صفحات العالم

ويكيليكس: الوثائق المسرّبة في معمعة الشبكات والفوائض

حسن شامي
الجدل الدائر حول نشر موقع ويكيليكس محفوظات ديبلوماسية أميركية لن يتوقف في الأمد المنظور. وقد يسخن هذا الجدل وينعطف بعد توقيف مؤسس الموقع جوليان أسانج في بريطانيا، ليس بسبب تسريبه ذي النكهة الفضائحية للوثــائق المتفاوتة السرية، بل على خلفية دعوى قضائية سويدية تتهمه بالاعتداء الجنسي على امرأتين تنبهتا، كما يبدو، إلى صفة الاعتداء بعد مرور وقت يفيض عن الرضّة النفسية التي يفترض أن يسببها مثل هذا الاعتداء، وإن كان الوقت لا يشفي دائماً من تغوّر الجرح النفسي، خصوصاً في السويد.
فلنترك للمتشبهين بفرويد وللخبراء النفسيين تقنية تثبيت الموازاة والتراسل بين «صورة» اغتصاب أو انتهاك جنسي لامرأتين وبين صورة أخرى راحت تتكون غداة نشر الموقع وثائق ومراسلات عن الحرب الأميركية في العراق وأفغانستان، باعتبار هذا النشر فعل اغتصاب أو انتهاك يكاد أن يكون جنسياً «لأسرار» الدولة الأعظم ومراسلات ممثلي جسمها الديبلوماسي المعروض والمكشوف والحميمي في آن. ومع أن الصورتين تقعان على مستويين متمايزين جداً الواحد عن الآخر، فإن العمل سيجري على إشهار التناظر بينهما، وربما اشتقاقهما الواحدة من الأخرى: من يعتدِ على امرأة يعتدِ على دولة، خصوصاً أن قانون هذه الدولة (أميركا) يعاقب مهرّب الوثائق وليس ناشرها. يحتاج هذا القفز من صعيد إلى آخر إلى فائض خبرة في صناعة الرأي العام والتلاعب به. الموعظة واضحة: قراصنة النشر الالكتروني من أمثال أسانج وموقعه ليسوا قديسين وإن لبسوا لباس كاشفي الغطاء ومحترفي الشفافية، بل هم أشقياء ومنحرفون. فهؤلاء، في عرف زاعمي الطهرانية، لا يتمتعون بفائض أخلاقي كي يحوزوا الصدقية التي يزعمونها. إنهم ناشرو غسيل قذر على حبال ديموقراطية الرأي والمناظرة العامين. وفعلهم يبقى أقرب إلى النميمة والوشاية منه إلى كشف المستور.
القسم الأكبر من المناظرة وردود الفعل التي أحدثها موقع ويكيليكس يدور على الفوائض. وقد باتت هذه من سمات العصر الذي نعيش فيه. فالمدافعون عن حصافة الديبلوماسية الأميركية ورصانتها، على رغم بعض الحرج الذي تسببه تقويمات القناصل والسفراء وتشخيصاتهم الانطباعية، اعتبروا أن تجرؤ قراصنة ويكيليكس على نشر ما نشروه وارتباك الإدارة الأميركية حياله إنما هما مؤشران على فائض الشفافية الذي تتمتع به الديموقراطية الأميركية بالمقارنة، بالأحرى بالتقابل، مع حجاب السماكة الثقيل الذي يسم عمل الأنظمة السلطوية والشمولية. والدليل على ذلك أن محفوظات وزارة الخارجية الأميركية، السرية منها وغير السرية، موضوعة في متناول جيش من الموظفين يراوح عددهم بين المليون والثلاثة ملايين موظف. بل حتى أن بعض المنافحين عن السياسة الأميركية عموماً رأوا أن رطانة المراسلات المنشورة لا تخرج عن المعهود في ديبلوماسية المصالح والعقود التجارية والمناورات والتحالفات للدول الكبرى، وأنّ أسانج أسدى من حيث لا يدري خدمة لصورة هذه الديبلوماسية وفشل بالتالي في تحقيق هدفه ومبتغاه إذا كان مقصوده فضح أو تعرية (في المعنى شبه الجنسي للكلمة) الامبريالية الأميركية الظالمة.
في الجهة المقابلة لأهل النفاح، صدرت تصريحات رسمية وغير رسمية في غير بلد ودولة تكاد تتفق على اعتبار نبرة المراسلات ومعظم متونها دليلاً على فائض عظمة واعتداد بالنفس مما يجيز الاستخفاف حتى بالحلفاء،. هناك بالطبع آراء كانت أكثر اعتدالاً، من بينها تلك التي اعتبرت بحق أن الشفافية المطلقة وهمٌ لأنها غير موجودة وليس لها أصلاً أن تكون موجودة في لعبة الأمم وصراع المصالح والــنفوذ. ويمــكن تعزيز هذه الحجة بالقول إن المراسلات المكشوف عنها حتى الآن ليست سوى تقارير باردة وبرقيـــات ديبلوماسية يختلط فيها تشخيص أوضــاع واستحقاقات مع انطباعات شخصية وتقديرات خاصــة ومساعٍ إلى ترجيح كفة قراءة معينة على كفة أخرى. وهذا كله من الأمور المألوفة في عالم البشر وفي تمثيلات المــصالح والاعتبارات السياسية. أضف إلى ذلك أن قسماً كبيراً من المكشوفات كان أقرب إلى الأسرار الشائعة منه إلى إماطة اللثام عن المخبّأ والمحجوب.
غني عن القول إن الاهتمام العالمي بوثائق ويكيليكس يعود إلى مكانة الولايات المتحدة وموقعها في قيادة العالم وإلى قدرتها على التحكم بمصائر بلدان ومجتمعات وتغليب توجهات محلية وإقليمية ودولية على توجهات أخرى. وقد يكون أمراً متوقعاً أن تتوظف في هذا الاهتمام نوازع شتى، بما في ذلك نازع الفضول والتلصص إذ لا يتاح للناس كل يوم أن يلجوا مغارة الدولة الأعظم في العالم. ليس النشر الاستعراضي للوثائق هو وحده ما أزعج الإدارة الأميركية، بل تعريض العنف الرمزي الذي تنطوي عليه علاقات السيطرة وتراتبيتها للمكاشفة والاهتزاز وتراجع الثقة، خصوصاً لدى السلطات والدول والشخصيات الحليفة أو التي تنسب الى نفسها صفة الحليف والشريك فيما تتبدى صورتها من أعالي المرقب الديبلوماسي أكثر هزالاً وزبائنية وذيلية.
ومن تكن هذه حاله يستحسن الاستتار بالمألوف عند أهله وإن لفظياً. فالعنف الرمزي يفترض استبطان منطق السيطرة والامتثال الطوعي لمقتضياته ولإعادة إنتاجه وذلك من طريق تقنيات «تربوية» مرهفة ومدروسة تقوم على التدجين والــترويض والتــطبيع. ويستدعي ذلك تشكل «ثقافة» ملائمة للخضوع اللاشعوري للسيطرة حتى من جانب ضحاياها. وعنــدما لا تتــوافر مثل هذه الشروط، لا في ثقافة البلد ولا في آليات عمل السلطة، نكون بالفعل أمام فائض «بهدلة». ينطبق هذا على سلطات بلدان ولا يقتصر على الدوائر العربية التي طاولها رذاذ ويكيليكس.
نحن في حقبة الفوائض. للدقة نحن في حقبة تسعى فيها الفوائض إلى التحكم بمقومات الحياة الفردية والاجتماعية. فالأزمة المالية العالمية التي عصفت ببلدان، ولا تزال، نجمت عن ادّعاء فائض القيمة المالي الاستقلال بمدار ربحي يخصه، ثم تبين أنه يعض بأسنانه على الاقتصاد الحقيقي. المحافظون الجدد في ولاية جورج بوش المديدة هم، في نهاية المطاف، حَملة فائض ايديولوجي استند للمفارقة على نهاية الايديولوجيات. القاعدة وأخواتها من السلفيات الجهادية شكلت هي الأخرى فائضاً إسلامياً يريد التحكم بجملة الهوية والتاريخ الإسلاميين. الدولة العبرية هي فائض استعماري يقتضي تطبيعه إرجاع العلاقة المضطربة والمعقدة أصلاً بين المنطقة والغرب إلى أصل استعماري مفترض يحسب كثيرون أنه انقضى. قد يكون صحيحاً أن الليبرالية تسمح بتشكل مجموعات متسلطة ومتفردة (أوليغارشية)، وأن الأمبراطورية تسمح بتشكل شبكات ومجموعات ضغط، فالتخلي الأميركي المهين عن تجميد الاستيطان لاستئناف المفاوضات يعود بالتأكيد إلى تأثير «أيباك». لا غرابة إذاً في نشوء ظاهرة ويكيليكس وصاحبها أسانج ولا في حرب العصابات الالكترونية التي يشنها مناصروه. إنها شبكة من شبكات كثيرة قادمة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى