صفحات ثقافية

تنصيب سعيد عقل

null
عباس بيضون
سعيد عقل يرفع الستار عن تمثال سعيد عقل، ليس أليق من هذه العبارة بسعيد عقل، سعيد عقل ينصّب نفسه. هذا ما كان الرجل يضمره في أحاديثه وهو الآن ينفذه بالحرف. سعيد عقل يرفع الستار عن تمثال سعيد عقل بحضور سعيد عقل وبرعاية سعيد عقل كلي الطوبى كلي الحضور، انه سحر الرجل لكن الشاعر الذي ظل يقرأ نفسه وينقدها ويقدمها بدون حرج لم يلعب في الشعر إلا بمقدار. لقد وفر ألاعيبه للسياسة بالدرجة الأولى، تصنيم لبنان ونزع العربية عنه لغة وسياسة وتاريخاً.
يمكن القول عن سعيد عقل انه يميني محافظ في كل شيء. في السياسة هو وطني متعصب اما في الشعر فهو ينيط بالشعر الوظيفة التي طالما أنيطت به: خدمة الأخلاق وتجميل العالم، ويجعل القسمة بين شعر ونثر خالصة ونهايته فثمة ألفاظ للشعر واخرى للنثر. وثمة موضوعات للشعر واخرى للنثر في كل ما يقوله سعيد عقل عن الأدب وسواه لا نعثر إلا على اليمينية والمحافظة. لكنه مع ذلك كان المجدّد الاول في الشعر بل انه طبع بشعره مرحلة انتقال كاملة في الأدب العربي الحديث. وتفرّد بين أقرانه أثراً ونظرية بهذا الدور بل انه اضطلع بجزء هام من السجال العربي حول الشعر. ويمكن القول انه مهّد على نحو ما للقصيدة الحديثة التي لولا اختباراته لم تجد طريقاً الى الظهور. وإذ لم يكن الوحيد بين رواد التجديد آنذاك ولم يكن المنظر الأوحد ولا الثائر الفرد فهو من هذه الناحية لا يقارن بجبران والمهجريين إلا انه سلك الطريق الأصعب. لم يتجه سعيد عقل الى التبسيط في الشعر ورده الى الغناء البحت كما فعل المهجريون، ورغم سعيه الى نزع العربية لم يثر على اللغة العربية وهو يزاولها. نعم دعا الى العامية لكن عربيته بقيت مع ذلك كلاسيكية ناصعة، في عربيته بقي سعيد عقل كلاسيكيا بل ربما لا نجد مصداقا للفظ الكلاسيكية كما نجده في إنطباقه عليه. ها هو سعيد عقل مترصن بل محافظ حتى في تجديده، لم يتجه الى تغيير وجهة الغناء في القصيدة العربية ولا الى تغيير الغناء نفسه. لم يتجه بالغناء الى ان يكون أكثر مسايرة لزمنه او لعصره، ولا ان يكون أكثر مسايرة للمتعلمين الجدد والجمهور الذي حصل من ديموقراطية التعليم. لم يكن لتجديد سعيد عقل عنوان كبير، لذا يبدو الآن ان هذا التجديد لم يكن مقصوداً لذاته. إذ انه لم يكن أساساً برسم التجديد ولا تقصداً له، فالرجل الذي غلبت المحافظة على طبعه لم يكن من هؤلاء الذين يغويهم التجديد او يجتذبهم. لقد كان أميناً للعمود الأخلاقي الموروث والعمود اللاهوتي والعمود اللغوي. إذا كان سعيد عقل دعا للعامية فهذه دعوة غلبت عليها السياسة والسياسة البحت، ولم يأخذها صاحبها بالجد الذي يجعله يتدرج إليها او يجد مرحلة وسطى بينها وبين العربية الفصحى كما فعل يوسف الخال على سبيل المثال. لقد اقترح الحرف اللاتيني واللغة اللبنانية، كما سماها، بمقاصد ايديولوجيا بحتة. ظل في عربيته محافظاً وكلاسيكيا. لكن أي محافظة وأي كلاسيكية. هنا نجد التجديد الداخلي لسعيد عقل، التجديد الذي لا يتمرد ولا يحارب لكنه يضع أسساً. التجديد الذي يعمّر ويبني ويخلّص من السيولة والرخاوة والتبسيط.
فسعيد عقل في اللغة العربية يعمل على الإيقاع. بوسعنا القول ان سعيد عقل نحات أكثر مما هو نساج او مغن او راقص. ان إيقاعاته واضحة وثابتة ومفصلة لذا يبدو البيت الشعري عند سعيد عقل كما هو النحت اقتصاد وتفريغ وتجسيد ومعمار. الشعر موسيقى كما نعلم لكن شعر سعيد عقل جدد هنا بالذات في الموسيقى الشعرية. لقد نقل الموسيقى من الفولكلور، من الترجيع والسيولة الى المعمار. ربما هنا نجد ظلا للشعر الفرنسي او نجد جسراً بين اللغتين: العربية والفرنسية. سيكون سعيد عقل في هذا الباب كلاسيكيا. انه وراث الكنز الموسيقي لكنه يعمل على تفصيله واختصاره وتشكيله.
أمر آخر نستنتج منه هذه الكلاسيكية انه العمل على القاموس الشعري. ربما كان سعيد عقل اول الشعراء العرب الذين نجد لهم قاموساً خاصاً. قاموساً هو نوع من الاختصار اللغوي الى درجته القصوى. إذا راجعنا شعر سعيد عقل ومراجعته تقتضي فرزاً داخل القصائد. (فرزا يستبعد، في حدود، شعر المناسبات)، سنجد ان هذا الشعر يضغط اللغة الى حد نهائي. قاموس سعيد عقل كما هو القاموس الراسيني ضيق ومحدود. هذا ما يساعد مرة ثانية على تصوّر النحت السعيد عقلي. انه بمادة مختصرة من الألفاظ والإيقاعات يتيح للألفاظ والإيقاعات نتؤاً وتشكيلاً ما كان ليظهرا على هذا النحو إذا تحكمت السيولة بالبيت الشعري وصار للألفاظ والإيقاعات تواليات وترجيعات بلا تفاصيل وبلا حدود.
هنا نفهم جزئياً التجديد السعيد عقلي. لم يكن لهذا التجديد كليشيه مصاحبة ولا دعوة ايديولوجية، بخلاف تجديداته المزعومة في اللغة والحرف. كان محل هذا التجديد هو المحافظة نفسها. كان محافظا بحد ذاته. وقابلاً بهذا المعنى، لأن يغدو كلاسيكيا. الفرز اللغوي والإيقاعي قد يصلان الى هذه الخلاصة. هكذا نفهم ان سعيد عقل قد يكون، بدون مواربة، كلاسيكينا الأول. لقد حدد سعيد عقل الجمال، ووصله كالقدامى اليونان بالأخلاق، وجد الشعر وفرزه من النثر، لقد كان مجدداً، لكن حيث لا يطلب التجديد ولا يسمع صوته، هذا التجديد الذي بلا اسم وعنوان معروفين، قد يكون مهماً، وقد يكون الأهم، ومن نظرة سريعة على حاضر الشعر، يبدو ان الحركة الحديثة في الشعر مدينة لسعيد عقل. ولن نقول مجدداً، انها خرجت من جيبه.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى