صفحات العالم

ويكيليكس: لا تغيّروا أسماء الأشياء

سليمان تقي الدين
تستهلكنا اللحظة السياسية. نغرق في تفاصيل المناورات والمواقف والتفاوضات على تعديل ميزان القوى من هنا أو هناك. فجأة يخرج حدث إلى العلن كوثائق «ويكيليكس»، يذكّرنا بما هو أهم وأعلى وأكبر وأفعل. ننتبه ثم نعود إلى يومياتنا العادية ونتابع مسيرة الشجار. تضيع القضية الأساس، تغيب المشكلة الرئيسة، نبالغ في النصر ونبالغ في الانكسار. نشعر بفائض القوة أو نشعر بفائض الإحباط. هناك في السياسة رؤى جزئية تراكم من دون أفق بعيد. ليست لدينا الآن جردة حساب فعلية لقضية فلسطين.
ما أنجز ما لم ينجز. ما هو الرصيد النهائي لحساب قرن من النضال. ليس لدينا قراءة موضوعية لما حصل في العراق ما خسرناه وما ربحته أميركا. مَن هو المنتصر الحقيقي ومَن هو المهزوم. ما ثمن النصر وما كلفة الهزيمة. أين كان العراق في عهد الدكتاتورية كمجتمع وأين صار في عهد الفوضى. أية ركائز يمكن الاستناد إليها لإعادة مسار الوحدة والاستقلال والتقدم. ربما لو فكّرنا على هذا النحو وصلنا إلى نتائج غير مرضية. على الأقل العراق خارج تحديات العصر في التقدم والتنمية، وخارج معايير الديموقراطية والحرية تحت وطأة فائض العصبيات الفئوية والجهوية وثقافة الانقسام والتخلف. يتكئ العراق اليوم على عكازات إيرانية تركية سورية سعودية لكي تجمع مكوّناته أو لتحافظ على حدود إقليمية شكلية مفتوحة على كل المصالح الخارجية وعلى كل المداخلات والأهواء.
فلسطين لم تعد فلسطين. نحن نتحدث عن شيء آخر اعتدنا عليه وفرض علينا. هناك واقعة واحدة لم تعد موضع جدال هي إسرائيل، بينما كل ما نفكر به ونطمح إليه وكل ما له علاقة بحق تاريخي أو بمستقبل لشعب فلسطين مجرد احتمال، مجرد حلم، ومشاعر ترتفع وتنخفض على حرارة الفعل الإسرائيلي، على الجرافة التي تقتلع الزيتون وتهدم المنازل وتغيّر مسار الطرق وتفتك بأسماء المدن والقرى وتقيم الجدران الإسمنتية على حدود التاريخ والذاكرة والوعي.
لبنان ملهاة صغيرة على هامش الجغرافية العربية والإقليمية. لا يمكن لشعب على سوية معقولة من الوعي أن يدمّر نفسه من أجل وهم بحجم وهم البحث عن الحقيقة والعدالة في عالم يختنق بالكذب والظلم والجريمة والعنف. أو أن يبحث عن هاتين القيمتين «الحقيقة والعدالة» في بطن الغول الأميركي.
لنتجاهل قليلاً «التداعيات» ونسأل عن حصيلة السنوات الخمس التي هدمت أركان العيش اللبناني. هدمت الثقة والإلفة والمودة والمشاركة في الهموم والتطلعات، وهدمت كل الهياكل التي تضبط إيقاع التعاون والاجتماع ومرجعياته في الأمن والعدالة وفي الإدارة والاقتصاد. توقف الزمن اللبناني كله في الخدمات والتنمية، في الإصلاح وتطوير الديموقراطية، في الحرية ومعانيها وممارستها ودخلنا في مناخ حربي لا مكان فيه إلا لغريزة البقاء وصراع الإرادات لإلغاء الآخر، وها نحن اليوم نفتح أسئلة عن مستقبل العيش معاً وعن مستقبل الدولة الواحدة وعن حدود الإمارات التي ستولد بمراسيم دموية في المدن والأحياء والمناطق غداة تطلق المحكمة الدولية النفير بإصدار قرارها الاتهامي. ومع ذلك كله نقول إن هذه مجرد أحداث ووقائع في مشهد أكبر هو مشهد الاحتلال الأميركي لهذه المنطقة.
احتلال الأرض والإرادة، وتناول أشكال الاحتلال مرّة للأرض ومرّة للإرادة. لا يوجد بلد عربي واحد يستقل اليوم بإرادته. لا يوجد بلد عربي واحد يستطيع أن يدير شؤونه الداخلية بحرية. لا يستطيع بلد أن يحسم بنفسه وراثة عرش ملكي أو اختيار خلف رئاسي بمعزل عن توجيهات السفارات وأجهزة الاستخبارات الممسوكة من طرف واحد في النظام الدولي. لا تستطيع أهم دولة عربية أن تصالح على حق تدّعيه، أو مصلحة تخصها من دون إذن إميركي.
سلسلة من الوصايات تمتد من أصغر موقع عربي إلى أعلى قمة. المحافظ والثائر، المستكين والمتخاذل، والرافض والمقاتل، كلهم ينتظمون في شبكة واحدة من الإملاءات بطرق مختلفة، إملاءات التهديد والقوة والعقوبات ومنع المساعدات وتعطيل المفاوضات ومنع التسويات وتحريك الفتن. يملي المسؤول الأميركي إرادته ورأيه في كل شيء من أمورنا ولا يستطيع حاكم عربي أن يعالج ملفاً صغيراً في دولة على حدوده تتفكّك كاليمن أو السودان، أو دولة فاشلة كالصومال، أو دولة مستقطعة لإرادات كثيرة في محيطها كلبنان. لقد صرنا شعوباً طفولية تلهو بلعبها أمام لعبة الأمم. هذا بملكه، وذاك بخليفة رئيسه، وآخر بزعيمه، ونحن أمام تحديات البقاء كمجتمعات في سلم واستقرار، بعد أن انهارت شرعيات دولنا وحكّامنا، شرعية الكيانات المرسومة على خارطة مصالح الاستعمار القديم والمرشحة لإعادة النظر على مقاس النهايات الواقعية لحجم إسرائيل وطموحها وقدرات دولتها والنظام العالمي الجديد.
صحيح أننا نحاصر إسرائيل بالنار في الشمال والجنوب وربما من مسافات أبعد، لكنها تحاصرنا في الخطوط الخلفية على حدود الطوائف والقبائل والكيانات والسلالات الحاكمة والنخب المتحكّمة والقيادات المتهالكة على الثروة وعلى السلطة وليس لقامة منها ما يظلّل بلداً صغيراً بحجم لبنان.
هذه مقومات هزيمة تاريخية شاملة فلا تغيّروا أسماء الأشياء.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى