورة غير متوقّعة. وضع أتاتورك دستوراً علمانياً ومنح المرأة حق الاقتراع؛ وخلّف أيضاً انطباعاً قوياً لدى الشاه الإيراني إلى درجة أن تركيا كانت البلد الأجنبي الوحيد الذي زاره رضا شاه خلال حكمه.
بحلول منتصف السبعينات، عندما انتقلت عائلتي من طهران إلى أنقره، كانت إيران غارقة في أموال النفط، وبدت متقدّمة بأشواط على جارتها في مختلف النواحي. ولم تكد تمضي بضع سنوات حتى شهدت ثورة عنيفة ومسبِّبة للصدمة أعقبتها الحرب الدموية مع العراق التي استمرت عشرة أعوام. وأدّت هذه التطورات إلى هجرة كثيفة للأدمغة في اتجاه أوروبا وأميركا – فقد غادر نحو ثلث الأطباء ونصف الأكاديميين إيران في السنوات التي أعقبت الثورة، مما حرم البلاد من مواهب هي بأمس الحاجة إليها.
في هذه الأثناء، كانت تركيا، وعلى الرغم من أعمال الشغب الطالبية والانقلابات العسكرية والإضرابات العمالية، تبني قاعدة صناعية قوية (كان جيراننا الأتراك يرددون مازحين في تلك الأيام أنهم لن يحلقوا ذقونهم قبل أن تتمكّن بلادهم من إنتاج آلات الحلاقة بنفسها). وكانت تركيا التي لم تصبها لعنة النفط كما أصابت إيران، أكثر قدرة على تنويع اقتصادها والسيطرة على مصيرها السياسي من دون تدخّل خارجي.
حالياً تركيا هي مركز ثقل اقتصادي في المنطقة، وتملك نفوذاً يمتد من آسيا الوسطى إلى شمال أفريقيا. تعزّز جهودها الديبلوماسية غير المسبوقة صورتها كبلد إسلامي ديموقراطي علماني وفي طور الازدهار. ففي الأعوام الأخيرة، افتتحت نحو 12 سفارة و20 قنصلية في مختلف أنحاء أفريقيا، واستضافت العام الفائت في اسطنبول أول مؤتمر للتعاون التركي – الأفريقي، وقد حضرته 50 دولة أفريقية تمثّلت بأرفع المستويات.
أما إيران فتبدو في هذه الأثناء غارقة في جدل نووي يزداد استفحالاً؛ وقد فرض عليها مجلس الأمن الدولي عقوبات ثلاث مرات؛ ومواطنوها منبوذون في التجمّعات الدولية. عام 2008، بلغت قيمة الاستثمارات الخارجية في تركيا 14 مليار دولار؛ في حين لم تتجاوز المليار دولار في إيران.
منذ الثورة الإسلامية في إيران، حصل تباعد كبير في المسارين اللذين يسلكهما البلدان – ولا سيما في ممارسة الدين الإسلامي في ذاته.
لا تزال أوراق اعتماد تركيا العلمانية، على الرغم من وجود حزب إسلامي في السلطة، قوية. وقد أطلقت العام الفائت مبادرة لافتة تمثّلت في إنشاء لجنة من العلماء والباحثين لمراجعة الحديث النبوي الذي يُعتبَر من النصوص الأكثر قداسة في الإسلام. وحاولت تركيا أيضاً وضع معايير أكاديمية وعلمية لقادتها الدينيين، مما يعزّز مكانتها كمركز حقيقي لدراسة الإسلام.
وفي حين كانت إيران تاريخياً أكثر تسامحاً مع أقلياتها، تتقدّم تركيا على هذه الجبهة أيضاً: ففي آذار المنصرم، طلبت الحكومة التركية ترجمة القرآن إلى اللغة الكردية في سياق الجهود المستمرة التي تبذلها للتخلص من شياطينها الماضية والانسجام مع معايير الاتحاد الأوروبي عبر منح الحقوق السياسية والثقافية لأقلياتها. وبصورة غير مفاجئة، يعكس وضع المرأة الإيديولوجيتين المختلفتين: فأشهر شخصية في مجال ريادة الأعمال في تركيا، غولر سابانجي، هي امرأة. ترئس سابانجي تجمّع أعمال يساوي مليارات الدولارات وهي محط تكريم واحتفاء مستمرَّين من حكومتها. أما المواطنة الإيرانية الأبرز، المحامية شيرين عبادي الحائزة على جائزة نوبل، فتتعرّض باستمرار للمضايقات بسبب الجهود التي تبذلها دفاعاً عن حقوق الإنسان. حالياً، تشكّل النساء 2.8 في المئة فقط من النواب الإيرانيين، في مقابل 9.1 في المئة في تركيا. تُهدَر مواهب النساء الإيرانيات وطاقاتهن، مع العلم بأنهن يشكّلن 65 في المئة من مجموع الطلاب الجامعيين، في التصدّي للفتاوى حول حجم حجابهن أو طول لباسهن الإسلامي.
عندما كانت عائلتي تعيش في تركيا، كنّا معجبين بثقة أصدقائنا الأتراك بهوياتهم المتعدّدة والمتطوّرة. بدا أن لديهم شعوراً بالفطرة أن تركيا هي جسر حقيقي بين الشرق والغرب، وهو مصدر اعتزاز لهم. وبدا أيضاً أن الحداثة والعلمانية وثقافتهم القديمة والإسلام تنسجم معاً، وبارتياح شديد. لقد حقّقت هذه الفلسفة فائدة كبيرة لبلادهم.
في الروايات الكبرى عن مصير الأوطان، ينظر الإيرانيون اليوم بإعجاب إلى جيرانهم الأتراك، لكنه إعجاب مشوب بالحسد بلا ريب.

“نيويورك تايمز”
ترجمة نسرين ناضر

(مديرة مكتب هيروشيما التابع لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والأبحاث)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى