صفحات مختارة

عن الرأي العامّ وغياب الفاعلية

طارق عزيزة
كثيراً ما تتردّد عبارة “الرأي العامّ” في وسائل الإعلام المختلفة، وفي الندوات والحوارات وأيضاً في أحاديث المهتمين والمشتغلين في الشأن العامّ من سياسيين ومثقّفين وغيرهم. يتراوح استخدام العبارة/المصطلح بين من يستقصي معرفةً ما من خلالها، أو من يتحدّث معتقداً أنّه يمثّل ما تعنيه، أو حتى من يناشد ذلك “الرأي العامّ” لسبب أو لآخر. تُجمَع معلوماتٌ وتوزّع استبيانات وتُملأ استمارات وتُجرى استطلاعات الرأي الميدانية، وغير ذلك من الطرق والوسائل من قبل الحكومات أو الجهات غير الحكومية، بل وبعض المؤسسات الخاصة التي تستثمر في مجال المعلومات وغيرها، للوقوف عند حقيقة رأي الجمهور ومدى عُمقه وجدّيته. عدا عن المظاهرات والاعتصامات والإضرابات، التي يمكن في ظروف معيّنة، أن تمثّل جانباً من “وسائل” تُفصح عن الرأي العامّ وتعبّر عنهُ فيُعرف من خلالها.
في مستوى آخر أعمق أكثر تعقيداً، تكون الغاية الأساسية من دراسة رأي الجمهور واستشفاف ميوله، تطوير الوسائل التي يمكن من خلالها تغيير الرأي العامّ، بل ومعرفة الكيفية التي تتيح السيطرة عليه و”صناعته” بمواصفات موضوعةٍ مسبقاً، وصولاً إلى خداعه وتزييفه لو اقتضى الأمر، تحقيقاً لمصالح وغايات محدّدة (وهو ليس موضوع هذه المقالة).
يجري كل ذلك وتنفقُ عليه الجهود والأموال، نظراً لما للرأي العامّ من أهميةٍ كبرى، حيث يعبّر عن مزاجِ الأفراد وميولهم، ويساهم في ترسيخ قناعاتهم، وبالتالي تحديد خياراتهم القادمة أو التنبّؤ بها، وكلّ هذا يندرج من ضمن معطيات لها دور مُفترض في رسم الاتجاهات المستقبلية الأساسية لعمل الحكومات في سياساتها، الداخلية منها والخارجية على كافة الأصعدة، ووضع خطط عمل الاقتصادات ورؤوس الأموال العامّة والخاصّة. عدا عن دور الرأي العامّ في تحريك الفضائح وإسقاط أسماءٍ ورفع أخرى، كما قد يطال تأثيره تفاهماتٍ أو اتفاقاتٍ ذات طابع دوليّ في بعض الأحيان. محاضرات ودراسات ومؤلّفات عدّة تناولت مفهوم “الرأي العامّ” بالتحليل والشرح، لتصل في المحصلة إلى كونه نتاج مجموع آراء الأفراد التي تمرّ بمستويات متراكبة ومتداخلة: نفسية واجتماعية وسياسية، بحيث يفعل كلّ مستوى فعله في التأثير والتأثّر ليتشكّل ما يسمّى رأياً عامّاً تجاه قضية ما أو حدث ما أو شخص ما.
يذهب البعض إلى التوسّع في دلالة المفهوم ومضمونه، كالقول بأنّ “الرأي العامّ يتضمّن الحكم العامّ، والميل العامّ، والعمل العامّ” (صلاح نصر، الحرب النفسية، الطبعة الأولى، ص 414). وهناك من يعتبر أنّ المصطلح يشير إلى معنى مجرّد أو شيء افتراضيّ وغير ملموس: ” الرأي العامّ أشبه بتيّار الكهرباء الذي يسري عبر الأسلاك ليقدّم طاقة كهربائية تأخذ أشكالاً متعدّدة تظهر في صورة ضوء أو حرارة أو برودة أو ما إلى ذلك” (محمد فايز السعيد، قضايا علم السياسة، ص 104).
لعلّ من أهم التعريفات التي تتّسم بنوع من العلمية والشمول هو الآتي: “الرأي العامّ Public Opinionهو تصوّر ما عن قضية محددة، يبنيه ويتبنّاه الأفراد لتقييمها واتخاذ الموقف المناسب منها والمنسجم مع ميولهم وحاجاتهم ورؤيتهم، ومقدار تفاعلهم معها سلباً أو إيجاباً، والرأي العامّ هو الاتجاه السائد والمزاج الثقافي المحدّد، والسلوكية المؤثّرة في تقلبات المحيط الاجتماعي والسياسي”.(الدكتور يعقوب يوسف الرفاعي، نظرات في الرأي العام، دراسة منشورة على الموقع الإلكتروني: مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية).
تبعاً لذلك فإن ثقافة الأفراد ـ بالمعنى الواسع للثقافة ـ ومستوى الوعي الذي يتمتعون به، وطريقة فهمهم لمصالحهم ولمشكلاتهم الواقعية وأسبابها وكيفية التعاطي معها، سينعكس بالضرورة في صياغة موقف كلّ فرد ثمّ الموقف المشترك لمجموع الأفراد حيال مسألة أو قضية ما، وبالتالي العمل باتجاه تبنّي وجهة نظرهم/رأيهم فعلياً على أرض الواقع من قبل المعنيين وأصحاب القرار.
ويمكن استناداً للتعريف ذاته استنتاج اشتراطين لا بدّ منهما لتعيين ما يُصطلح على تسميته “الرأي العامّ”، الأوّل هو اتخاذ موقف ما، بمعنى المبادرة بالتفاعل سلباً أو إيجاباً تجاه الموضوع المُثار. من الضروريّ هنا التمييز بين العزوف عن إبداء الرأي وعدم الاكتراث، وبين السلبية المقصودة كموقف عقلي واعي، والتي يغلبها طابع استنكاريّ أو احتجاجيّ. أما الاشتراط الثاني فهو يتجلّى بسلوكية تُترجم الموقف المُتخَذ (الاشتراط الأوّل) وينبني على تلك السلوكية تأثير معيّن ـ بغضّ النظر عن حجمه ونوعيّته ـ في المحيط الاجتماعي والسياسي أو في القضية المطروحة موضوع الرأي.
الاشتراطان السابقان لازمان لكنهما ليسا كافيين بذاتهما، بل غير ممكنين ليوجد “الرأي العامّ” ما لم يكن المناخ العامّ ـ السياسيّ بشكل خاصّ والاجتماعيّ ولو كان بدرجة أقلّ ـ مناخاً يضمن حرية التعبير بصورة فعلية. المقصود بالضمانة الفعليّة أن تكون ضمانة تشريعيّة قانونية تحترمها السلطات كافة في سلوكها العمليّ، بما يتيح لكل فردٍ إبداء رأيه ـ أو الامتناع عن ذلك ـ بمحض إرادته ودون خوف. بكلمة: حيث لا توجد حرّية للرأي لا وجود حقيقيّ فاعل لرأيٍ عامّ. ولمّا كان من المتعذّر تصوّر وجود مناخ من حرية التعبير بالضمانات المذكورة في غير النظم الديمقراطية والليبرالية، جاز القول إنّ مفهوم “الرأي العامّ” بالمعنى الملموس كعنصر فاعل ومؤثّر في الأحداث واللحظات التاريخية الحاسمة، وبالتالي في حياة الشعوب والأمم ومستقبلها، هو نتاج الديمقراطية السياسية من جهة وعصبها الذي تتغذّى عليه في الوقت عينه من جهة ثانية. يؤكّد ذلكَ ما ذهب إليه المفكّر الراحل ياسين الحافظ، الذي يرى في البلدان الديمقراطية “واقعةً جليّةً: جماع الرأي العامّ، أي الرأي العامّ في الحالة التي تتقاطع مصالح الطبقات، أقوى من الحكومات. أما في البلدان التي لم تشهد ثورة ديمقراطية وبالتالي البلدان التي تعيش مرحلة قبل قومية رغم كلّ تغنٍّ بالقومية، فالحكم فيها أقوى من الرأي العامّ” (ياسين الحافظ، اللاعقلانية في السياسة العربية، دار الحصاد، الطبعة الثانية 1997، ص 146).
مع قليل من التأنّي، وبالنظر استناداً لما مرّ ذكره ولطبيعة مفهوم “الرأي العام” ومعاييره، ومع انتهاء العقد الأوّل من الألفية الثالثة، قد يكون من الصعوبة بمكان الحديث دون مجافاة الحقيقة الواقعية عن وجود فاعليّة للرأي العامّ في عالمنا المعاصر، كما يمكن تسجيل غيابه شبه الكامل عربيّاً.
إنّ حجم الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة التي شهدتها مراكز القرار الغربيّ عموماً والولايات المتّحدة بشكل خاص ضدّ قرار الحرب على العراق واحتلاله، فاقت في أرقامها واتساعها تلك التي رافقت حرب فيتنام وأسفرت عن إجبار الحكومة الأمريكية آنذاك على إنهائها، في حين لم يغيّر من موقف الحكومة الأمريكية وحلفائها شيئاً في حالة العراق. من جانب آخر فإنّ الحرب التي وقعت في غزّة قبل عام والحصار المستمرّ عليها قد حقّقا نقلة نوعية في اتجاهات الرأي العام الغربيّ من حالة التعاطف شبه المطلق مع إسرائيل إلى الوقوف عند حقيقة الكارثة الإنسانية التي تنطوي عليها القضية الفلسطينية. مع ذلك لم تؤدّ كلّ الحملات التضامنية التي شهدتها وتشهدها الدول الأوروبية والولايات المتّحدة إلى تغيير يُذكر في سلوك حكومات تلك الدول. وأخيراً وليس آخراً فقد شهد العالم في الأيام الأخيرة من العام الفائت مدى حدّة الاحتجاجات التي رافقت المؤتمر الدولي للمناخ في كوبنهاغن شارك فيها أعدادٌ كبيرة من أنصار البيئة من مختلف الجنسيات، وأيضاً دون أن يدفع ذلك نحو إيجاد اتفاقيّة دولية جدّية وملزمة وخاصّة للدول “الكبرى في تلويث المناخ” تضمن الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيّرات المناخية والمخاطر البيئية التي تهدّد الحياة على هذا الكوكب. إنّ ذلك كلّه يدفع للتساؤل: هل استطاعت السياسات المُعولمة والسيطرة المحكمة للشركات متعدّدة الجنسيات في ظلّ ما سُمّي “النظام العالمي الجديد” صياغة ما يمكن تسميته (توتاليتارية عالمية) تنفّذ أجندة مصالح، تخصّ فئةً معيّنة، ضاربة بعرض الحائط كلّ مصلحة عداها وتدوس من غير مبالاة على “رأيٍ عامّ” كان حتى الأمس القريب فاعلاً أساسياً لا غنى عنه؟! هذا ما لا يتمنّاه الكثيرون.

لكنّ التمني كما يعلم الجميع لا ولن يغيّر في واقع الأمر شيئاً. إنّه مفترق طرق حاسم للبشرية جمعاء، ولن يكون ما يفضي إليه مبشّراً ما لم تعد لإرادة الأفراد قدرةٌ فعّالة على التغيير وقيمةٌ تُحترم أو.. يُطالَبُ باحترامها!
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى