صفحات العالم

ويكيليكس: هل تزيدنا «ويكيليكس» علماً ؟

نهلة الشهال
الفوج الأخير من أسرار ويكيليكس أثار الكثير من الضجة لأنه يشبه التلصص من شق الباب على الكبار، وإن كانوا هنا ليسوا الأهل. ليس في برقيات السفارات الأميركية إلى واشنطن ما لم نكن نعرفه إلى هذا الحد أو ذاك، يقيناً أو حدساً بلا حاجة لبراهين. وليس فيها (حتى الآن!) ما يفحم الخصوم بشكل لا رد له. ولا يتوقع أن تكون الصحف قد استبْقت الدسم إلى آخر ما ستنشر.
لكن تلك البرقيات، على ذلك، تحتوي مادة غير محدودة لممارسة «الحرتقات». وهي كشفت آراء الأميركيين في قادة العالم في شكل يقال إنه محرج ديبلوماسياً. ولكن ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد أن الزعماء السياسيين معتادون على أسوأ من ذلك، وأنهم يفترضونه. كما أن السعادة الإسرائيلية بكشف ما هو متعلق بايران ليست جديدة ولا هي بالاكتشاف. ولكنه مما لا يمكن البناء عليه، بعكس ما يظن بعض الكتاب الإسرائيليين، ومنهم من هو معني بالمسائل الاستراتيجية، ومنهم من هو نافذ الرأي.
لا يمكن ببساطة بناء «تحالف هادئ» على ما يقول الجنرال عوزي دايان، وإن بقي سرياً… إلا بالمقدار الجاري أصلاً من دون حاجة للعلم بالشيء الذي يوفره ويكيليكس.
لذا، يبقى الكشف الأهم لويكيليكس، المحفور في الذاكرة، والذي قد تترتب عليه نتائج قانونية إذا ما أتيح لأصحاب الشأن فرصة أو إمكانية الاستفادة من المعلومة، تلك الواقعة المنشورة في الدفعة السابقة من الوثائق، والمرتبطة بطائرة الهليكوبتر الاباتشي التي تلقى جنودها أمراً من قيادتهم بإطلاق النار على مجموعة من العراقيين في أحد أحياء بغداد، تبين أن بينهم مراسل رويترز، وإبادتهم عن بكرة أبيهم على رغم سعيهم للاستسلام (وقول الضابط من موقع القيادة للجنود المترددين إنه «لا يمكن الاستسلام لطائرة»!). حدث ذلك يوم 12 تموز (يوليو) 2007، وهو على ما يبدو كان حاسماً في دفع الجندي الشاب برادلي ماننغ الى الانشقاق، بادئاً بسرقة كل ما تيسر له من الوثائق المتوافرة في مركز المعلومات الذي كان يعمل فيه، ثم السعي إلى نشرها.
لكن ما الذي وصل ماننغ بجوليان أسانج، الصحافي الأسترالي الذي أسس ويكيليكس ونظَّم نشر الوثائق، ليعيش مذاك مطارداً إلى أن جرى توقيفه منذ أيام في لندن، وقد يتعرض للسجن، كما الجندي الشاب المسجون انفرادياً والذي يواجه محاكمة عسكرية وعقوبات ثقيلة.
يُتخذ من هذه الأسئلة مرتكز (من بين غيره) للقول إن القصة بمجملها مركبة، بل مشبوهة، والله وحده يعلم غاياتها الحقيقية. وهو رد فعل «طبيعي»، يتطير من مجالي السياسة والإعلام معاً، ويفترض بهما أنهما منسوجان من المكائد والمؤامرات والأسرار. ثم هو رد فعل يفترض أن كل شيء «مضبوط»، مشككاً في ظواهر تدل على عكس ذلك. وبعد نشر برقيات السفارات وما حوته من حرج، صاح بعض العرب على الأقل: «وجدتها»، ووجهوا أصابع الاتهام إلى إسرائيل، بوصفها خرجت بأقل الأضرار الممكنة من الكشف، وتدعي فوق ذلك بفرح أن الوثائق أبانت عن صحة نظرياتها. ولمرة، يلتقي الحكام ممن تناولتهم الوثائق بتقارير أو برقيات محرجة، مع «العامة» الميالين إلى الشك وافتراض التآمر!
وبصرف النظر عن هذا الجانب، كشفت الوثائق الجديدة (التي لم ينشر بعد إلا أقل من واحد في المئة منها)، عن مبلغ الفساد المرتبط، من بين دوائر أخرى، بالإدارة الأميركية التي نظمت الهيمنة والحرب على العالم، حيث، على سبيل المثال، لا يتمكن الأميركيون أبداً من معرفة مصير الأموال الطائلة التي يرسلونها إلى أفغانستان، ويبدو أن معظمها يختفي في مطار كابول نفسه، والأفظع أنهم لا يتابعون الأمر أصلاً. ويذكِّر هذا كثيراً بما جرى في العراق منذ اللحظة الأولى لاحتلاله، والإشاعات/الأخبار التي طواها الزمن عن النهب المنظم للمسؤولين الأميركيين المتربعين على عرش بغداد، والأرقام الملحق بها تسعة أصفار أحياناً التي قيل إن هذا أو ذاك منهم قد وضعها في حقائبه. وقد تعرفنا وقتها على فضائح شركة هاليبرتون مثلاً، التي تقيم أوثق الصلات مع رجالات الإدارة في واشنطن، والتي أرسلت طعاماً فاسداً للجنود الأميركيين أنفسهم، مما لم يستدع محاسبة جدية لها. وقد ساهم كل ذلك في «شرعنة» النهب وفي إسباغ طابع مافياوي فج على القيادة الأميركية حينها.
لكن المسألة المركزية تقع حقاً في مكان آخر، في ما تغير في هذا العالم بفعل الاختراعات التكنولوجية. وهذه واقعة فاعلة على مر العصور، منذ وُجد الإنسان وحقق اكتشافاته الكبرى، من النار إلى العجلة… فلمَ سيكون الأمر مختلفاً هذه المرة؟ وما هي تداعيات تخزين مادة هائلة – كائنة ما كانت – في مفتاح متوافر للعامة لا يتجاوز حجمه بضعة سنتمترات، بينما الأكثر خبرة يحوزون على شريحة متناهية الصغر؟ وما هي نتائج انتشار الكومبيوتر والتواصل الإلكتروني بحيث يمكن نقل كل شيء إلى كل مكان بثوانٍ، ولا يحتاج الأمر إلى كبير اختصاص ولا إلى وسائل معقدة أو محتكَرة سلطوياً. وكيف لا يغيِّر العالم ما بات ممكناً، كالاستماع إلى محادثات تدور في غرف مغلقة من دون الحاجة إلى زرع أقراص ناقلة تحت الطاولة، أو تخزين أسلحة شديدة الدمار في عبوات صغيرة الحجم وسهلة النقل، لم تعد، نظرياً على الأقل، حكراً على خزائن الحكام… وعلى هذا المنوال، تثير هذه المعدات الجديدة أسئلة حول تأثيرها على العلاقات في العالم بقدر ما تثير أسئلة حول تعريف الإعلام، وهو موضع ثورة فعلية.
ويشبه التغيير في مجال تقنيات الاتصال، ذاك التغيير الآخر في العلاقات الاقتصادية مع ما يقال له باقتضاب «العولمة»، التي لا يمكن الإعلان عن تفاصيلها، وفي الوقت نفسه الاستمرار في افتراض أن التشابك الذي تحمله هو بلا نتائج على صعيد مفاهيم وتعريفات كسيادة الدولة، وتشكُّل توازن القوى، والطبيعة غير المسبوقة المتحكمة بدوافع وأشكال الصراع في العالم، إلى آخر هذه المسائل.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى