بدرالدين حسن قربيصفحات الناس

أزمة الطماطم الشرق أوسـطية..!!

null
بدرالدين حسن قربي
شهدت الأشهر الماضية ارتفاعاً في سعر البندورة (الطماطم) في منطقة الشرق الأوسط لم يُشهد له مثيل من قبل، ووُصفت أسعارها بالجنونية عندما سجّلت 15 جنيهاً للكيلو الواحد، وباتت مرشحة عند الساخرين من الناس أن تُضمّ إلى مايباع في الصيدليات من أصناف الدواء، أو محلات بيع الذهب باعتبارها ذهباً أحمر، أما غيرهم فقال: خلّوها تخيس، وأرخصوها بمقاطعتها، وأما فهيمهم فتوقع ما سمّاه ثورة الطماطم القادمة مالم تُضم إلى السلع المدعومة من قبل الحكومات، وإلا ستكون بأمر ربها القشة التي تقصم ظهر بعير الفساد وتفجّر غضب الناس الذين بات عزيزاً عليهم شراء حبة الطماطم الواحدة ووجدوا أنفسهم يُذلّون بها، وهم من هم من قوم لهم الصدر دون العالمين أو القبر.  ومن ثم لم يكن غريباً انشغال الناس في مجالسهم وكتاباتهم الورقية والإلكترونية ونكتهم ورسومهم تندراً واستهزاءً بالمغرورة الحمرا والأغلى بين (الخُضرة)، تنفيساً عما في أعماقهم وصدورهم من معاناة يومية وقهر اكتمل بنوع جديد من ذل البندورة يضاف إلى قائمة طويلة تنال من كرامة مهدودينا ومعتّرينا مما عبّر عنه طربهم الشعبي: حتى أنتِ ياللي اسمِك أوطة، بتذلّي فينا ومبسوطة، حرام عليكِ يامجنونة، وخلّيكِ عاقلة ومضبوطة.
وبمناسبة أزمة الطماطم، فمن المعلوم أن هناك من نَسَب البندورة إلى الفواكه وبعضهم إلى الخضار، بل وأطلقوا عليها أسماء مختلفة، فهي عند المصريين أوطة وعند أهل المغرب توماطش وعند أهل الشام بندورة وعند بعضهم طماطم، ولأهل حلب من دون العالَمين تسميتهم الخاصة فهي عندهم فرنجي، وعن عصيرها أو دبسها يقولون مية فرنجي.
ورغم أن تحليلات كثيرة قيلت عن أزمة الطماطم المضافة إلى أزمات شرقنا الأوسط، وأن لا أحداً منهم ربطها بأمريكا ومؤامراتها علينا على غير العادة، رغم أن الإحصاءات تقول بأن أمريكا ومعها الصين ومصر وتركيا تستهلك نصف الانتاج العالمي للطماطم الذي يقدر بأكثر من مئة عشرين مليون طن في السنة.
ولو علمنا أن الطماطم على اختلاف المسمّى حديثة عهد في أوروبا وأمريكا وبلاد العرب، وأن توسّع انتشارها كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فلا غرابة أن نعلم أن أهل حلب الشهباء مضى على معرفتهم بها قرابة مئة وخمسين عاماً لاأكثر، وإنما المستغرب ألا يتخيّلوا طعام أجدادهم وطبيخهم ومطبخهم كيف كان وماذا كان من دون شيء اسمه البندورة..؟
ماكتب عن تاريخ الشهباء يشير إلى أن أول ظهورٍ للبندورة فيها كان عام 1854 ، وقد توجس أهل المدينة منها، ومن رضي منهم بأكلها فقد اقتصر على الأخضر مطبوخاً لقناعتهم بأن الناضج منها والأحمر فاسد وفيه أذى،  وقالوا بأن بذورها قدمت مع التجار العائدين من مصر أو القادمين من أوروبا، وبعضهم ذكر أنها جاءت مع التجار اليهود السوريين إلى مدينتهم تادف ومنها انتقلت إلى حلب.  وإنما في كل الأحوال، فإن الحلبيين ابتداءً لم يألفوا أكلها بل بعضهم نفر منها، وكان بعض بسطائهم يتشهد إذا ماذكرت أمامه أو رآها لتوهمه أنها من الخضار المحرّمة التي اخترعها الفرنجة والعياذ بالله.  أما عن اسمها وتسميتها، فهم مع بداية تعرفهم عليها، ورؤية ثمارها وجدوا أن شكلها أقرب مايكون إلى الباذنحان ( البانجان)، ولكن لمعرفتهم أنها قادمة من بلاد الفرنجة أو الإفرنج، فميّزوها عن بضاعتهم  بقولهم: بانجان فرنجي على طريقتهم في تسمية الكلب الأجنبي بكلب فرنجي، ثم مع الأيام تخفّفوا من بعض الاسم فأصبح (فرنجي).  وإنما مع الأيام ودوران الحال ألِف الناس أكلها، وبات الأخضر منها للمخلّل والأحمر للطهي والطعام.  وعليه، فقد تطوّر الحال وكثرت أنواعها، وحلّت الألفة والمحبة بينهم والبندورة، بل وأكثر من ذلك فقد احتلت في طبخهم ومطابخهم شأنا تقدّم على حساب الكثير من الأطعمة التي كانت تطبخ مع اللبن، فحاصرتها ثمّ استبعدتها، ولاسيما من بعد ما بدؤوا يعصرون ماسمّوه مية فرنجي في صيفهم ،ويصنعون منه دبساً يحفظونه لشتائهم.  وأدخلوها على الكثير الكثير من أطعمتهم ومحاشيهم ومسقّعاتهم ومفروماتهم ومشوياتهم وعصيراتهم وباتت من الشهرة بمكان، حتى أن عشقهم للبندورة والمطبوخات المُبَنْدَرة دفعهم هذا العام ليجعلوا لها يوماً سنوياً مع نهاية تموز/يوليو فيه يحتفلون كما كان للقطن عندهم مهرجان.  فتحت شعار البندورة في كل مكان، أقيمت الاحتفالات الرسمية، وألقيت الخطب التي تشيد بالبندورة وتعرّف بأهميتها الاقتصادية زراعةً وتنميةً وضرورتها الحياتية غذاءً وصحة في مدينة السفيرة قرب حلب.  ومن ثمّ لايسع الناظر في تبدل حال البندورة من خوف قبل مئة وخمسين عاماً إلى حال حاضرة من أمن وأمان واحتفاء، انتهى بالسيطرة الفرنجية على حال الناس طبخاً ومطبخاً بل وتهدّدهم لكثرة حاجتهم لها، إلا أن يقول: سبحان مغيّر الأحوال.
يسجّل للطماطم أو الفرنجي منذ عشرات السنين إقامة مهرجان سنوي سياحي لها في مدينة بونول الإسبانية اسمه (توماتينا) يتراشق فيه الناس بالطماطم الحمراء الناضجة، فيطمطمون أنفسهم استدعاءً لمرح طفولي وبهجة يجدون فيها سروراً وسعادة على طريقتهم في الحياة، كما يسجّل للمغرورة الحمرا، أنها من أشهر ماتَقذِف به الجماهير الغاضبة زعماءها ورجال شرطتها ومواكبهم ومركباتهم تعبيراً عن الغضب والرفض لسياساتهم ومواقفهم.  ولكن بسبب أن ناسنا من أصلهم على غاية الرضا والامتنان من مواقف المسؤولين وسياساتهم الشعبية والرسمية والنضالية في معالجة أزماتهم الشرق أوسطية، ويعلمون بأدبياتهم وذوقيّاتهم أن التراشق بالفرنجي أمر غير حضاري فضلاً عن أنه إهمال وتفريط بنعمة ينبغي المحافظة عليها بما تستحق ولاسيما مع غلاء ثمنها، فإنه لم يتبق لهم إلا يكون لهم فرنجينا كما للإسبان توماتينا ولكن بخطب أوطية، وشعارات فرنجية، وإعلانات توماطشية ومحاضرات بندورية.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى