صفحات من مدونات سورية

ويكيليكسيّات

“للديمقراطيّة مجاريرها”.. قالها فيليبي غونثالث بداية التسعينات, عندما كان في منصب رئاسة الحكومة الاسبانية, و لا عجب أنه قالها في ذلك الوقت, فبعد هذه الجملة المتذاكية خرجت رائحة المجارير إلى السطح و اكُتشفت آليات الدولة الخفيّة في صراعها الدامي مع منظمة إيتا الانفصالية, و التي سمّيت فيما بعد بالحرب القذرة, حيث أسست و موّلت جماعات إرهابية تنكّرت بزيّ اليمين المتطرّف للوصول إلى مخابئ الانفصاليين في فرنسا. زلزلت تلك الفضيحة عرش غونثالث و ساقت للمرّة الأولى في تاريخ اسبانيا (و أوروبا) وزير الداخلية و سكرتير الدولة للشؤون الأمنية من مكاتبهما إلى الزنزانة مباشرةً.. بطل تلك الفضيحة كان قاضياً جسوراً إلى حدّ الوقاحة, بالتاسار غارثون, القاضي الذي احتجز بينوشيه بعدها بسنوات في قضيّة أعادت إلى أذهان العالم نظام الدكتاتور الفاشي الذي أسقط حكومة تشيلي الديمقراطية بقيادة الدكتور سلفادور أجيندي (أليندي حسب ما يُكتب غالباً بالعربية) بإيعاز و عون وكالة المخابرات المركزية الأمريكية, و هو نفسه القاضي الذي حورب حتى أٌخرج من القضاء بعد أن حاول فتح ملفات الحرب الأهليّة الاسبانيّة, و هو نفسه القاضي الذي كان السفير الأمريكي في اسبانيا “يبازر” المدّعي العام الاسباني و وزير العدل كي لا تصله قضايا اغتيال مصوّر التلفزيون الاسباني خوسيه كووسو في بغداد و معتقلي غوانتانامو و رحلات طائرات السي آي أي التي مرّت بالمطارات الاسبانية بشكل غير شرعي, و كان المدّعي العام يقبل البازار بحماسة و يطأطئ رأسه بخجل عندما كان سعادة السفير يهدد بأن “صبره يكاد ينفذ” حسب ما ظهر في وثائق ويكيليكس.
مجارير الديمقراطية؟ الله أعلم

يقبع أسانج, رجل ويكيليكس اللعين, في زنزانة لندنية الآن بتهمة الاغتصاب.. لا نستطيع أن نؤكد إن كانت هذه التهمة من نتاج “مجارير الديمقراطيّة” أم أنها حقيقة, أو نصف حقيقة.. لا نعلم. لا نستطيع أن نجزم أيضاً إن كان ملاكاً هابطاً بسيف الغضب على رقاب فاسدي العالم و مفسديه, أو مجرد معتوه مصاب بجنون العظمة و رهاب العظماء, أو عميل لمخابرات مجرّة غرندايزر انطلق..
يسعدني حقيقةً أن أرى الشك في عيون الرأي العام العربي, و تسعدني أيضاً المقدرة الكبيرة على التحليل و التفكيك النقدي لهذه الظاهرة و الابتعاد عن التصديق و التسليم, بل و ترجيح “أمور خفيّة” وراء الرجل.. لا أتهكم, أقولها بصراحة, لكنني أقول أيضاً أنني أتمنى لو أن هذا المنطق النقدي يسري على جميع الأمور الأخرى, فعلى سبيل المثال هناك تناقض في الاستشهاد للتصدّي للـ “إعجاب” بهذا الرجل بما يرد في وسائل إعلام تقليديّة “ينفرط حبّها” إعجاباً عند حديثها عن الوليد بن طلال, الشريك اللصيق لروبرت مردوخ و المساهم الثاني في أكبر شبكة إعلام صهيونية و عنصرية في العالم أجمع. وسائل إعلام لم يجرؤ أيّ منها على تقديم مقاربة موضوعية و نقدية “لانتصار العربي المبهر” بتنظيم مونديال 2012 في قطر, و دعوني أستثني تلك التي انتقدت من منطلق العداء لدولة قطر و ليس رغبةً في الموضوعيّة, وسائل إعلام تتهجم على أسانج عندما يمس ما يُسرّب أسيادهم لكنها تستخدم وثائقه إن كان الأمر متعلقاً بخصوم أسيادهم (في موقع لإحدى المحطات الكبرى هناك مقالتان لنفس الكاتب “الخبير جداً”.. في الأولى يُرجع ظاهرة أسانج إلى مسلسل مكسيكي لا نعلم مَن يتزوّج مَن في نهايته, و في الثانية يستعين بوثائق ويكيليكس و يمدح قدرته على “إقلاق الامبراطوريّة”)

لماذا يصعب تصديق ويكيليكس؟
لنقفز فوق حقيقة أن ويكيليكس لا تقول شيئاً بل تنشر ما يُسرّب لها فقط, ولم يتمكّن أحد من إثبات زور شيء مما سُرّب (و لا أتحدّث فقط عن الكابلات الأخيرة و انما أيضاً عن وثائق أفغانستان و العراق و فيديو الهيليكوبتر في بغداد) فهذا يُفترض أنه معروف للجميع. البعض يؤكد أن التسريبات جزئية و قد تكون مقصودة لأسباب خفيّة.. نعم هذا ممكن, لكن أليس المعاكس ممكناً أيضاً؟ لماذا لا؟
لماذا يصعب تصديق ويكيليكس؟
عندما هُزمت إسرائيل في حرب تموّز و تحمّلت المقاومة اللبنانية 33 يوماً من العدوان الوحشي بصلابة أذهلت العدو قبل الصديق ذهب الكثيرون إلى البحث عن أسباب هذه النتيجة غير المتوقعة بسوق تبريرات لإسرائيل لدرجة لم تصلها وسائل إعلام العدوّ حتّى.. الأغلب كان يرفض الإقرار بانتصار “المجوس و الروافض” على إسرائيل, لكن البعض كان عاجزاً عن فهم مقدرة ميليشيا من آلاف قليلة على تحمّل ما لم تتحمّل ثلاث دول عربية جزءاً منه في حرب 1967.
لتبرير العجز ننحو (و الـ نا هنا لا تقصد العرب و إنما هي ظاهرة إنسانية شبه عامّة) دوماً باتجاه تضخيم المعوّقات و جعلها مستحيلة الاختراق و التصدّي, و لذلك, مثلاً, كانت إسرائيل أقوى من أن تُهزم في وجداننا (و لذلك كانت محاربتها ضرباً من العبث و التفاوض معها بحثاً عن الفتات هو الحكمة و العقل).
لا يمكن أن نتقبّل أن الامبراطورية التي تتحكم بمصائرنا عن طريق لعبها بحكّام العالم, الديمقراطيين منهم و الديكتاتوريين, كالدمى القماشية يمكن أن تُخترق من قبل شخص أو مجموعة أشخاص, إنها كاملة القدرات و جبّارة و لا تُهزم.. لا يمكن فهم ما يحدث إلا بالتفكير بمعجزة أو بمؤامرة, و كنّا دوماً أكثر استعداداً لإيجاد مؤامرة من البحث عن “معجزة”, لأننا لو قبلنا بإمكانية أنها “معجزة” فيجب علينا أن نتقبّل أن هذه المعجزة ربما تتكرر و تكون من نصيبنا إن تحدّينا وقاومنا الهيمنة الامبريالية وذنبها الطغياني, هذا يعني أن علينا أن نعمل, أن نناضل, أن نصرخ, أن نرفض.. أووووووووه تعب! الأفضل نفي هذه الإمكانية و لننم بانتظار ميعاد النوم.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى