الأزمة المالية العالميةصفحات العالم

الحرّية الجديدة هي الحرية من الديون

دانيال غروس
قد لا يكون لدى قادة العالم وقت كافٍ في جداول مواعيدهم لحضور عروض مسرح برودواي، إلا أنهم هم الخاسرون إذا فوّتوا مشاهدة آل باتشينو في دور شايلوك في مسرحية “تاجر البندقية” في برودواي. لكنها ليست المسرحية الدرامية الآسرة الوحيدة عن الديون التي تستحق المشاهدة. “العالم كلّه خشبة مسرح”، هذا ما كتبه شكسبير في روايته “كما تشاء”. وفي السنة المقبلة، على الأرجح أن الاقتصاد العالمي سيشكّل منصّة كبرى للصدامات والتحدّيات والأزمات والانتصارات حول ديون العالم البالغة 82 تريليون دولار.
حتى الآن، كان تعريف القوّة يقوم إلى حد كبير على القوّة العسكرية أو السيطرة على موارد حيوية مثل النفط أو القدرة على اعتناق شكل من أشكال الرأسمالية المشحونة جداً، كما في الصين. لكن في سنة 2011 والسنوات اللاحقة، قد تكون القدرة على إدارة الديون المؤشّر الأفضل عن مكمن القوة الاقتصادية العالمية. عندما كان جورج دبليو بوش رئيساً، كانت “أجندة الحرّية” التي وضعها تتعلّق بالانتخابات الديموقراطية وإنهاء حكم الحزب الواحد في العالم النامي. أما الآن فأصبحت المسألة الأولى الحرّية من الديون المرهِقة وإعادة إرساء التوازن المالي في العالم المتقدّم. من سيُنهي سنة 2011 بحال أفضل مما بدأها؟ البلدان التي تدير بالطريقة الأفضل العملية الصعبة لخفض نسبة المديونية في الاقتصادات المتقدِّمة، وتلك التي تتمكّن من استخدام ظروف السماح الحالية لإرساء التوازن من جديد، وتلك التي لا تنجرّ إلى أزمة جديدة بإغواء من المال السهل.
لطالما كان الدين سيفاً ذا حدّين، وهذا أحد الأسباب وراء استخدام شكسبير له لإحداث مثل هذا التأثير الدراماتيكي. فما هو عائق بالنسبة إلى امرأة ما هو ورقة رابحة لامرأة أخرى. الدين هو رافعة، إنّه مضاعِف للقوّة يتيح لك أن ترفع شيئاً (سيّارة، شركة، اقتصاد استهلاكي بكامله) أكبر مما يمكنك رفعه بقوّتك الخاصة. ومن هذا المنطلق، إنّه محفّز كبير للحرّية. بالنسبة إلى المستهلكين الذين يقعون في أسفل الهرم، أصبحت القروض الصغيرة شكلاً من أشكال لاهوت التحرير. لكن يمكن أن تحدّ الديون أيضاً من الحرّية – إنها قيد، عقد. تربط أطرافاً معاً. ومنذ انطلاق الأزمة عام 2008، تقدّم المعنى الأخير إلى الواجهة، إذ يتبيّن أنه يمكن أن يكون الدين عائقاً للمدين والدائن على السواء، ولا سيما عندما يخرج عن مساره الصحيح. يمكن أن يحدّ الدين من القدرة على التحرّك، ويفرض شروطاً قاسية على أولئك الذين استدانوا أكثر من اللازم.
منذ فترة غير بعيدة، كان الخبراء الاقتصاديون يقصدون عندما يتحدّثون عن “فك التقارن”، دينامية تبدو فيها معدّلات النمو في بلدان مثل الصين منفصلة عن معدّلات النمو في الولايات المتحدة وأوروبا. أما الآن ففك التقارن هو بين البلدان التي ترزح تحت وطأة الديون وتلك التي ليست كذلك. لنأخذ على سبيل المثال معدّلات النمو المتباينة جداً بين المناطق الشديدة الاستدانة والمتقدّمة جداً (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان التي تتخبّط مع وتيرة نمو غير مُرضية) والبلدان النامية الأقل استدانة مثل الصين والهند والبرازيل حيث يخصّص المستهلكون حصّة متزايدة من مداخيلهم المتزايدة للاستهلاك – وهي دورة جيّدة وفاعلة تحفّز النمو. البلدان المَدينة مكبّلة بالتقشّف وخفض الموازنة وخفض نسبة المديونية. لهذا السبب، المعافاة بطيئة في الاقتصادات التي تخرج من الركود الذي تسبّبت به الأزمة المالية وأزمة الديون، كما يقول كينيث روغوف وكارمن رينهارت في كتابهما الواسع التأثير This Time is Different (الوضع مختلف هذه المرّة).
تُحدِث الديون تحوّلاً في السياسة والجيوبوليتيك. إنه لعالم غريب حيث تبدو الأرجنتين والبرازيل نموذجَين عن الاستقامة المالية في حين تبذل أوروبا والولايات المتحدة جهوداً هائلة كي تتمكّنا من السيطرة على شؤونهما المالية. استُخدِمت عبارة “الدول الفاشلة” للإشارة إلى بلدان على غرار الصومال عاجزة عن حكم أراضيها. أما الآن فتشمل كل البلدان التي فقدت السيطرة على شؤونها المالية مثل اليونان. لقد قامت أسواق الرساميل، من خلال إبدائها شكوكاً حول قدرة اليونان على تمويل نفسها، بما لم تتمكّن من فعله أي جهة أخرى: إرغام البلاد على إجراء إصلاحات جدّية. تحوّلت اليونان درساً ملموساً للبدان التي تملك عجوزات متضخِّمة. لقد تعلّم هذا البلد درساً قاسياً بأنّ القانون الضريبي الجيّد ضروري بقدر امتلاك جيش وشرطة فاعلَين. ليس المتمرّدون المحلّيون من يُهدِّدون السيادة الآن بل المستثمرون الدوليون.
بدلاً من سحق الأعداء العسكريين، رجال الدولة مدعوّون الآن إلى القضاء على الديون. في الواقع، يعمد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بهدف خفض العجز، إلى إجراء خفوضات كبيرة في الإنفاق العسكري، حتى ولو أدّى ذلك إلى الحد من قدرة البلاد على المشاركة في مهمّات مستقبلية على غرار مشاركتها في أفغانستان. يعزف كاميرون على وتر تشرشلي عندما يتحدّث عن خطط البلاد التقشّفية. لدى تسلّمه منصبه في أيار، نبّه الرأي العام البريطاني إلى أن المسألة الأكثر إلحاحاً التي تواجهها البلاد هي “عجزنا الضخم وديوننا المتعاظمة. سوف تؤثّر طريقة تعاطينا مع هاتين المسألتين في اقتصادنا ومجتمعنا، لا بل في نمط عيشنا بكامله”. إنها “معركة الثغرة” المالية.
لم يعد التفكير في خفض الديون حكراً على المتبحّرين في السياسات والمسؤولين الماليين. فالمعركة السياسية القاضية الأولى بين الكونغرس الجديد والرئيس أوباما لن تدور رحاها حول الرعاية الصحية، بل حول التصويت لزيادة سقف الدين العام المحدّد بـ14.3 تريليون دولار. ويشتدّ الغضب في بيجينغ بسبب استعداد أميركا لإدارة عجوزات ضخمة وزيادة الميزانية العمومية للاحتياطي الفيديرالي (لحسن حظ المستثمرين الأميركيين، فإنّ امتلاك المصرف المركزي الصيني كمّيات هائلة من سندات الديون الأميركية الحكومية – نحو 868 مليار دولار حالياً – يحول بطريقة من الطرق دون اتّخاذ بيجينغ خطوات من شأنها تعريضهم للخطر).
يشبه الاقتصاد العالمي هذه الأيام سباقاً تحاول فيه الدول المدينة أن تعدو بسرعة فيما أقدامها مكبَّلة بأوزان ثقيلة. في المقابل، تجري الرياح بحسب ما تتمنّاه سفن البلدان التي تملك معدّلات عالية من الادّخار ومستويات متدنّية نسبياً من ديون الاستهلاك والشركات والحكومات. لكن عليها أن تتوخّى الحذر أيضاً. فعشرات ملايين الأشخاص في الاقتصادات النامية ينضمّون إلى الطبقة الوسطى – ويحصلون على بطاقات ائتمان وصكوك رهن عقاري وخطوط ائتمان مصرفية. قد يؤنّب القادة الصينيون أميركا، بيد أن التقارير عن البلدات الشبحية المؤلَّفة من أبراج سكنية خالية من القاطنين، والنظام المصرفي غير الشفّاف تُظهِر أنّ الصين ليست ماهرة جداً في إدارة الائتمان.
لكن فيما تتخبّط الدول السيادية مع الديون، تزدهر الشركات. أفادت الشركات في مختلف أنحاء العالم من أسعار الفوائد المتدنّية كي تقوم بإعادة تمويل وتشقّ طريقها للخروج من المتاعب. تشير مؤسسة “ستاندرد أند بورز” في تقاريرها إلى أن عدد حالات التخلّف عن التسديد لدى الشركات – أي عجز شركات كبرى عن تسديد الدفعات المستحقّة على سندات الديون – تراجع إلى حد كبير في سنة 2010، وبلغ 68 فقط حتى شهر تشرين الثاني الماضي، مقارنة بـ250 حالة طوال عام 2009.
المتاعب التي يواجهها العالم حالياً مع الديون ظهرت لأول مرة في القطاع الخاص، مع اندلاع أزمة قروض الرهن العقاري العالية المخاطر عام 2007. لكن حتى في الولايات المتحدة، الأكثر تبذيراً بين الدول، اصطلح القطاع الخاص وأخيراً. لا يزال معدّل الادخار يحوم فوق خمسة في المئة، وتراجع الرصيد المستحق الدفع للائتمان المتجدّد (بطاقات الائتمان وما شابه) من 957 مليار دولار عام 2008 إلى 822 مليار دولار في آب 2010. وانخفضت الديون الأسرية في الولايات المتحدة للربع التاسع على التوالي خلال الربع الثاني من عام 2010.
قبل الأزمة، كانت ديون المصارف الاستثمارية تبلغ 20 دولاراً أو أكثر مقابل كل دولار من رأس المال. كان يُنظَر إلى الادّخار والرافعة المالية المنخفضة بأنها للعجائز والصينيين ومفسدي البهجة والحمقى. أما الآن فقد أصبح هذا المزيج ميزة تنافسية لـ”أسياد الكون”. في تقرير “جي بي مورغان تشايس” عن مكاسب المصرف في الربع الثالث من عام 2010، تباهى الرئيس التنفيذي، جيمي ديمون، وهو المصرفي الأكثر تأثيراً في أميركا، بأنّه ليست للمصرف رافعة مالية فيما تبجّح بالأرباح. ومن يستطيع أن يلومه؟
وهناك المزيد في الأفق. فباسم ترويج الاستقرار، على الأرجح أن تنظيمات “بازل 3” التي تحكم المجتمع المصرفي الدولي سوف تتخلّص من مزيد من الديون في المنظومة المالية العالمية. وقد انتقل المشهد من القطاع الخاص إلى القطاع العام. يبقى السؤال الكبير، كيف ستتعامل الولايات المتحدة، الاقتصاد الأكبر في العالم ومستهلِكة الملاذ الأخير طوال عقود، مع ديونها العامة الكبيرة؟ حتى الآن، أثبت المستثمرون في العالم أنهم مستعدّون لمنح أميركا قروضاً غير محدودة على ما يبدو بشروط سهلة إلى درجة استثنائية. بيد أن كلمة ائتمان بالإنكليزية credit مصدرها كلمة لاتينية تعني “إيمان”. والإيمان بالجدارة الائتمانية لمؤسسة ما – أو بلد أو شخص – يمكن أن يتبخّر بين ليلة وضحاها. اسألوا “ليمان بروذرز” أو اليونان.
إذاً لن نحتاج إلى تذاكر برودواي لمشاهدة دراما عن الدين يعتصر لها القلب في سنة 2011. ففي كل مكان من حولنا، تحاول البلدان المتقدّمة المثقَلة بالديون أن تتفادى تكرار المآسي اليونانية، فيما تسعى الاقتصادات التي تنمو بسرعة إلى منع حدوث كوميديا من الأخطاء. شكسبير هو الأنسب لقول الكلمة الأخيرة في الموضوع – وهي ليست من “تاجر البندقية” بل من “هاملت”: “لا تكن مقترضاً ولا مقرضاً”.

“نيوزويك”
ترجمة نسرين ناضر
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى