صفحات الناس

الديمقراطية و’اللصوصُقراطية’

null
رمضان جربوع
اللصوصقراطية هي محاولة تعريب اللفظ الإغريقي الصياغة ‘كليبتوكراسي’ اصطنع في بدايات القرن التاسع عشر ويفيد بتوصيف نظام حكم الدولة التي تسود فيها اللصوصية (سرقة المال العام والخاص) عن طريق استغلال المناصب الإدارية والسياسية فيها من قبل القائمين على دواوينها. واللفظ وإن لم يكن علميا إلا أنه يستخدم للازدراء والسخرية المريرة، ولكنه يظل مصطلحا توصيفيا ويعتبر أحيانا بمثابة التصنيف في الحالات القصوى من ممارسات استغلال المنصب لتحقيق منافع مادية أو سياسية ذاتية أو لعصبة الممارسين المشاركين أو المتعاونين، وكثيرا ما يوضع معهم المتغاضون عنه أو الذين يعلمون ولا يعملون شيئا لدرئه.
اللفظ عندما يطلق على دولة ولو من باب المبالغة إلا أنه يفيد بأمر مفجع وبالغ الخطورة يستدعي التوقف والبحث في الدلالات والمسببات.
مسببات النعت
من دون شك فان أول الدواعي لإطلاق النعت هو انتشار الفساد، والفساد في دوائر الحكم في العالم أجمع أمر شائع على مر العصور، الفساد ظاهرة بشرية لا يمكن القضاء عليها كليا مهما كانت الإجراءات والتشريعات وأدوات إنفاذ القانون وإعماله، تظل هناك دائما فرص متاحة يستغلها البعض، وطالما تظل ممارسات الفساد محدودة الكم والنوع (بمعنى تدني المؤشر الدال على نسبة الضياع من إجمالي الناتج المحلي وأيضا وتيرة وعدد القضايا التي يتم التحقيق فيها) ستظل هذه الممارسات داخلة ضمن جرائم الاحتيال والنصب (تعتبر نسبة الخمسة بالمائة مقبولة إلى حد ما وتحت السيطرة ويمكن التعامل معها ومعالجتها وقد تقل عن ذلك. هذه الحالة يتمتع بها عدد من الدول (في أوائل القائمة الدنمارك ونيوزيلاندا وسنغافورة).
عندما يستفحل
ولكن عندما يستفحل الفساد وينتعش قد يصل إلى نسبة الثلاثين بالمائة، ويحدث ذلك غالبا انطلاقا من المستويات الدنيا في إدارات الحكومة والمؤسسات العامة، ويرجع السبب بالدرجة الأولى لانخفاض الدخل ولمستوى الفقر، ومبلغ رواتب لا يضمن العيش الكريم، ناهيك عن الطموحات المشروعة.
السبب الثاني الأهم هو ترهل الإدارة وترديها وسوء إعمال القانون وانتشار المحسوبية.
يمكن تقليص هذا المستوى عند توفر الإرادة السياسية العليا واعتماد مطلق لا رجعة عنه لمبدأ مفاده ‘لا حصانة لأحد’، على أن يتبعه بالتوالي إعادة النظر في الهيكلية الإدارية والاقتصادية والتخطيطية والضرائبية والتنموية، ثم تكريس اشتراطات النزاهة والشفافية بحدها الأعلى، وذلك يستلزم مجتمعا مدنيا أهليا نشيطا وفق المعايير الدولية وإعلاما وصحافة حرة مع تكريس مطلق للحق في المعلومات. يتم ذلك وفق استراتيجية طويلة المدى تكون بمثابة ‘كتيّب إرشادات’ يهدف لمنع الفساد وتعزيز الشفافية.
المتطلبات
بطبيعة الحال سيستدعي ذلك التدريب والتأهيل المتفوق لمن يقوم بهذه المهمة، أي تنفيذ الإستراتيجية بدءا من التدريب المتخصص للمحققين وأجهزة الإدعاء والقضاء، ومن نافلة القول ان ‘القضاء’ يجب أن يكون مستقلا ومتوافقا مع المعايير الدولية أيضا من حيث الكوادر والإجراءات والتنفيذ (أقلها مبادئ ومعايير بانغالور الشهيرة). نشيى الى أن كل ذلك يتطلب حسن الاختيار فيمن يقوم بالعمل المطلوب من حيث الكفاءة والتأهيل والنزاهة (التي يجب أن تستبعد من يحمل ‘شبهة الفساد’ أصلا) والفهم الاستراتيجي لأبعاد المهمة المتشعبة. لضمان حسن الأداء وفق القانون وبدون ‘الفرقعات’ الإعلامية. والسير المتوالي والحثيث كفيل بتقليص النسبة إلى الحد المعقول.
عند الحديث عن رفع مستوى المعيشة بما يكفل قضاء الحاجات، سندخل في بوابة أخرى تتعلق بالحالة الاقتصادية للدولة ومواردها وإمكانيتها، وقد لا تفي مقالة واحدة بالمتطلب، ولكن يجب أن يظل راسخا في الذهن أن من مسببات الفساد هو فقر الكوادر العامة وفحش غنى الخاصة.
تباشير قدوم اللصوصُقراط
إذا تركت الأمور على عواهنها، فماذا سيحدث؟ ستتسرب جراثيم الفساد إلى الطبقات العليا في الإدارة، وخصوصا تلك التي تتبوأ المراكز الكبرى ذات الصلاحيات بالتوقيع والإقرار بالإنفاق، وهنا سيظهر ما يعرف بالفساد الأكبر، الذي لا يسرق فقط لسد حاجة، بل طمعا في الثراء الفاحش والتنعم بالملايين، والفساد الأكبر لا يمكن ممارسته فرديا، بل يحدث بتوافق من عدة متنفذين في مختلف الدواوين (قد نستطيع القول بجمعية فساد تعاضدي)، وأحيانا تتشعب مسالك الأموال المستهدفة للنهب من قبل هؤلاء وتتخطى حدود دوائرهم لتتداخل في أخرى، وعندها يحصل التوافق مرة أخرى لنصل ربما لما قد نسميه ‘اتحاد جمعيات الفساد’، التي قد تتطور هي الأخرى لنصل إلى اتحادات.
قدوم الأجنبي
وبالنظر لحجم هذه الأموال سيدخل في الاعتبار الشريك الأجنبي أو فلنقلها صراحة ‘المصالح أو الشركات الأجنبية التي لا تكن لنا خيرا’ من غير الوطنية (وبعض منها يصطنع للغرض ‘الفسائدي’) التي بمجرد موافقتها على مبدأ الفساد (وبالنسبة لها يكمن ذلك في موافقتها على حجم عمولات مجحف بثروة وموارد البلاد) فماذا سيحدث؟ المصالح الأجنبية هذه سوف تحتاج إلى حالة توفيقية فيما هو من صميم المسائل الوطنية، وستحتاج لتتدخل عن طريق ‘شركاء الفساد من الوطنيين’ لتعديل تشريعات ولوائح وربما حتى رسم مشاريع وأعمال، بل وسياسات لا حاجة للبلاد بها أصلا.
قبل الوصول إلى استخلاص ما قد يحدث، نشير إلى أن العناصر الوطنية (بجمعياتها واتحاداتها) سوف تحتاج هي الأخرى إلى حيازة الكلمة العليا في شؤون التحقيق والادعاء والقضاء، بمعنى آخر تحتاج أن لا يطالها قانون أي إلى نوع من ‘الحصانة’ ولكن كيف يتم ذلك؟
الحصانة بالاستيلاء على بعض السلطة
الحصانة تتم باستيلاء أفراد هذه العصابات على أهم مسالك مكافحة الفساد ومنعه، وتشتيت آثارها التي قد تظهر للعيان، وبمصطلح آخر، سيكون من المهم لهم أن يكونوا من أصحاب القرار السياسي، والقرار السياسي ليس بالضرورة ذلك الذي يتعلق بسياسات الدولة العامة، ولكن تكفيهم السيطرة على منابع الثروة وأوجه صرفها ثم ضمان عدم المحاسبة والملاحقة، وهي عديدة.
هنا بالضبط يصح إطلاق مصطلح ‘اللصوصُقراطية’ على الدولة التي تصل إلى هذا المستوى، ولكن المخاطر لا تقف عند ذلك، فماذا سيحدث؟
بصورة أو أخرى سينحصر أمر إدارة دفة الدولة في أيدي ‘شخوص’ معينة نادرا ما تتغير، وإن تغيروا فسيكون ذلك فقط كممارسة لعبة الكراسي الموسيقية (يقال اقيل ‘زيد’ من الوزارة الفلانية وتولى نصاب الوزارة العلانية وحل ‘عمرو’ محله) وهكذا دواليك..
الشخوص المذكورة لا تحمل سمات اللصوصية صراحة، عدة وأدوات السرقة مثل القناع على العيون والتخفي والمصباح أو الشمعة وربما السكين، بل هي ترتدي أحدث الأزياء وتقود أفخر المركبات وتسكن أبهى القصور، وهي لم تعد تستحق اسم ‘التكنوقراط’، بل هم إلى ‘اللصوصُقراط’ أقرب.
عندما تصل الطبقة العليا التي تتولى الدولة إلى هذا المستوى، وتظل فيه سنين، فسينعكس ذلك على المجتمع الذي تديره، سيحدث نوع من القبول بذلك، لأن الناس تريد أن تعيش ولا طاقة لها على تغيير التركيبة القائمة، وإذا حدث قبول، فسينتشر الفساد أكثر وأكثر، ويصبح واقع حال (قد يكتفي البعض بقول: الله غالب يا شيخ).
لن تكون هناك تنمية، سينهار التعليم، ومعه الصحة والبنية التحتية والفوقية، وستدرج الدولة في ذيل قوائم الشفافية الحوكمة وحرية الإعلام .. إلى آخر ذلك من القوائم.
وأمن الدولة من ذلك؟
الخطر الأكبر سيظل هو أمن الدولة واستقلاليتها ورفاهية شعبها، فعندما يتحكم ‘اللصوصقراط’ في شؤون دولة ما فمصيرها الفشل كمشروع وكينونة.
تعاني دولنا العربيـــــة بدرجات متفاوتة (وأحيانا متقاربة وفق الدخل) من الفساد وســــننه، ولعل من أهم أسباب تخلف العرب وهزائمهم المتكررة هو الفساد المستشري بعينه. فلكي نخرج من التخلف يستوجب الأمر صدق النية والإعداد الجيد لمحاربة ‘فسادنا’ قبل الاضطلاع بمهام تنميتنا.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لن نخلص من الفساد وسرقة المال العام وثروات البلاد حتى نجد في الوطن العربي مصطلح : الرئيس السابق – حيث لايوجد في قاموس السياسة العربية إلا مصطلحين فقط وهما : الرئيس الراحل والرئيس المخلوع – فإذا دخلنا في عصر الرئيس السابق فنكون قد وضعنا لبنة في جدار منع التعدي على المال العام – منذ 60 سنة وإلى الآن مر على أمريكا حوالي 13 رئيساً وربما أكثر – بينما مر على مصر بنفس الفترة 3 رؤساء فقط ولولا الموت لكانوا واحد أو إثنين – نحن أمة الهبل والسفه – تتاح لنا فرصة إنتخابات برلمانية أو رئاسية ومع ذلك نجد من ينتخب فلان من الناس وهو يعلم تمام العلم أن فلان أكبر حرامي ولايعرف رباً ولاديناً – ومستعد لأن يبيع والدية بحفنة من الدولارات – فنحن أمة الهبل – للعلم من ينتخب الفاسد فهو شريك له في فساده يوم القيامة – يعني هذاك يسرق وينعم بماسرق وأنت أيها الناخب الأهبل تحاسب يوم القيامة معه – أية أمة نحن ياااااااااااااااااااااااا أمة ضحكت من جهلها الأمم !!!!!!!!!!!!!!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى