ما يحدث في لبنان

كيف تذوي المدن طرابلس في شمال لبنان نموذجاً

null
نهلة الشهال
هذه مرثية لمدينتي لا أقولها بخفة أو تجرد، وإنما بحزن وأسف… وحب جم.
يُروى أن المدينة المسكونة من أكثر من نصف مليون إنسان، اهتزت كل مرة جدران أبنيتها بفعل الانفجار الهائل، من دون أن يهتز ناسها الذين أكملوا مشاغلهم المعتادة وكأن لا شيء. عرفوا بالقتلى والجرحى، وإنما سُعد كل واحد منهم لأنه ليس من بينهم، لا هو ولا أبناؤه ولا أخوته: تلك هي أقصى دائرة تثير اهتمامه. قالوا لبعضهم بعضاً ان المخططين للانفجار وقّتوه قبل موعد مرور الحافلات التي تنقل التلاميذ إلى مدارسهم. ولولا ذلك لكانت كارثة. فالانفجار الأخير، قبل أيام، وقع على تقاطع إجباري لسير كثير من تلك الحافلات. أما انفجار شهر آب، فوقع في قلب المدينة، في عقدة مرور رئيسة وفي شارع مكتظ بالمصارف…ولكنه أيضاً استبق الدوام بنصف ساعة! يا لحسن الحظ. يكادون يمتنون لحصافة المفجّرين. وفي مساء ذلك اليوم، بعد الإفطار وحتى السحور، قام سكان المدينة بما اعتادوه في أواخر شهر رمضان من نزهة، للتبضع وللترفيه. ينبغي القول أنه الوقت الوحيد في السنة الذي تعيش فيه طرابلس، إذ تمتلئ ليلاً شوارعها بالناس ولا تبقى مقاهيها مقفرة، ويحدث تزاحم أرجل في الأسواق. ولكنه نشاط يدور في حلقة ذاتية، فليس من يقصد طرابلس لسبب من الأسباب التي تُقصد من أجلها المدن. وحتى سكان أريافها فئتان، واحدة اغتنت وباتت من قاطني المدينة ومن أكثر تجارها ازدهاراً، وأخرى بقيت على فقرها وليس لدى أفرادها سبب لارتيادها أو قدرة على ذلك.
ليس السلوك حيال حوادث الانفجارات الدموية المتكررة في المدينة إلا مظهراً لداء افتك. فالمدينة استبطنت تهميشها: معرضها الدولي الذي كانت هندسته ريادية حين أنشئ في الستينات، لا يعمل إلا عرضاً – وهي حال أدنى من العمل الموسمي. ومرفأها الذي يفترض أن يكون رئة للتجارة والأرباح، عمل بطاقته الفعلية في الفترة التي استخدمه العراق خلال الحرب مع إيران، ثم عاد إلى البطء والعرضية هو الآخر. أما قلعتها الأثرية فجهزت لاستقبال الزوار وإحياء الحفلات ثم سرعان ما أهمل أمرها… فما الذي سيجذب إلى طرابلس؟ وعلام يعتاش أهلها، إن تخلينا عن الجاذبية وارتضينا الإيقاع العادي؟ عاشت طرابلس تاريخياً من الانفتاح على الداخل العربي عبر البوابة السورية، وقد اضطربت هذه الأخيرة إن لم نقل أكثر. ليس من مدينة تتضرر من التوتر مع سورية كطرابلس، ولكن ليس من مكان في لبنان عانى من الارتكابات السورية في الفترة السابقة كطرابلس. وهذا إشكال أول.
ثم حلم ناسها، أو توهموا، أنهم رابحون من الاستقطاب الطائفي السني- الشيعي المستعر في لبنان. أليسوا هم و«ريفهم» الكتلة السنية الصافية، الأكبر عدداً والأكثر امتداداً، «خزان السنة» كما يحلو لهم توصيف أنفسهم؟ أحبوا آل الحريري، الأب ثم الابن، انطلاقاً من مفاعيل مفترضة لذلك التأكيد. ولكنه تُرجم بضعف، كما يقولون بمزيج من الاستحياء واليأس.  كانوا في الأثناء قد فقدوا زعيمهم التاريخي، ذاك الذي كان يغطي على نواقص حيوية المدينة بحضوره كرئيس متكرر للوزراء، وباعتراف سائر الزعماء في لبنان له بأنه في الصف الأول بداهة. وبقيت العلاقة بالحريري الأب والابن برّانية، يأتي المدينة في المناسبات الجلل، ولكنه نادراً ما يأتي. ثم يحل ويربط، برضا وجهاء طرابلس بالتأكيد وليس غصباً، ولكنها تبقى معالجات «من فوق»، مثالها الأخير والأبرز هو المصالحة (الضرورية) التي أجريت مع ممثلي «بعل محسن»، الحي المسكون من سكان علويي المذهب. وفي حصيلة الأمر، تبقى بيروت نقطة المركز من حضوره وهمه، وإلا فهي صيدا، ركيزته الاجتماعية الأصلية…
ثم تأتي مسألة الإعانات، النقدية والعينية، التي باتت، والحال تلك، فئات كبيرة من المدينة تعيش معتمدة عليها. وهذه يوزعها «تيار المستقبل» كما سائر زعماء المدينة من المقتدرين جداً، نواباً ووزراء. وهي ممارسة، إن كانت «ضرورية» لإنقاذ الناس من الفاقة الكبيرة القائمة في الغذاء والدواء ثم الدراسة، إلا أنها تقضي على ما تبقى لديهم من امتلاك لموقف ولمرجعية قيمية، سواء في خصوص الاتجاه السياسي أو التقييم الاجتماعي…حيث يضاف إلى انسداد الأفق المحكم الموصوف ذاك، والمولد لقحط ولرتابة حياة يجعلها التراكم تداني الاضمحلال البطيء، يضاف إذاً تحويل الناس إلى «متعيشين»، متفننين في تعظيم حصصهم بواسطة التردد على المانحين كلهم، الواحد بعد الآخر، وبغض النظر عما يقولون أو يدعون إليه. فالهدف أن ينال المرء من كل منهم أكبر مقدار ممكن وفوري من المساعدة. بل تقضي تلك الممارسة الطاغية على ما تبقى من تماسك النسيج الاجتماعي. فالرابط بين الناس يعتل أصلاً متى ما فقد المكان المعني ديناميته الخاصة المولدة لنظام الإنتاج والعلاقات والتبادل. فكيف حين يسود اقتصاد الإعاشة الذي لا يتطلب من المرء سوى الوصول إلى مركز التوزيع قبل الآخرين، ومنافستهم على المتوافر عبر تعظيم المصيبة الذاتية بالمقارنة بمصيبتهم، ثم مداراة الإهانة التي يمثلها ذلك الاستجداء، أو وهو الأفظع، الحسد المحتمل، بالتستر والكتمان حيال اقرب المقربين…ما يبدو إذاً تطبيقاً لمبدأ الإحسان يتحور هنا ويتشوه ليصبح علة قاتلة. والسبب هو المكانة العظيمة بل الطاغية التي يحتلها. فبتحوله إلى ركيزة لحياة الناس ولعلاقاتهم،  ينقلب إلى نقيض المنطق الذي نشأ عنه، من دعوة إلى التعاضد وإلى السؤال عن الآخرين.
يصف واحد من أكثر سكان المدينة حساسية ومراقبة لما يجرى، المشهد في مساءات رمضان بما يشبه ما يسميه هو «يوم الفناء»: تختلط  في شوارع المدينة وعلى أرصفتها، في ضجيج يصم الآذان، سيارات لشبان وضعوا مكبرات صوت وحشية تبث أغاني منحطة من الدارجة اليوم، بسيارات تبث المدائح النبوية، بمتنزهين على الأرصفة تمر بينهم وتكاد تدهسهم الدراجات النارية رباعية العجلات، وهي عنوان اقتدار ما،  بنساء مسنات متسولات، بمحجبات مختلطات يداً بيد مع متخففات من الثياب حد الشبهة، بفتيات تبدو واحدتهن أكبر من عمرها بسنوات، تثرثر بلا انقطاع في هاتف نقال آخر صرعة، وتستعرض أشياء أخرى لا تناسب مدخولها كبائعة في محل تجاري كاسد، وشبان أمضوا النهار في التسكع وها هو مساؤهم ينتهي على شكل جماعات صغيرة تجوب الشوارع بحثاً عن مشكل…
فهل بعد ذلك يبقى من معنى للكلام عن قوة «التيار السلفي» في المدينة، كظاهرة تستدعي التحليل؟ أهو «اتجاه» أم ملجأ للبعض يفسره في أحسن الأحوال الافتقاد إلى معنى، ولكنه يخضع هو الآخر، وفي نهاية الأمر، إلى قانون الاعتياش إياه!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى