صفحات ثقافية

في المكتبة ذات الباب الزجاج

null

علي جازو

فتحتِ الآنسة فاتي بابَ المكتبة الزجاجي، فارتعشتْ ـ دون سبب واضح ـ رموشُها القصيرة؛ وهي رموش ناعمة تحتفي ظلالُها بتلوّنٍ سمائيّ داكن! كان ضوءٌ خافتٌ شبْهَ عتمة روحية مرحة يغطي بعض رفوف الكتب حيث ينام ويصحو مؤلفوها، ترافقهم آثارُ كلماتهم الممنوحة كإشفاقٍ جريح، كذكرى نحتت قسماتِ بؤسِ وجوههم الفانية! جذْعُ الآنسة فاتي ـ دون إغفال بهاء حوضها ـ مغطى بتنورة زيتية ذات ملمس خشن، وقدماها حتى مقدمة ركبتيها الخفيفتين، تنعمان بحذاء جلدي أسود. كان أثر تنورتها اللوني كأثر جزّةِ عشبٍ طرية بين أسنان بقرة ضخمة! أما يداها، عدا صوتها المبحوح، فدقيقتان طريتان، وهما الآن مشغولتان، بعد أن أراحت مفاتيحها الخمسة على طاولة خشبية صفراء نظيفة، بالمجموعة الفضية مما تبقى من أعمال الشيخ سيد درويش؛ الأعمال التي كان الفضل لفرنسا الثقافية في الحفاظ عليها! بعيد الظهيرة تصغي الآنسة فاتي الرقيقة، إذ تخف الطلبات على القراءة، إلى جمال تشايكوفسكي النائم، وهو بحق من أعذب ما تركه الرجل! كنتُ قد أهديتها قبل سنتين قطعاً من رقصات شوبيرت؛ شوبرت الذي لحن ثمانين قصيدة غنائية لغوته، وهي قصائد من النوع الذي يسمى لمىٌ (كلمة ألمانية؛ بها سميت أغانٍ معبأة بالعاطفة، قصيرة، ومشحونة بأحاسيس حميمة). كنزة الآنسة فاتي من الصوف، خضراء بلون تفاحة نضرة، وعلى كتفيها تماثلَ وارتخى شالٌ رمادي طويل. هنا تحضر رغم المتاعب ورتابة الأعمال اليومية حياةٌ صغيرة دافئة! بدا مدخل صالة المكتبة كأنه يتلقى بحبور وبطء ضوء صباح جديد. ابتسمت بائعة الكتب في رقة واهنة، فارتسم زهرٌ ضئيل أسفل خدَّين بارزين. أضاءتِ كامل المكتبة بضوء مائل إلى الحمرة قليلاً فتغيرت ألوان أغلفة الكتب وانتعشت أرجاء الرفوف المعتمة. من يحبُّ العمل المرهف لآلة العين فيمكنه تأمل تلك اللحظات كلوحة مدهشة! بعد حين أخذ قدَحَا عصير البرتقال ينحتان العوَزَ والحنين صامتَيْن .. صامتَيْن! فقالت الآنسة فاتي لضيفها شبه الدائم ­ وسيكون صديقها الأحب بعد أيام قليلة ـ : لقدْ تركْتُ كلَّ شيء على حاله. أليس كذلك؟ هذا أفضل، فمع مرور الوقت تغدو الألفة عميقة وزاخرة بهدوء شديد. أنا مفتونة بالضوء، بضوء الصباح خاصة! لكن جليسها، وهو شاب مريض، قال في نفسه: لقد عدتُ لأموت. لم يتحرك أحد من مكانه. أضافتْ: لا تزال الصورة، صورة عازف الكمان المشهور، لقد نسيت اسمه، ما اسمه؟ مطلة من الزاوية حيث علقتها أنت بنفسك. إنها هناك تمكث بلا ثقل. لقد كنتَ شغوفاً بعزفه قبل التحاقك بخدمة العلم . أما تزال تحب عزفه؟ أين يعيش عازفُكَ هذا ..؟ لكن صديقها بالكاد التفت إلى أسئلتها، بالكاد تحوّلت نظراته التي بدت فقيرة منهكة! كان يعاني من برْدٍ دائم. برْدٌ في العظام حلّ به أثناء خدمة الجيش . كذلك كان جسمه يزداد نحولاً وضعفاً فيما سُتْرَةُ جمجمته ـ الشيء الذي ندعوه الرأس عادة ـ مغزُوَّةٌ بضخامة نافرة، صلعاء إن لم نقل قبيحة! ما الذي كان يعزف، أي الألحان كنتَ تحبُّ؟؟ سألتْهُ بلطفٍ شديد! لو علم بمدى تعلقك به لكان سيعزف ربما، وفاءً لحبك، مقاطع من نشيدنا الوطني؟ أردفَتْ بعد صمت قصير: ألا تحب الإصغاء إلى النشيد الوطني على كمانه؟؟ “كان سيعزف لحنَ صباي، لحن الأبدية السوداء، لحن الدلال المقيت، والوحدة، لحنَ الخوف كان سيعزف، لحنَ الأسى والخيبة والجوع وخمول العقائد المشين”. قال جليسها الصامت، وأكملت الأضواء المنعكسة بامتزاجها السائل على زجاج كوبَي العصير فوحَها المختلط ! لكنَّ الآنسة فاتي عادت واستأنفت أسئلتها: ” ألا تشعر بالحنين إلى طفولتك؟” فنظرتُ إليها بدهشة وفتور: حنين! يا لها من كلمة رثّةٍ! إنكِ تذكرينني بأكاذيب عامة يأنف معظم البشر من التفكير بما فعلتْهُ بأيامهم. الطفولة أو صبايَ الباكرُ… لقد فكرتُ مطولاً بتلك الأيام الجوفاء، فكرت بها وخلْتُني أهرَمُ فجأة، أشيخ من فرط الخشية والكآبة. كنتُ كمن يحلم بالنفاذ عبر حقل من الألغام إلى قمة جبل آمنة؛ هناك حيث يصير المرء وحيداً صافياً فقيراً بلا دنَسِ التسوّل وحمْقِ الرجاء، عبداً حرّاً للثلج والريح. كنتُ أحسبني ملكاً على الدوام. لم أحسب أي حساب لمرور الزمن، لأنني ببساطتي وعسْفي الساذجين عشتُ صباي وشبابي خارج الزمن. وهو شباب هالكٌ على كل حال! أنا لا أعرف ما يفعل مرور الزمن بأرض البشر. لا شكَّ أنه يزيدهم ضِعةً وهواناً! حسبي مرضي ونحولي، عزلتي وخيبتي ولارجائي من كل شيء! لكنني أعترف بحبي الغريب لغرف الإيمان القاتلة الكذابة، تلك الغرف المشغولة بالطين والتبن اليابسين كقمر من فجر صيفي لاهب. أحببتُ نوافذها الصغيرة الضيقة والعتبات التي من تراب صلد نائم. لكنني أحبُّ صوتكِ الآن، أحب المكوث طويلاً قربكِ بلا أية رغبة في أي شأن، أحب أصابعكِ وفمكِ وصدركِ وحوضكِ! كم أحب لو عانقتُكِ من خلفكِ، وألصقتُ فمي بقذالكِ!! ندَّتْ عن الآنسة فاتي حركةٌ أسقطت كوبها تاركة على سجاد الأرضية البني بزهوره البيضاء الكبيرة بقعةً من العصير لزجة وموحشة. على الطاولة نتف زجاج مكسور . لكن فاتي الحيوية أسرعتْ تجفف البلل وترفع الزجاج وتفرك البقعة بمناديل زرقاء ناصعة، ثم على الفور عادت إلى هيئتها الأولى! فتابع جليسها المريض: أحبُّ صوتكِ مثلما أتضور ألماً من غيابكِ! أحب الشوارع ضيقة قصيرة آن أغذ فيها الخطى حتى أراكِ. إنها لشوارع خالية من الضجيج، ظليلة ومثل شبح أعمى تطوف حولي حتى تصل شوقي بمراتب السُّحب. نظرتْ الآنسة، وابتهاجةٌ خجلٍ تزيلُ شحوبها، إلى قدح ضيفها البائس، ثم قالت كمن اكتشفت فجأة أمراً مهماً: يبدو أنكَ تربَّيْتَ على الورع والتقوى؟ ثمة في صوتك و بين كلماتك نهمٌ غريبٌ إلى الخير. أحسستُ، حتى إذا رأيتُ إحساسي محض وهمٍ عابر، أن لا أحد يمكنه إثارة أو زعزعة هذين الكوبين المنعشين. لقد تكاثفت حيرتي في ملمس ولون ماء البرتقال؛ حدَّ تنقُّلِ ألمي خارج نفسي مثلما أنظر الآن في وجه الآنسة التي لا يمكن عزل جسمها الحديث عن ثبات وهشاشة آرائها السطحية..! كوبان صامتان في سكون مدهش. آه! قلتُ لي: من قادرٌ الجزْمَ أن الجماد لا يشفق على أحد؟ يا لتعاستي،الحقَّ، يا لي من سقيم تعِسٍ!! أنا الذي في قلبي؛ لا أحد ولا حتى أنا، يجرؤ على لمسي! لكنه أجابها: أريد أن أحدثكِ قليلاً عن الشعر، عن شاعر محدد. إنه كافافيس. قسطنطين بيتروس كافافيس، شاعر يوناني، مات بالإسكندرية عام 1933 من التاسع والعشرين في أوان نيسان الورود تهفّ على أسيجة واطئة. أرجو أن تقبلي مني قراءة إحدى قصائده الآن. لم ينتظر تلبيَتَها، فقد بدأ القراءة بصوت المرض الذي ينهش ذرات حياته واحدة تلو أخرى: (لنتحاشَ العجلةَ، فالعجلة أمرٌ خطير، والقرارات السابقة لأوانها تجلب الندم. وبلا شكٍّ ـ للأسف ـ ثمة أمور كثيرة في الولاية لا يقبلها العقل. ولكنْ هل هناك ما هو إنسانيٌّ ومعصوم عن الخطأ). ومن فرط تحمسه وتسرعه نسي أن يعقب القراءة أو يسبقها بعنوان القصيدة القصيرة: (في ولاية يونانية كبيرة 200 ق.م) .غيْرَ نسيان العنوان، أضاف قصيدة أخرى للشاعر نفسه: (على مقربة من يمينك ، عند دخول دار الكتب في بيروت، وارينا جثمان اللغوي الحكيم ليسياس. وكان مكاناً مناسباً هذا الذي اخترناه لقبره. أرقدناه بجوار الأشياء التي تعلق قلبه بها، وربما سوف يظل يذكرها هناك حيثما هو ـ نصوص، ومخطوطات، وصيغ، وحواش ـ كلها في مجلدات ، دبجت بلغة يونانية رفيعة ومتقنة. كما سوف نرى من هناك قبره، ويتلقى آيات التبجيل منا، ونحن في طريقنا إلى الكتب) . أما الآنسة فاتي فلم تعجبها القصيدة الأولى، ولا الثانية. كانت تعتقد أنهما عن زمن قديم قديم، وأن العودة من الحاضر، مما يُرَى ويجري الآن، إلى شؤون مدنٍ طواها النسيان، لهي فكرة ضالة، وما ينبغي عليها الاكتراث بكلمات تجلب التيه . بعد ذلك عدتُ إلى الشأن الحساس، شأن الورع والتقوى العامرَيْن، وأكملتُ الحديث كما يلي بابتسامة عريضة غمرت جبيني بتغضّناته البارزة: ( ماذا يعني لكِ الورع والتقوى؟ أبوسعكِ الآن تمضية حياتكِ كما ترغبين، حقاً، مثلاً، كما تختارين حليكِ المزيفة وأساوركِ الخشخاش وملابس الليل الخفيفة؟ ربما يدفعكِ الورع إلى الموت! أو التفكير بالراحة المخدَّرة التي تجلبها أغان روحية، وأضواء حقيقة ـ حقيقية كاليأس من أحقيتها وصوابها ـ لا تترك حتى الشمس بلا غاية معينة، بلا هدف هو الإذعان والكرب، الألم والتطهر! أما من روح أخرى بين شفتيكِ عدا الورع والحنين، الخير والطفولة!! لقد أتلَفْنا الحبَّ الذي دمَّرَ الضعْفُ كلامَه داخل قلوبنا المهمِلة الخاوية! وما من أحد يريد السير على طريق مدمّرة. إن ما دعوتِهِ الحنينَ ليس سوى صبيّ عابثٍ رديء، وإذْ خوفاً منه نتلمّس أحجار أيامنا الصغيرة المقلقة، إنما ندله على أن يقذفنا بأحجار أشدّ حدّةً كالقدر، كأشلاء طيور من الجحيم. إننا نبحث ونتوسل إلى أحد ما ليمزق وجوهنا بدل الشيخوخة، بدل المرض! آه ! عبَثٌ كالعافية، عافيةٌ كالوباء!! منذ القدم نفعل ما لا نحب! نبجّلُ ما ألفناه طويلاً، ثمّ نتوهم أننا غارقو الحب والشغف، فإذا بنا، بطيئين جوَّفاً ننسى ما كناه من الرغبة والتعلق، ننسانا في قلق كئيب! يا صديقي. تنهدّتِ الآنسة فاتي في عذوبة مطوّلة تماثل، بل تتزلّف لطفاً يغري روح البائس وينعش عيناً ما من عيون حياته المردومة: إنكَ تقضي على نفسك بمثل هذه التصورات النازفة، وهي أفكارٌ ستجرك إلى الضياع ! مالكَ، لمَ كل هذه الحدة، هذا النفور والمقت، الحقن والغضب والأوهام الكتيمة !؟؟ إنكَ ترتعش من البرد، وهو بردٌ لا مرئي؛ وذا أخطر ما أنت عليه. عدُ صوب جداول طفولتك ، الطفولة التي هي الرجاء والملاذ لمن … !: الطفولة هي الورع، ما مضى، ما لا يعود أبداً، هي أغنيتك المرجأة، حلمُكَ المنتظر حياتك القادمة..! هَهْ هااْ ،قاطعتُها: الطفولة ملاذُ المهان.علّقَ على نصائحها التي ما كانت تقدر على حرفه عن يأسٍ تخثّرَ وأنتنتِ الأيامُ ندبات جروحه الغائرة. في صمتٍ كالعَجْزِ، بالحذر الذي يميز من يحضر لمؤامرة أو حفلة قتل، نظرتُ إلى لوحة في الركن المقابل، وكانت لحذاء أحمر ليّنٍ كقشرة موز ناضج، ثمّ تأملتُ ملاسة ولمعان خشب الطاولة محاولاً تخيل المقطع الشجري الذي بُتِرَتْ منه. بدا للآنسة فاتي أن صديقها مضى إلى أنحاء نائية. فلم تثلّمْ طوافَهُ الغريق بأي سؤال أو حركة لافتة. اكتفت هي أيضاً بالصمت والتأمل: نظرَتْ ملياً في عينيه المسهدتين. في الحقيقة ، أحبَّتِ الشابة الأنيقة مرأى عيني صديقها المريض، شُغِفَتْ بجفاف لحم شفتيه المتيبس كخشبٍ، كرجاء ممحوّ! وكانت مستعدة في تلك البرهة المتوحدة، لو عانقها جليسُها الكئيب، أن تقبّلَ يديه وعنقه الطويلة، جبينه المتعرّق، فمه الفاغر وعينيه المنهكتين ! كانت ترغبُ، كانت تقدرـ رغم ما يمكن أن يتلو رغبتها من طارئٍ عنيفٍ ـ على إغاثة جسد صديقها الملهوف المتلف. كانت تملك حناناً مدَّخَرَاً في صدرها ويديها مثلما تحفظ التحف داخل صناديق بنوك حديدية. وعبْرَ زجاج الباب بدأ تحرّكٌ ساهٍ يلوي أوراق الأشجار المرصوفة طوْلَ الرصيف المقابل.أنطفأتْ أنوار المكتبة فجأة، فجأة عاودَ ظلامُ أوّلِ العمل نهايةَ هذه النجوى الشاكية! كانت تعرف، الآنسة فاتي الرقيقة الصبورة، كانت ترى انتظارَ صديقها موتَهُ الوشيك، وكانت رغم حبها المدفون مثل غصن مورق في مياه مالحة، تهمّ بإيداعه قبلةً تترك كلمةً من مذاق الحب على شفتيه. يا لها من قبلة شبحية، قبلة بلا أثر! هتفْتُ مذعناً في بئر روحي التالفة!!


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى