صفحات مختارة

مشكلة القومية الملتبسة أم الدولة المؤجلة؟

كرم الحلو
وصلت الأفكار القوميّة العربيّة المتداولة في الفكر العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مأزق فعليّ باتت معه تبحث عن سند لشرعيّتها. فالأمّة العربيّة هي الآن مهدّدةٌ أكثر من أي وقت مضى بالانقسام والتفتّت، والرابطة الوطنيّة والقوميّة الجامعة آخذة في التقهقر لصالح العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة، والساحة العربيّة تبدو كأنّها على وشك الاستسلام أمام المخطّطات الصهيونيّة.
هذا الإخفاق المريب يطرح أسئلة مربكة، فهل هو نتيجة عوامل خارجية أم ان ثمة عوامل ذاتيّة كامنة في صميم الأمّة تقف وراء كلّ ذلك التراجع والتداعي أم أنها من قبيل الطوباويات والأماني؟ وهل ثمة إمكان لمراجعة نقديّة لمفاهيم الخطاب القومي تعيد إليه الاندفاعة الإيديولوجيّة التي تمتّع بها على يد روّاده الأوائل؟
على خلفيّة هذه الأسئلة يطرح عبد الإله بلقزيز في «نقد الخطاب القومي» مركز دراسات الوحدة العربية 2010، إعادة بناء الفكرة القومية على مقتضى نظري ومعرفي رصين، يتناول بالمراجعة أهم مفاهيم الخطاب القومي العربي مثل الهويّة والعروبة والأمّة والدولة والوحدة العربيّة والثقافة القوميّة.
لا يقلّل من مشروعيّة القومية العربية، في رأي المؤلّف، كونها فكرة إيديولوجيّة شديدة الاتصال بمصلحة جماعة قوميّة في الوحدة، إذ من الخطأ افتراض الإيديولوجيا وعياً مغلوطاً على ما درج الماركسيون آخذين بأطروحة ماركس في «الإيديولوجيا الألمانيّة». فالإيديولوجيا شكل من أشكال الوعي بالعالم والأشياء، إنّها تمثّل للظواهر تحكمه قواعد غير قواعد الحقيقة والزيف، وإن لم تكن معرفة بالمعنى الإبستمولوجي كالعلم، إلا أنّ كل فكر إيديولوجي ينطوي على جانب معرفي، ليس يمكن الإغضاء عنه، من دونه لا يمكن تفسير قدرته التعبويّة في الجهمور المخاطَب.
من الأمور التي تسترعي الانتباه في الخطاب القومي العربي، كما يُلاحظ بلقزيز، التوقف المديد لحركة إنتاج الأفكار الكبرى داخل هذا الخطاب في العقود الأخيرة وتراجع المنحى التنظيري مع أن المسائل التي تفرض نفسها على الفكر القومي الآن أعقد بكثير مما كانت عليه قبل ثلاثين أو خمسين سنة. والأرجح أن ذلك علامة على أزمة تستبدّ بنظام اشتغال الفكر القومي، وتفصح عن فراغ في الرؤية، إذ ما عاد في وسع من يكتبون اليوم أن يقدموا جديداً إلى التصورات التي أنتجها هذا الفكر تطويراً وإغناءً ومراجعة.
في سياق المراجعة النقديّة لمفهوم الأمّة العربية، أسقط المؤلّف فرضيّة تكوّن الأمّة العربية في التاريخ قبل الحديث، وأن وجودها ما انتظر عصر القوميات الحديث كي يكون، لكن البحث عن تاريخ للأمّة العربيّة قبل قرن هو اختراع فكرة ليست ممكنة الوجود وإغفال للفارق بين الأمّة بمعناها التقليدي، حيث الدولة قائمة على الدين أو على حكم الفرد، وبين الأمّة بمفهومها الحديث حيث الدولة قائمة على التعاقد والدستور وسلطة الشعب وفصل السلطات. إنّ المعنى الحديث للأمّة هو معناها السياسي الذي تقترن فيه بالدولة، أما ردّ معناها إلى العوامل الثقافيّة والدينيّة والتاريخيّة، فلا ينتج منه مفهوم حديث وتاريخي للأمّة لأنّ العوامل هذه، لا تصنع بالضرورة وحدة الكيان: الوحدة القوميّة. وعلى هذا، ليست الفكرة القومية العربية في حاجة إلى شرعيّة من الماضي، وإنّما شرعيّتها من الحاضر وتحدّيات المستقبل.
للفكرة القوميّة العربيّة، شأن كل فكرة سياسيّة، تاريخ تبلورت فيه وتطوّرت، والجوامع المشتركة بين لحظاته وأجياله الفكريّة لا تحجب التنوّع الفكري الفسيفسائي فيه، حيث تتعدّد الخطابات وتتمايز بين القومي الإيديولوجي (ساطع الحصري) والقومي الصوفي (ميشيل عفلق) والقومي الليبرالي (قسطنطين زريق) والقومي الإسلامي (محمد عزة دروزة) والقومي الماركسي (الياس مرقص). وعلى ذلك، فإن التراث الإيديولوجي القومي العربي المعاصر، يجب أن ينظر إليه في تاريخيّته التي تفسّر تعدّد موضوعاته وإشكاليّاته، من إشكاليّة الهويّة إلى إشكاليّة الديموقراطيّة، مروراً بإشكاليّتي الوحدة والأمن القومي.
بالنظر في إشكاليّة الهويّة، يرى المؤلّف أن المفهوم الأرسطي للهويّة حاضر بقوّة في الوعي العربي الحديث والمعاصر، فالمتحدث عن هويّة قوميّة إنّما يقصد مجموع الخصائص الثابتة التي تتحدّد بها الشخصيّة القوميّة وتمنحها كينونتها الاجتماعيّة أو الثقافيّة المتميّزة، والتي من دونها تبطل هويّة الجماعة. وفي هذا التصوّر الجوهراني لمعنى الهويّة يقبع قدر كبير من النظر الصوفي الذي يرى إلى الماهيّات كثوابت عصيّة على التغيّر والفساد. إنّ بناء مفهوم الهويّة على نحو جديد ومختلف رهن بنقد هذا المفهوم الجوهراني المطلقي والتنبيه إلى المآلات الانتحاريّة التي يقود إليها والتي انتهى إليها بعض المشروع القومي العربي المسكون بالتاريخ الماضي. فالهويّة غير قابلة للإدراك إلاّ بوصفها حصيلة تراكم متجدد، وكلّ ماهيّة ليست نهائيّة وإنّما هي تتدرج في الكينونة والتكوّن.
في ضوء هذا التعريف للهويّة، لا يتحدّد «العربي» بالنسب ولا بالدين ولا باللغة والثقافة ولا بالجغرافيا، وإنّما بالدولة الوطنيّة الديموقراطيّة الحديثة التي تنتج معناها القومي من مضمونها السياسي. ما يقتضي بناء معنى الهويّة السياسي بوصفها علاقة سياسيّة وليس مجرّد موروث حضاري وثقافي، وذلك لن يتحقق إلا في إطار دولة المواطنة والحق والقانون. إنّ نقطة ضعف الفكر القومي العربي مردّها إلى تضخّم خطابه حول الأمّة وعجزه الفادح في مسألة الدولة القوميّة وتجاهل أبعادها السياسيّة المعاصرة التي هي الأساس في مسألة الهويّة، وعليه فالنضال من أجل الوحدة العربيّة تحتّمه المصلحة وتحدّيات المستقبل وليس التاريخ والجوامع اللغويّة والثقافيّة والدينيّة.
العروبة هي الأخرى، كما الهويّة، مفهوم إشكالي. فاعتبارها رابطة عرق ونسب دموي، ينتهي بها إلى الصيرورة علاقة وهميّة، ما دام النسب على قول ابن خلدون وهمياً ووظيفته رمزية، فضلاً عن أنّه يقود إلى النزعة القوميّة الضيّقة المأخوذة بالنرجسيّة والاستعلاء التي طالما تذرّع بها الاستعمار لتقسيم العالم وإعادة رسم خرائط المنطقة العربيّة وكياناتها.
لا بدّ إذاً من نبذ أي معنى عرقيّ للعروبة واستيعاب معناها الحضاري بوصفها رابطة ثقافيّة لغويّة اجتماعيّة صهرت العرب وغير العرب في شخصيّة حضارية جديدة. فالعربي، بهذا المعنى، ليس من تجري في عروقه دماء عربيّة، بل مَن يختار العروبة ماهيّة له. ولا سبيل إلى مفهوم حضاري عصري ومستقبلي إلا من طريق إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي في العالم العربي، على قوام ديموقراطي يكفل الحرية والمساواة بين المواطنين في الحقوق ويوفر إمكان المشاركة السياسية للشعب في صناعة القرار وتقرير المصير.
نتفق مع المؤلّف في نقده للخطاب القومي العربي الشعبوي الذي قاد بمقولاته المتكلّسة إلى مآلات بائسة ولم يلبث أن انكفأ وتراجع مخلياً الساحة أمام العصبيات الطائفيّة والإثنية والجهويّة، ونتفق معه في مراجعة المفاهيم القومية السائدة وضرورة صياغتها من جديد في ضوء التحوّلات الكونيّة المعاصرة. إلا أننا نرى في المقابل أنه لم يضف كثيراً إلى المراجعات النقديّة المتداولة منذ نهايات القرن الماضي، فضلاً عن الاستطراد والتكرار اللذين شابا كتابه وتبنّيه مفاهيم وتعريفات هي الأخرى ملتبسة وتحتاج إلى مراجعة. فإن كان على حق في أن الرابطة القوميّة العربيّة تتحدَّد في إطار الدولة القوميّة العقديّة الحديثة، إلا أننا نرى أن الانتماء القومي ليس مسألة اختيارية وإنما هو تكوّن تاريخي يتحدّد بموجبه وجدان جماعي يعبّر عن شخصية مميزة، وإلا لانتفت الاختلافات والتمايزات بين الأمم والقوميّات.
بوسع المرء أن يتقن لغات متعدّدة، إلاّ أنّ ثمّة لغة واحدة تعبّر عن شخصيّته القوميّة وانتمائه الحضاري، هي «اللغة الأم». وقد يفضي ربط المؤلف القوميّة بالدولة المتعيّنة إلى انتفاء أي معنى للوحدة القوميّة العربيّة، الأمر الذي تبنّاه المفكّر الراحل كمال يوسف الحاج أواسط القرن الماضي للقول بالقوميّة اللبنانيّة. فلا بدّ، إذاً، من التمييز بين الدولة القوميّة والشعور القومي العربي الذي يقف وراء دعوات التوحيد ويمهّد لقيام دولة الوحدة القوميّة.

عبد الإله بلقزيز، نقد الخطاب القومي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2010، 287 صفحة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى