صفحات ثقافية

الجنس والعنف في السينما

null
ميخائيل بويكو
ترجمة نوفل نيوف
ذات مرة تساءلت الكاتبة الأميركية سوزان زونتاغ على نحو ما: لماذا تمتلك ألمانيا النازية، وهي ذلك المجتمع القمعيّ من الناحية الجنسية، هذا القدْرَ الكبير من الشبقية (الإيروسية)؟ وعموماً، كيف يمكن العثور على شيء إيروسيّ في نظام شموليّ، سمةُ أفراده العزلة، تتحكّم به البيروقراطية إلى أقصى حدّ، ومهووس بالنقاء العرقيّ؟
مؤخّراً أصدر المؤرّخ الروسيّ أندريه فاسيليتشينكو كتاباً تحت عنوان “أسطورة الرايخ الثالث الجنسية” (بعد صدور كتابيه: “أسطورة الرايخ الثالث الآريّة “، و”أسطورة الرايخ الثالث الغيبيّة”) يُعَدّ محاولة للإجابة على السؤال الذي طرحته زونتاغ. ذلك أنّ ما يقارب نصف الكتاب مخصّص لاستعراض سياسة النازيين الديمغرافية (مشروع “ليبِنسبورن”، إخصاء “الناقصين”، التهتّك (البورنوغرافيا)، الدعارة والأخلاق الجنسية في ألمانيا النازية).
غير أنّ النصف الثاني من الكتاب هو الأكثر إثارة للاهتمام، إذ خصّصه المؤلّف لدراسة ظاهرة غرائبية لا تفسير لها وهي التهتّكية النازية (البورنونازية). والمقصود بهذا المصطلح هو ما يجري من استغلال في الفنّ الحديث (وفي السينما على وجه الخصوص) لمختلف أنواع الأساطير الجنسية، والاستعارات، والكليشيهات التي ترتبط بالرايخ الثالث على هذا النحو أو ذاك.
وقد ساهم في خلق البورنونازية أعلام كبار في السينما العالمية، أمثال لوكينو فيسكونتي (“مصرع الآلهة”، 1970)، وبيرناردو بيرتولوتشي (“الامتثالي”، 1970)، وليليانا كافاني (“البواب الليلي في الفندق”، 1973)،  وتينتو براس (“صالون كيتّي”، 1975)، وبيير باولو بازوليني (“سالو، أو 120 يوماً في سدوم”،1975). وكما نرى، فإنّ هذا الاتّجاه بلغ ذروته في النصف الأول من السّبعينات، إلا أنّ سيل الأفلام التجارية الرخيصة حول هذا الموضوع لم ينضب يوماً.
وينحصر مأخذنا الوحيد على المؤلّف في كونه يحاول جاهداً تفادي الوصول إلى أحكام نهائية، تتّصف بأيّ قدْر من الاكتمال. وهذا ما يجعل الإجابة على السؤال الذي تطرحه سوزان زونتاغ إجابة “مراوغة” تمتدّ على مساحة 250 صفحة هي متن الكتاب. على أنّه كان من المفيد للقارئ أن يحصل على صيغة واضحة، أو مفتاح يساعده في التعامل الأوّليّ مع هذا الموضوع.
إنه لمن أيسر الأمور أن نفهم السبب الذي جعل كبار أعلام السينما الأوروبية يجسّدون الدراما الجنسية، التي تملك عليهم خيالهم، في سياق جنسيّ. إذ يبدو أنّ الدور الحاسم في هذه المسألة منوط بالرغبة في خرق “التابو” المفروض على السادية ذات التوجه الجنسيّ التي كانت في ذلك الوقت حاضرة في كلّ مكان من السينما الأوروبية. لقد كان ذلك لغزاً غامضا، بل كما يشير فاسيليتشينكو، فالعلاقة بين البورنوغرافيا والنازية تُضاعِف تأثير الصدمة، وتزيد من جعل هذا الموضوع “زَلِقاً”، إذن وتجعله جذّاباً.
معروف منذ مدة طويلة أنّ الجنس والعنف يستدعيان اهتماماً زائداً لدى المتفرّج. ولذلك فكثيراً ما تدور أحداث هذه الأفلام في السجون ذات الحماية المشدّدة، وفي معتقلات البوليس أو في وطيس المعركة، أي في الأماكن التي تقدّم أكبر قدْر من الذرائع التي توجب استعراض العري والتعذيب والعنف. أليست، إذن، معسكرات الاعتقال الجماعيّ النازية، وأقبية الغستابو والمختبرات السرية هي التسويغ الدراميّ الأفضل لتقديم مَشاهد سادية مازوخية جماعية؟
وعموماً، فإنّ البورنونازية خليطٌ (كوكتيل) مؤلَّف من ثلاثة عناصر، هي: العنف، والجنس، والحالة النازية.
تعالوا ننظر، ما تفسير الإقبال على كلّ واحد من هذه العناصر.
إنّ العنف أبسط تلك العناصر. ذلك أنّ العنف على الشاشة وسيلة للتصالح مع الإساءات، مع الظلم، مع الإهانة في الحياة اليومية. ولكنْ كيف؟ إن ذلك يكون من خلال مطابقة الذات مع المسيء، مع المعتدي، مع الظالم. وإليكم أبسَط الأمثلة. عامل تخاصم مع مديره، يفكّر وهو يمشي: يا لهذا المدير من وغد! إنه وحش ضارٍ، وليس إنساناً! علماً بأن… لو كنتُ أنا مكانه لفرضت النظام فوراً! لكنت جعلتهم خاتماً في إصبعي! لجعلتهم يجأرون! لكي لا تبدو لهم الحياة عسلاً! ولكنّ هذا المدير تافه وضعيف. لا يستطيع إلا الصراخ! إنه ألطف إنسان!”.
معلوم أنّ قبول نظام الأشياء البعيد عن الكمال في الحياة الواقعية يخلّف في النفس أثراً انفعالياً مضنياً، عبّر عنه نيتشه بالكلمة الفرنسية ressentiment . هذا التحوّل النفسيّ الموصوف أعلاه (من “وحش ضارٍ” إلى “ألطف إنسان”) هو ما يكفل حدوث التطهّر (كاتارسيس)، الخلاص من ذلك الأثر. وعلى هذا التأثير تقوم ظاهرة حبّ الطغيان والظلم والإهانة. ذلك أنّ العنف الافتراضيّ نوع من الـ ressentiment العلاجيّ. فكلما ازداد العنف على الشاشة ازداد استعداد المرء للتصالح مع أكبر قدْر من الظلم في الحياة الواقعية.
إنّ الجنس السينمائيّ يتيح تحرير الشهوات الخفيّة، ولكن ما الذي يبعث على قبول السادية المازوخية؟ لماذا يكون التأثير الذي يخلّفه مشهد العنف المبطَّن بالجنس أقوى من التأثير الذي يخلّفه التعذيب الجسديّ المألوف؟ إنّ السادي العاديّ الذي يعذّب ضحيته لا يحصل إلا على لذّة غير مباشرة تتأتّى عن إدراك التناقض بين وضعه المريح وآلام الضحية. أمّا في حالة العنف الجنسيّ فإنّ الجلاّد يحصل على لذّة غير مباشرة أيضاً. إذ إنّ العنف على أساس إيروسيّ يكون أكثر نتوءاً ، أكثر امتلاء بالانفعالات. أمّا تناقض الأدوار في ثنائية الجلاد والضحية فإنّه يبلغ أقصى حدّ ممكن.
بقي علينا أن نوضح ما هي الحالة النازية. إننا هنا أمام عاملَيْن دالَّين. أوّلاً، إنّ الجرح التاريخيّ العميق المرتبط عند معظم الدول الأوروبية بالحرب العالمية الثانية، وكذلك عودة النازية الجديدة في كلّ مكان، لا يسمحان بالنظر إلى الدراما السينمائية نظرة مجرّدة. وثانياً، إنّ المتفرج عندما يطابق نفسه مع الجلاد إنّما يتذكّر سقوط النازية التاريخيّ. فهو يعرف أنه حتى الشرّ، وإن انتصر في فضاء فيلميّ محدود، مقضيٌّ عليه بالهلاك بالمعنى التاريخيّ الواسع. إذ يكون الجلاد ضحية مقضياً عليها بالهلاك، ومدافعة عن نفسها في وقت واحد. وهذا بدوره يضاعف الانطباع الذي يخلّفه الفيلم أيضاً.
وأخيراً، هل ينطوي اللعب بالبورنونازية على شيء من الخطر؟ لعلّ الجواب هو: نعم! ذلك أنّ الفيلم الباهر، القابل للحياة يزيل من الوعي الاجتماعيّ الواقعَ التاريخيَّ المتفكّكَ والآخذ بالضمور والذبول. على أنّ الجزء الأكبر من الناس يعتقد، على غرار جان كوكتو، بأنه ينبغي تفضيل الأسطورة (الميثولوجيا) على التاريخ، نظراً لأنّ “التاريخ مصنوع من الحقائق التي تصبح كذباً، في حين أنّ الأسطورة مصنوعة من الكذب الذي يصبح حقيقة”.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى