صفحات ثقافية

“خطاب مقابل خطاب” ليواخيم هلفر: توتاليتارية مضادة؟

null
الكتاب الصادر أخيرا عن منشورات “دار الجمل”، حمل أول الأمر، عنوانا هو “لوطنة العالم”، وقد صدر بنسخته الألمانية عام 2006، إلا أن اعتبارات النشر في العالم العربي حالت دون اعتماد الترجمة العربية للعنوان الأصلي، فاتُفق على اختيار عنوان يحمل الدلالة المباشرة حول ما يهدف إليه الكتاب، وهو “خطاب مقابل خطاب”، للألماني يواخيم هلفر، ترجمة يوسف حجازي. الكتاب موجه بشكل أساسي كتعليقات للرد على الروائي رشيد الضعيف في كتابه “عودة الألماني إلى رشده”. أما خلفية الكتابين فهي على الشكل الآتي: ضمن إطار برنامج “شرق – غرب” الذي موّلته الحكومة الألمانية ونظّمه معهد غوته، إضافة إلى مؤسسات ألمانية أخرى، بحسب ما ورد في مقدمة كتاب رشيد الضعيف، يتم اختيار كاتب من بلد عربي أو إسلامي للسفر إلى برلين والإقامة هناك لمدة ستة أسابيع، يُجري خلالها نشاطات مع كاتب ألماني. ثم تكون الخطوة الثانية أن يزور الكاتب الألماني بلد الكاتب العربي، لإجراء نشاطات مشابهة، مما يعزز معرفة كلٍّ منهما بالآخر عن كثب. وقد تم اختيار الضعيف عام 2006.
بدأت “القضية” عندما اكتشف الضعيف أن زميله الكاتب الألماني يواخيم هلفر هو ذو ميول جنسية مثلية، فشكلت هذه الحقيقة محور كتاب  له صدر عام 2006 عن “دار رياض الريس للكتب والنشر”. أما ما كان يقصده الضعيف من عنوانه “عودة الألماني إلى رشده”، فهو التحول الذي من شأنه قلب مسار السياق الدرامي في كل عمل روائي أو سردي، والذي رصده حين يلتقي زميله الألماني بفتاة ألمانية في بيروت، ويحدث بينهما نوع من التوافق أو الانسجام، مما يؤدي لاحقا إلى علاقة جنسية، الأمر الذي يعتبر بحسب عنوان الكتاب اللبناني، عودة إلى الرشد، محوّلا إياه منطقاً يقوم خارج مقام المثلية الجنسية، وهذا في ذاته مفاجئ للوهلة الأولى، حين صدر عن كاتب يعتبر من أنصار تحرير المعتقدات والتقاليد البالية. لكن التمعن في الكتاب مضمونا، يرتدّ إيجابا نحونا ونحو الضعيف، إذ نجد أنه يعكس الذهنية السائدة في مجتمعاتنا في ما يخص المثليين، أكثر من كونه موقفا للكاتب اللبناني نفسه.
بصرف النظر عن ارتباط العنوان بذهنية ما حيال المثليين، إلا أنه كما الكثير مما تضمنه الكتاب، أثار حفيظة الكاتب الألماني يواخيم هلفر إذ يبدو وبحسب تأويله المضاد لكتاب الضعيف، وكأن كينونة الإنسان لا تتحقق بغير تحققه من هويته الجنسية، والتي يجب إحالتها بشكل مباشر وشديد القسوة والمفاجأة، على ذكورية، كميزة تصنيف، في مقابل أنثوية المرأة. يقول هلفر في كتابه: “تكمن التبعات الخطيرة في تعميم منظومة المعادلات: الأولى، رجولي = مُولِج = غيري الجنس = متفوق. والثانية، أنثوي = مُولَج بها = مثلي الجنس = أدنى منزلة”. وفي هذا تفاضل للذكر على الأنثى، وامتياز يعطى في السرير للمُولِج على حساب المُولَج به. وهذا من شأنه ان يعكس ما تعانيه مجتمعاتنا العربية حصيلة قرون طويلة من الانغماس في العتمة، وخوفنا من المرآة، التي وإن وضعناها أمام وجوهنا، أو أجسادنا العارية، فسنجد في ذواتنا خوفا من مثلية، أو من احتمال وجودها. وهو خوف غير مبرر في كل حال من الأحوال، ذلك أن الكثيرين من المشاهير والفنانين والسياسيين كانوا مثليي الجنس، وهذا الأمر لم يقلل من شأنهم أو دورهم الإجتماعي على الإطلاق. أكثر من ذلك، أعتبر الكتابة بمثل هذه المقارنة الدفاعية، أمرا يشي بأنني أحاول رفع المثليين إلى مستوى حق البشر العاديين، وهذا ما لا أجده لائقا ههنا، لأنني أؤمن بأن هؤلاء لا يحتاجون الى من يبرر وجودهم في المجتمعات، أكثر مما يحتاجون الى تجاوز هذه المجتمعات سؤال حقوقهم المدنية والسياسية، وضرورة إقرارها كاملة بلا أي تحفظ، وهم الموجودون دائما، إلى جانبنا كشركاء لنا، بل فلنقل إننا الموجودون كشركاء لهم: الإسكندر المقدوني، فاتح معظم بلاد العالم، فريدريش ملك البروسيين العظيم، كريستينا ملكة أسوج في القرن السابع عشر، الامبراطور الروماني ادريانوس في القرن الأول للميلاد، الملك الفرنسي هنري الثالث في القرن السادس عشر، إضافة إلى ليوناردو دافنشي، وميشال فوكو، وأدباء أمثال أندره جيد وأوسكار وايلد وبول بولز، وموسيقيين مشاهير امثال إلتون جون وجورج مايكل، والممثل راندي هاريسون. من المؤكد أن القاموس الإنساني يضم أسماء مثليين كثر ممن أثروا تاريخ البشرية وتطور ذائقتها الفنية وخياراتها السياسية والاجتماعية، لكن كما تقول الجملة المعروفة فإن المجال لا يتسع لتعدادها هنا.
يتمكن هلفر من إلتقاط ما يقع خارج ثقافتنا للنقد الذاتي، ذلك أن الكتاب الذي يهدف الى الرد على الضعيف، من شخص الى شخص، لا يحدد فقط مسؤوليته الأدبية في هذا الموقع، بل يتجاوزها ليقرأ ملامح بيروت التي زارها، بالشفاه التي لا نستطيع نحن استخدامها، كما يذهب إلى التاريخ، في استعراض شبه مقارن بين حضارتين عربية، إسلامية – مسيحية شرقية، وغربية مسيحية من ناحية، ليضعنا أمام مراحل تطور المثلية كمفهوم إجتماعي سائد في أوروبا، وإن لم يتعمد الكاتب تأريخ هذه المثلية. إذ إن بيروت اليوم وباعتبارها واحدة من أكثر المدن العربية تماهيا مع شرق وغرب، لا تزال غير قادرة على صهر المثليين ضمن نظامها السوسيولوجي، فكيف هي الحال مع المدن العربية الأخرى، كمدن الخليج أو القاهرة. بل أكثر من ذلك، فإن ذهنية رشيد الضعيف (ودائما بحسب هلفر) حول المثليين، وتوجسه الدائم من احتمال محاولة هلفر التودد نحوه، أو إقامة علاقة جنسية معه، حالة يعمّمها الكاتبان من دون مواربة. إذ يجنح الضعيف إلى الاعتقاد بصحة ما يقوله، وفقا لخلفية أعماله الأدبية، التي يتناول الكثير منها الجنس وتشعباته على المستويين الإجتماعي والنفسي. أما الكاتب الألماني فيقدم بدوره الكثير من المعطيات التي تشير إلى أسلوب معالجة الضعيف لمسألة المثليين، بوصفه أسلوبا يتربص في المخيلة العامة للمجتمع اللبناني، الذي يحيله على جزء من المجتمع العربي أو الذهنية العربية. وهذا صحيح إلى حد بعيد.
القارئ، لا بد من أن تضعه كلمات الكتاب أمام سؤال من عيار ثقيل، حول مدى قبول كلٍّ منا للمثليين، أو ما إذا كان جزء منا ذا ميول مثليّة. في حالة رشيد مثلا، يدفعه ذلك إلى تغطية ذراعيه في إحدى المرات خوفا من أن يغري الشعر الكثيف النابت فوقهما، الكاتب الألماني الجالس بالقرب منه. فكما يورد الضعيف في كتابه، فإن الشعر الكثيف يشكل عنصر إغراء بالنسبة الى المثليين الذكور. يورد هلفر ملحوظة حول الخلل الذي يخترق النظام الاجتماعي اللبناني حيال المثليين، إذ أن ممارسة التقبيل في لبنان وبحسب تعبير هلفر، هي “رياضة وطنية”، فالرجال يقبلون بعضهم بعضا، أصدقاء أو معارف.
لا شك في أن هلفر يستطيع تبيان مواطن الخلل في النظام الاجتماعي المتوارث الذي نتبعه في الكثير من مفاصل الحياة العامة، من دون أن نعرف عن دلالاته. لكن علينا ألا ننسى أن هلفر محاط ببيئة ألمانية، ومقررات سياسية واجتماعية تحمي المثليين، وتحافظ على حقوقهم. فلا نستغرب إذ نعلم أن محافظ برلين، مثليّ: “أنا لوطي- والأمر بهذا على ما يرام”، فيما قد يبدو مثل هذا التصريح مستحيلا في بلاد العرب. هذا الواقع يخبئ في طياته الكثير من نقاط النقص في النظام السياسي – الإجتماعي في الدول العربية، والذي لا يزال عاجزا عن تقديم حقوق البشر إلا وفق انتقائية تشترط عدم التعارض مع النظم الدينية والتقليدية، وأحيانا، ويا للأسف مقتضيات السياسة والتمييز العنصري.
لكن هلفر يغالي اذ يستخدم خياراته المثلية كمقياس عام لإعادة تنظيم مجتمع لبناني، بل وإعادة تحميضه، وفق مدوناته الشخصية، على أنه مجتمع رجاله مهووسون بالمثلية و”يعيشون في ذعر دائم من شيطان، عاجزين عن رده إذا رأوا رجلا نصف عار أو غلاما”. هذا ما يعتبر حكما أخلاقيا توتاليتاريا، لا نجد صحة في تعميمه. وهذا ليس انحيازا الى بلد كلبنان، بقدر ما هو تشديد على التنوع السوسيولوجي الذي يغذي الكثير من الأفكار حول القيم الانسانية، وسبل تحقيقها. نحن نتفق حول الكثير مما أورده الكاتب الألماني عن سلطة الجسد في لبنان، في مقابل التابوهات المنصوبة على أكثر من زاوية في طريق تحرير الإنسان، لكننا نعتقد كذلك باستحالة سلخ الجغرافيا عن الخلفية الحضارية والتاريخية، بحجة اللحاق بركب القيم الأشمل. هذا الأمر شديد الصعوبة، كما لا يمكن أن يتم خارج الإيقاع البطيء لتغير المجتمعات كما يخبرنا تاريخ البشرية.
المقارنة بين مجتمعين، ألماني ولبناني، لا بد أن تأتي على هيئة غير متكافئة. إذ يستحيل في بعض الأحيان، نزع الحدود الفاصلة بين اعتبارات مختلفة، كالأخلاقيات العامة من جهة، وتعميم خيارات شخصية كالمثلية، وفرض ملامحها من جهة أخرى. وبخاصة في مجتمع شديد التنوع، يضم فئات تتعادل في التطرف، سواء بدعوتها الى التزام التعاليم الدينية، أو بدعوتها الى إقرار الحقوق المدنية والسياسية في ما يتعلق بالمثليين. وفي الحالتين، نقرأ نموذجا حول حرية الفرد في اختيار ما يتلازم واقتناعاته الشخصية، وواحد منها هو العيش بحسب خلفية شرقية. يقول هلفر: “لكن كان قد فاجأني بالفعل أن لا يكون مسموحا لي في غرفة الرجال لتغيير الملابس بأن أبدل ملابسي الداخلية وبأن أرتدي سروال السباحة أمام خزانة حفظ الملابس كما في برلين، وبأن أكون مجبرا على القيام بذلك خلف ستارة. وأضحكني ذلك الإعلان الذي شاهدته مكتوبا بلغات عدة معلقا بجانب المرآة أثناء استخدامي لمجفف الشعر: يرجى من الزبائن المحترمين تجفيف شعرهم وهم بكامل ملابسهم وليس بالسروال الداخلي”.
إلا أن كتاب هلفر يذهب إلى أكثر مما هو رد على رشيد الضعيف، أو مجرد تعليقات، إذ إن الأسلوب الذي يعتمده الكاتب الألماني لطرح أفكاره يقدم الى القارئ العربي نموذجا لمثقف على دراية بتاريخ ما اختاره. ذلك أن اختياره أن يكون مثليا، لا ينسحب على اعتباطية، أو مجرد موضة، بل هو نتيجة صراع طويل مع مفاهيم بائتة وغير مبررة، جرى هدمها في أوروبا، من أجل تعزيز المساواة بين أفراد المجتمع الواحد والارتقاء بالجسد وقيمته وخياراته وتحقيق حاجاته العاطفية المجردة من الهوية الجنسية. ولا شك أن هناك الكثير مما يجب قراءته كذلك، وما قدمنا هنا هو قراءة مقتضبة لبعض ما جاء في الكتاب الشيق، الذي هو مرآة جارحة لصورتنا من الداخل. لكن من الضروري الاعتراف بحاجتنا اليها، وبجدواها.

مازن معروف
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى