ما يحدث في لبنان

مصنع العملاء

null

بلال خبيز

اللبنانيون يبالغون في تقدير مبدأية حلفائهم الخارجيين، ربما لأنهم لا يملكون ما يجعلهم أصحاب قضية. دائماً القضايا تنبت ما وراء الحدود، ودائماً يكون اللبنانيون مجرد فئران اختبار في مختبر هائل لا حصر لضحاياه.

ليس أسهل من إطلاق التهم في بلادنا. والعمالة هي تهمة تطاول معظم الناس. تهمة باتت في لبنان رائجة أكثر من رواج الكوكاكولا. الناس كلهم عملاء، ذلك أن ليس ثمة من وظائف أخرى يجيدها اللبنانيون. عملاء أميركا وإسرائيل وسوريا وإيران. ففي هذا البلد المنكوب منذ أن وجد، لا يستطيع أي كان أن يصدق أن مواطناً لبنانياً، يحب بلده إلى حد أنه مستعد لأن يبدي رأياً مستقلاً في سياساته. وفي هذا البلد المنذور لهيمنات لا تحصى، لا يصدق أحد أن ثمة مَن ترواده رغبة في العمل بالشأن العام من دون أن يكون مدفوعاً من جهة خارجية. ما يجعل كل مَن يعمل في الشأن العام معرضاً لأن يعامل كما لو أنه عميل دولة أجنبية.

إنها عقدة لبنان. العقدة التي تجعل البلد ناقصاً في هويته وناقصاً في قدرته على جعل مواطنيه عملاء أنفسهم أولاً قبل أن يكونوا عملاء خارج ما. العقدة اللبنانية، هي تلك التي تجعل كل رأي مستورداً وكل وجهة نظر لها ما يسندها في الخارج الاجنبي: لا تهزم إسرائيل من دون ثورة الخميني، والدولة التي أنشأها الثوريون الإسلاميون تصبح بالنسبة لمَن يرى هذا الرأي في لبنان أهم من مصير البلد نفسه. إذ يستحيل بالنسبة لمَن يرى هذا الرأي هزيمة إسرائيل وأميركا من دون جمهورية إسلامية في إيران عزيزة ومنيعة ومرهوبة الجانب. وعلى المقلب الآخر، لا يمكن تحقيق الديمقراطية في البلد وسيادة القانون من دون دعم غربي، حيث مولد الديمقراطيات ومواطن رسوخها. لذلك يصعب أن يتقبل المرء من أصحاب هذا الرأي والتوجه هزيمة الديمقراطيات في مواجهة الأنظمة الشمولية.

مع ذلك، ورغم كل هذا الضيق، مازال ثمة مكان للبنانيين في لبنان. مكان تم اجتياحه مراراً لكنه مازال موجوداً. ومازال ناسه يؤمنون أن هذا البلد ممكن كوطن نهائي، وأن ثقافته تستطيع أن تكون ثقافة وطنية، ترفض ما لا تراه مناسباً وتعتنق ما تراه مفيداً. مازال البلد يضم في حناياه بعضاً من مواطنية محبطة. مواطنون يحبون بلدهم أكثر مما يحبون سوريا وإيران والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، ويأخذون على المقاومة الإسلامية فئويتها وليس تصديها للمشروع الإسرائيلي، ويأخذون على مدعييّ الديمقراطية والليبرالية في هذه البلاد أنهم يأخذون هذه النظريات بحرفها ولا يفكرون قليلاً أو كثيراً في مدى ملاءمتها.

مازال اللبنانيون أحياء، ومازال ثمة بينهم من يستطيع أن يرفع صوته. وإن كانوا قد أصبحوا قلة قليلة. ذلك أن هذا البلد، رغم حروبه وكوارثه وزلازله التي لا تتوقف، فإنه لا ينفك يعلمنا جميعاً أن الأوطان لا تبنى إلا بالعرق والجهد، وأن الصعاب التي يتعرض لها هذا البلد، قد تكون بسبب الإفراط غير المجدي والاستعجال في محاولة الوصول به إلى بر الأمان. متعجلون كثيراً، لكننا أيضاً نحسن أن نكون لبنانيين. ومازال في الإمكان أن نكون كذلك.

لكن تفشي العقدة اللبنانية بين اللبنانيين يقضي بأن ينكر كل طرف على الطرف الآخر لبنانيته، وينسبه «بعجره وبجره» إلى خارج تام المعنى. لكن التفكر ملياً في ما قد يجري خارج الحدود قد يعيد إلى اللبنانيين البصيرة التي يفتقدونها في الملمات. لو أن أحداً يسأل نفسه: هل التسوية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران مستحيلة؟ وفي حال أن تسوية ما تمت بين الدولتين، هل يمكن أن يبقى عملاء اليوم عملاء الغد؟ أم أن الأمور قد تتخذ منحى أكثر مغايرة؟ وأيضاً هل تستحيل التسوية بين سوريا وإسرائيل؟ وفي حال حصولها، ووصول البلدين إلى إبرام اتفاقية تنهي حال الحرب على الأقل، فهل يتوجب على المناضلين ضد إسرائيل اليوم أن يبدلوا من وجهة سلاحهم؟ أم أن مثل هذه التغييرات لا تعني شيئاً في المدى المحلي؟

اللبنانيون يبالغون في تقدير مبدأية حلفائهم الخارجيين، ربما لأنهم لا يملكون ما يجعلهم أصحاب قضية. دائماً القضايا تنبت ما وراء الحدود، ودائماً يكون اللبنانيون مجرد فئران اختبار في مختبر هائل لا حصر لضحاياه. وحده الإيمان بهذا البلد وطناً نهائياً له مصالح وحدود ويملك قضية يدافع عنها هو ما ينقذ اللبنانيين من حقل التجارب الذي يمكثون فيه منذ عقود. لكن ولادة القضايا لا تبدو متيسرة في بلد لا يقيم مقدموه وسياسيوه وزناً لدماء أبنائه واستقرار عيشهم وازدهار رزقهم.

* كاتب لبناني


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى