صفحات مختارة

مفهوم الاستلاب العقلي، الفكري والثقافي: رؤيا في نهج الاستلاب

null


عماد يوسف

يمكن تعريف الاستلاب بأنه وقوع الكائن العاقل، الذي يمتلك حيزاً من التفكير العادي، والمتفاعل مع محيطه بالضرورة، في موقع الأسر الكلّي، وشبه المطلق، لفكــرة ما، أو لمقدرة أكثر تأثيراً من مثيلاتها، بحيث تكون اللولب الجوهري الذي تدور في فلكه كلّ المسمّيات الأخرى، وبحيث تكون هذه المقدرة بمثابة الرأس الموجه، والذي يطلق العنان لأنفاسه التي تتلقفها ذوات أخرى ليست بنفس السوّية الفكرية، ولكنها بالضرورة متأثرة بما تتلقفه من المحيط الذي وقعت في أسره من كل الجوانب .

والاستلاب أنواع كثيرة، تتباين و تتناغم بحسب الشرط الوظيفي والموضوعي لتلك الذات المستلبة، فالاستلاب العقلي، يقود بالضرورة إلى الاستلاب الفكري والثقافي، وبالتالي يفرض نهجه على تلك السلوكيات، والطبائع المرتبطة بتلك الذات المستلبة على كل المستويات، الاجتماعية، النفسية، الفكرية، الثقافية، والحياتية اليومية ! وتنتفي هنا بالضرورة المطلقة ؛ مقولة ديكارت الشهيرة ” أنا أفكر، إذا أنا موجود ” ( Je pense, Donc je suis )، ويمكن اختزال كل قضايا الاستلاب ومؤثراته السلبية في هذه المقولة غير المكوّنة، عند الكائن المستلب ! وذلك لأنه من شروط وجود الكائن العقلاني، الذي يمتلك الذات الحرّة، المستقلة، هو التفكير، وإنه من شروط الاستلاب الأساسية هو منع التفكير ” الموضوعي، العقلاني، البنّاء، والخلاّق ” لدى هذا العقل أو ذاك ” .

لقد شهد التاريخ الإنساني، على مرّ العصور صوراً لاستلابات فكرية، عملت كالسيف القاطع في حياة الكثير من مجتمعات العالم وأممه، وغيرت مسارها التاريخي، والاقتصادي والسياسي . وربما تكون من المغالطات الفكرية الكبيرة، أن يدّعي البعض بأن أنواع الاستلاب ليست كلها سلبية بالضرورة، لا بل هم يغالون في طروحاتهم، ليثبتوا بأن الاستلاب الفكري قد يكون بناءً، ومن هنا يعملون على إلغاء كل ما يخالف طروحاتهم، ويوجهون الناس والمجموعات الإنسانية التي تقع تحت سيطرتهم، باتجاه هذه الفكرة ؟! وهذا الطرح طبعا،ً هو بحد ذاته نوع من الاستلاب، حين تعمل على فكرة واحدة، وتدّعي بأن المجتمع لايحتاج غيرها، ولايجب السماح لغيرها بالوجود، أو الانبثاق، أو حتى التبلور، فهذا يكون أحد أهم الأسس التي يبنى عليها الاستلاب، وتحديداً العقلي منه، وبالتالي تسير الناس موجهة، غير مخيّرة، مستلبة، ومأخوذة إلى احتمالات الخير والشر على حد سواء، وفي كثير من الحالات تكون الأثمان على المستوى الفردي والجماعي باهظة كثيراً، تتجاوز ربما مقدرات مجتمع ما أو فرد ما على تحملها، أو الخروج منها معافى .

من المؤكد أن الإستلاب يسيطر بالغالب على العقول ذات المستويات الثقافية والفكرية المحدودة، وتلك تكون بالغالب غير محصّنة أمام أي اختراق يطغى على قدرتها العقلية في التفكير. وهي بعيدة كل البعد عن الجدل في محاكماتها العقلية، و يلاحظ هذا الجانب ليس في منطق الاستلاب فحسب، بل في حياتنا اليومية أيضا، كمثل أخبار أحداث الهلع، والكوارث، عندما تنتشر بين العّامة، فتهرع غالبية الناس من الفزع، وقليلون هم من يبقون ليتبينوا الأمر، مع حفاظهم على مسافة جيدة من الأمان لحياتهم، لأنهم يعون أن هول الضرر المشاع خارج عن اطار المعقول، وبالتالي يعمل عقلهم الجدلي على تصور بأن ما يشاع، هو أبعد بكثير من تخوم المعقول، وهذا نمط من التفكير الجدلي، لا يتحلى به الكثيرون، ومن هنا تأتي السيطرة الفطرية على الأذهان المصابة بالتسطح الفكري والثقافي سهلة، وسلسة، بل وحتى أخّاذة في بريقها الذي لا يقاوم عند الكثيرين، ولذلك تتبنى تلك الذات مشروع الأسر الفكري المستلب، راضية، مرضية، دون أن تعي الحجم الحقيقي لللاستلاب الذي تقع في أتونه، بل على العكس تماماً، هي تتبنى أيضاً بالإضافة إلى منطق الاستلاب، تتبنى أدوات الدفاع عن فكرها، وتذود عنه بشراسة المؤمن بفكرة معينة لا يمكن أن يحيد عنها!!؟

إذاً، يمكن العودة إلى تعريف الاستلاب على أنه سيطرة فكر ما ، أو مجموعة أفكار على البنى العقلية والنهج الفكري لإنسان بذاته، أو لمجتمع بعينه، أو لشعوب بكاملها، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تحول هذا الفكر المسيطر على المقدرات العقلية( المفكّرة ) لهذا الكائن أو المجتمع، أو الشعوب، إلى سلطة مطلقة لا يمكن دحضها، أو مواجهتها.

1- ما هي الشروط الموضوعية التي تسهل عمل الاستلاب العقلي والفكري ؟!

من المؤكد كما أسلفنا سابقاً بأنه من الصعب على العقول المفكّرة، المتنورة، والتي تمتلك حداً من الثقافة لابأس بها، أن تقع في الأسر لجهة منطق الاستلاب، ولكن ، هناك في التاريخ أمثلة كثيرة على بعض المثقفين الكبار الذين ساروا مستلبين لفكرة بذاتها، فسقراط كان أسير المعرفة التي نهل منها، وجاء افلاطون وأرسطو وغيرهم من بعده، ليبقوا واقعين في أسر الفكر الفلسفي المعرفي الذي أطلقه معلمهم الأول ! فهل يمكن أن يسمى هذا استلاباً!؟

يمكن التمييز الدقيق هنا بين نوعين من منطق الاستلاب، وهما الاستلاب الأعمى، بغض النظر عما يمكن أن يكون عليه هذا الاستلاب ! والثاني؛ هو الاستلاب العقلاني المنطقي، الذي يبنى على محاكمات عقلية كافية لدى تلك الذات المفكرة، وتنساق بمنطق الاستلاب هذا إلى دوافعها الذاتية والجماعية، بمنطق الوعي الذي يمتلك الحجّة والبرهان على الرغبة في الوقوع في أسر واستلاب تلك الفكرة، أو النظرية ؟ ولذلك نجد أن تلاميذ سقراط ، قد تبعوه صحيح ولكنهم اجتهدوا من بعده، وكذا ما حصل مع النبي محمد، عندما تبعه الكثير من قومه، واجتهدوا من بعده، وهذا ما حصل في الفكر التنويري الأوروبي، مع نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، حيث كان هناك الكثير من حجم الفراغ العقلي لدى البشر، فأتت النظريات، والدراسات، والبحوث، وغيرها لتغير طبائع البشر وسلوكياتها، حياتها اليومية بكل تفاصيلها، وكان من أهم رواد هذا التغيير في زمن لاحق عبقري الاقتصاد الألماني ماركس، وقبله هيغل، وبعده غرامشي وغيرهم من أصحاب الفكر الاشتراكي العالمي، ومن ثم جاء تلامذتهم من مفكرين انتشروا في جميع أنحاء أوروبا، ليأتي بعد ذلك لينين ويتوّ ج هذا الفكر الذي سلب عقول ملايين البشر في جميع أنحاء العالم، بثورته المعروفة في أكتوبر من العام 1917 . فتعمل هذه الثورة التي قامت في بقعة جغرافية محددة من العالم على استلاب عقول مئات الملايين من البشر في جميع الأنحاء، ثم لتنتصر في العديد من دول أوروبا والعالم، ومن ثم تغير وجه التاريخ البشري لعشرات السنين القادمة !!

السؤال المطروح هنا هو؛ هل كان لينين مستلباً لهذا الفكر الماركسي؟! والجواب هو لا ؟!! وهنا يجب على المرء بتصوري أن يميز بين نوعين من الاستلاب كما سلف وذكرنا سابقاً، لقد كان لينين أحد المؤسسين، والداعمين، للفكر الاشتراكي، وهو بداية، وقع في الأسر من فكر ماركس، ثم عمل على تبنّيه بقناعة عظيمة وإيمان لا يتزحزح، ولكن الأهم ، أن لينين عمل على الاجتهاد في الفكر الماركسي، حتى أنه وصل إلى تأسيس منهج خاص به، استقاه من روح الماركسية نفسها، وأطلق عليها إسم ” الماركسية اللينينية “!

إن الفرق بين الاستلاب بمفهومه الواعي، والاستلاب بمفهومه اللاواعي، هو أن أحدهم يتبع الآخر، فالمستلب بعقله الواعي ” ومثالنا كان لينين” ، هو الذي يتبعه الناس في النهاية، ويقعون في موقع الأسر من فكره، ونظريته، ونهجه، وعقله، وشخصه، وينطبق هذا على الرسل، والقادة السياسيين، ومفكري التاريخ الكبار، كمثل، زرادشت، بوذا، طاغور، كونفوشيوس، وادولف هتلر كسياسي، وابراهام لنكولن كرجل دولة وزعيم تاريخي لأمة، والمتنبي كشاعر، وفولتير كمفكر، ونيتشة كفيلسوف، وجمال عبد الناصر كقائد ثورة وصاحب نظرية، وكيم ايل سونغ كزعيم سياسي، وغيرهم الكثيرين زعماء الصف الأول في التاريخ الإنساني، والذين جعلوا الناس مستلبين أمام قدراتهم العقلية، والفذّة في جميع مستوياتها .

2- أين مجتمعاتنا العربية من مفهوم الاستلاب ؟

سبق التذكير بأن أحد أهم شروط الاستلاب ، وتحديداً الفكري منه، هوالتسطح والتهميش العقلي الذي يعيشه كائن ما، أو مجتمع ما، بحيث أنه يفقد حصانته أمام الغزو الثقافي والفكري القادم من البعيد، أو القريب على حد سواء، ومن المفترض أن تبنى المجتمعات على التنوع، والغنى الثقافيين، فهما الطريق الأكثر إدراكاً لمنطق النهج العقلاني الجدلي، والذي يتمتع به غالبية سكان الدول الراقية، فاليوم ليس من السهولة بمكان، اختراق المجتمع الفرنسي مثلاً، بأفكار دينية رجعية، أو بنظرية فلسفية غير مترابطة في المنطق والحجّة، وكذلك الأمر بالنسبة للفرد، فإنه من الصعوبة بمكان أن تحاول أن تسيطر على العقل الإنساني الأوروبي اليوم، لماذا ؟ لأنه ببساطة بنيَّ على المنطق الجدلي الذي تفتقده كل المجتمعات المتخلفة بما فيها العربية ! ويعود هذا لسببين رئيسيين: أولهما؛ هو فقدان هذه المجتمعات لمشروعها الحضاري والإنساني. وثانيهما؛ هو انعدام العقل الجدلي المفكّر، الخّلاق، وسيطرة العقل الغيبي، المستلب، المظلم على نمط تفكير الناس وسلوكياتها، ورؤيتها الحياتية والروحية .

من هنا، نجد نجاح المشاريع الإسلامية المتطرّفة، القائمة على إلغاء الآخر المتناقض معها، أو تطويعه وأسره ضمن منطق استلابي مرّوع، فمع غياب التنوير الفكري الحقيقي، وغياب ثقافة الجدل العقلاني السليم، وآلية التفكير الحرّة للبشر، نجد أن أي مشروع ثقافي يطرح نفسه بديلاً، سيجد بالتأكيد الأرض الخصبة لنموه، وتطوره، وايقاع الناس في أتونه .

3- النظم النيو ليبرالية الحديثة، واستلابات العولمة :

لم يعد خافياً على أحد، نمط الآليات المعاصرة التي تطرحها نظم العولمة اليوم، فغزوها الاقتصادي لم يقتصر على حركة، وحرية عبور وتبادل التجارة الحرّة، ورؤوس الأموال المحلية والعالمية، بل تجاوزتها أبعد من ذلك بكثير، حيث رأى مفكرو العولمة، بأن هذا النظام المعاصر حتى يستمر، يجب أن يتزامن بالضرورة مع السيطرة العقلية و الفكرية والثقافية على حياة الشعوب، وأدائهم في كل المستويات، حتى يبقوا مستلبين وتابعين لهذه النظم، حيث يعملون من غير وعي على ضمان استمرارية هذه النظم وديمومتها !

من هنا، يمكن فهم سهولة الغزو، وسيطرة الفكر الاستهلاكي، العولمي المعاصر، على الشريحة الأكبر من شعوب المنطقة العربية قاطبة، فمع غياب المشاريع الفكرية الكبرى، من المشروع القومي، إلى الإسلامي التنويري، والليبرالي، والاشتراكي، بل وحتى المشروع الوطني لم يكتب له النورفي معظم المنطقة العربية، ولذلك جاءت الأجيال العربية المعاصرة، وتحديداً ما بعد حقبة السبعينيات والثمانينيات، ومن ثم ما بعد انهيار المعسكر الاشتركي، حيث اختفى الفكر اليساري الذي يحمل بعضاً من التوازن الإنساني على مستوى الخليقة، فمع غياب هذه المشاريع ذهب العقل العربي إلى مرحلة خطيرة من التسطح العقلي، والفراغ الفكري العميق، الذي بات عاجزاً عن الوقوف في وجه التحديات المعاصرة، وخاصة على المستوى الفكري، ومن هنا يأتي مفهوم الاستلاب بمعانيه الكثيرة ليسيطر على عقل الكائن الإنساني عامة، ومنه ما يصيب المجتمعات العربية من استلاب لنظم ثقافية ونمط حياة استهلاكية معاصرة، تندرج تحت إسم النظام العالمي الجديد!

4- ما هو السبيل إلى تحرير العقل البشري عموماً، والعربي خصوصاً من مفهوم الاستلاب ؟

إن من أهم قضايا تحرير العقل البشري من الاستلاب، هو خلق حالة من التوازن الثقافي في مكوّنات هذا العقل، يتأتى هذا من التربية الصحيحة والسليمة، كما يحصل في المجتمعات الراقية، من الدول الاسكندنافية، والأوربية واليابانية، وغيرهامن البلدان، حيث سبق وأسلفنا، بأن عقل البشر في تلك المجتمعات عصيّ على التأثير، ونضرب هنا مثالاً، عندما رفض غالبية الأوربيين الدستور الأوروبي الموّحد، فقد أخذ هذا القرار بالنيابة عن زعمائه السياسيين، ولم تكن الشعوب الأوربية مستلبة في هذا الصدد، برغم موافقتهم على الاتحاد الاقتصادي والسياسي وغيره، فهم يتمتعون بعقول نيّرة، وصاحبة حجّة، ذاتية التفكير، ومتمكنة من أدواتها الجدلية والعقلانية، فالثقافة هي منبع الفكر الحرّ والحقيقي، والذي يستطيع التمييز بين الصح والخطأ، وبين الحق والباطل، وبين الممكن وغير الممكن، وبين المنطق، واللامنطق . فأين نحن كشعوب من هذا المنطق، وهل يسمح الزمن بأن نعود أدراجنا إلى الوراء قليلاً، لنتمكن من قراءة ثقافتنا وفكرنا البنّاء بعقلانية وتنوّر، بعيدين عن منطق الاستلاب ونهجه القاتل، أم أن الزمن قد ولّى على هذا الحلم البسيط، إنه سؤال برسم الإجابة، ممن اهتدى إلى عقله سبيلا ؟؟!

* – كاتب سوري

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى