روزا ياسين

الحلقة الرابعة

null


نيغاتيف –  من ذاكرة المعتقلات السياسيات –
روزا ياسين حسن

الحرب النفسية أولاً.. الاعتقـال
الأغاني:
بكرا لما بيرجعوا الخيّالة
بترجع يا حبيبي..
صوت بثينة.ت(37) يصدح في ممرات فرع الأمن1 قاهراً الصمت الوحشي، مالئاً حنايا الجدران الموحشة بألفة غريبة تماماً عنها. صوت بثينة كان بحقّ عنواناً لسنوات الاعتقال حتى لا يكاد حدث يغيب عن مرمى صوتها وأغنياتها. وقت يأتي الليل، يغيب الرعب الذي يبثه عناصر الأمن بين الزنازين وفي الكوريدورات، تبدأ بثينة الغناء من المزدوجات التي كانت مليئة بالمعتقلات، ليردّ عليها المعتقلون في الزنازين الأخرى. أغنيات تتوالى وتتصاعد حتى الصباح. كأن الغناء كان الوسيلة الوحيدة لإعادة الروح إلى مكانها بعد أن مسخها المعتقل! حتى السجانة بكوا أحياناً تحت عصف أغنية ما! ولطالما ناجاها المساعد “أبو شادي”:

ـ غنّي قليلاً.. صوتك حلو.. غنّي قليلاً.
يتمايل تحت سطوة الطرب وهو قابع على كرسي المراقبة، ومفاتيح الزنازين تتحول بين يديه إلى آلة موسيقية تخشّ مع النغمات.

ربما تحيل تلك الفكرة للذاكرة فيلماً كرتونياً من إنتاج شركة والت ديزني للسينما. الفيلم يحكي قصة المتمرد الإنكليزي الشهير روبن هود في حربه ضد الملك المزيف. روبن هود (الثعلب) ظلّ مرابطاً في غابات شيروود حتى عودة الملك ريتشارد (الأسد) من حروبه واستعادته الكرسي الملكي من جديد. في ذاك الفيلم الكرتوني يعمل المتمردون في الغابة على تأليف وتلحين أغنية ساخرة عن الملك الأخ (الأسد الأصلع)، الطاغية الذي استولى على العرش في غياب أخيه، وراح يضطهد الناس ويسرق أموالهم. وصلت الأغنية إلى القصر الملكي، ذلك أن للأغنيات أجنحة في العادة. وصلت بالضبط إلى مسمع جنود الملك. ليأتي من ثمّ مشهد معبّر للغاية يغنّي فيه قائد جند الملك (الدب) الأغنية نفسها التي تفضح الطاغية وتهزأ به، يغنيها وهو طَرِب مأخوذ بنغماتها اللطيفة، فيسمعها الوزير (الحيّة) منه ويبدأ هو الآخر الغناء بدوره.

ربما كان للأغاني قوة لا تستطيع أية سلطة أن تقوّضها. للأغاني أجنحة قادرة على هزيمة أية جدران مهما علت وبدت عصيّة على الاختراق. للأغاني مكان في القلب لا علاقة له بانتماءاتنا، ذلك أنها تخاطب ذاك الجزء العميق والمدفون في داخل كل منا مهما كان، ومهما اختلفت دوافعه وآراؤه واعتباراته ومصالحه.

في مشهد ليس ببعيد كانت بثينة.ت تغنّي ذات ليل، وتردّ عليها حميدة.ت من المزدوجات الأخرى المقابلة حتى طلع الصبح حوالي الساعة السادسة. حينئذ جاء السجان م، الملقّب بالحمام الزاجل(38)، وهمس إلى بثينة من وراء باب الزنزانة متأثراً:

ـ كنت أسمعك منذ بداية الليل.
ـ لمَ لم تقل لي؟ كنت غنّيت لك الأغنية التي تحبها.. يا جبل البعيد.
ـ لو عرفتِ أني أسمعك لما غنّيت مثلما غنيت اليوم.. كان غناك حلو.. حلو كتير.

حنا الجودة أيضاً كان شريكاً في حفلات الغناء.
هو رجل لبناني فلسطيني نحيل غزا الشيب كامل رأسه فأضحى كتاج من فضة يميزه. كان حنا متهماً بتزوير جوازات سفر، وإدارة السجن تستخدمه لجلب المعلومات من بقية المعتقلين. على الرغم من أن الجميع، تقريباً، كان عارفاً بوظيفة حنا المخابراتية إلا أن صوته الجميل، خصوصاً حين يغني مواويل عبد الوهاب ويصدح في كوريدورات الفرع، ينسيهم أي موقف مسبق منه:

بالبحر لم فتكم بالبر فتوني
بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني..

أمام زنزانته رقم 201 كان حنا يستطيع الجلوس على كرسيه بعد أن يرشي السجانة بمبلغ ما. ككل ليلة كان يبدأ بغناء شيفرته التي صارت معروفة في الفرع: ردّي علي كلّميني. حينئذ تردّ بثينة، وقد فهمت الشيفرة وحفظتها، من الطاقة على السقيفة فوق المزدوجات، فيبدو صوتها هادراً كأنها تغني في مكبر للصوت. يبدأ الثنائي، بثينة وحنا، بالغناء الشجيّ الآسر حتى يبكي السجن كله. لكن ذاك اليوم أتى واكتشف أطباء السجن أن مرض السرطان طال كبد حنا الجودة بالكامل، وأن أيامه غدت معدودة. جلبوه من المستشفى ليودع السجن بكل نزلائه: السجانة والمعتقلين. وضعوا له الكرسي في الكوريدور، كما كان يحبّ دائماً طيلة سني سجنه، لكن هذه المرة بجانب مزدوجات الصبايا. ومن هناك استطاعت المعتقلات رؤيته من ثقب الباب.

كل بدورها تتلصص عليه ثم تترك الثقب لرفيقتها.

كان حنا الجودة قد أضحى نحيلاً للغاية وشاحباً كشبح. وقتئذ، وحالما لمحته بثينة على هيئته المحزنة، صارت تناديه من الداخل: ردي عليّ كلميني. الشيفرة التي كان يناجيها بها. لكنه بقي صامتاً هزيلاً على كرسيه ولا يرد. أخيراً غنّت له بثينة:
قديش حلوة هالشيبة
بتنقّط حسن وهيبة

وبكى حنا الجودة للمرة الأخيرة.
بعد يومين أعيد إلى المستشفى ومات هناك.
عن الأغاني كتبت ناهد.ب في مذكراتها:
(كان الغناء هو الوسيلة الأخرى للمقاومة وللتواصل مع الزنازين أيضاً. خاصة أن أزواج بعض رفيقاتنا كانوا هناك.
بعد نوم الحراس كان صوت بثينة الشجي يحضر أغاني فيروز لعندنا فيغيب المكان والزمان، ونطير مع طيارة فيروز الورقية، ونجلس تحت العريشة سوا، والزنابق حدنا تعلو، ونشم رائحة الطيون يا ستي، ونسهر على السطح كي لا ينسانا القمر.
كانت تجلس على السقيفة فوق المزدوجات بجانب النافذة المطلة على الممر، وتبدأ الغناء ليسمع زوجها ورفاقه في الزنازين..
يا حلو شو بخاف إني ضيعك..
طلعنا على الشمس طلعنا ع الحرية..
يا حرية يا طفلة وحشية.. يا حرية.)

1982
لم يكن أمام هند.ق(39)، في فترة اعتقالها الطويلة في المنفردة، إلا الغناء لفيروز بصوت خفيض، الأمر الذي وهبها متعة لها ملامح الخلاص من ذاك الحيّز المضغوط الخانق والموحش كقبر. ربما كانت تغنّي لنفسها ليس إلا. مع مرور الأغاني والأيام نفذت ذاكرتها تماماً، كل ما كانت تحفظه من الأغاني ألقته في هدوء زنزانتها، صاخباً أو ناعماً، بنغمات سريعة أو متهادية.. ألقته كله! ثم بدأت تجاهد لتذكّر أغنية جديدة.

ربما مرت ساعات وهند تقلّب ذاكرتها بحثاً، وحين تتذكر أغنية منسية تشعر بسعادة غامرة وهي تدندنها كأنها أهديت كتاباً جديداً يعمل على بثّ الألق في خوائها. إنه أسلوب نفسي لا غير، أنا مقتنعة بذلك.

الاعتقال والتحقيق حرب نفسية لا غير.. وينبغي ألا أسمح لمعنوياتي بالانهيار. لم يكن التعذيب هو ما يهدّ كياني بل الحرب النفسية أولاً. يريدونني أن أنهار قبل أن أتلقى صفعة واحدة، أن أدخل غرفة التعذيب وأنا منهارة ومحطمة، بالتالي يأتي الضرب تتمة للانهيار النفسي. بعد أكثر من 45 يوماً من سجني في المنفردة قمت بصنع ملعقة من عظم ظهر الفروج، استخدمتها طويلاً لآكل بها بدل الملاعق المنفّرة التي كان السجانة يأتونني بها مع قصع الطعام المعدنية. اعتدت الملعقة، أحببتها، صارت جزءاً من عالمي الضيق، جزءاً خاصاً ومميزاً في مكان لا حميمية فيه إلا مع الأشياء. كانت تلك الملعقة من أشيائي الحميمية هنا. أتى وقت بليت فيه مع الاستعمال، فبكيت.. بكيت طويلاً عليها، أحسست بأن جزءاً دافئاً ويخصّني قد غاب.

الحرمان كان يحيط هند بكليتها. الحرمان من كل شيء. كان الأمر كما وصفته تماماً: حرب. حرب يؤيدها شعور أليم بالوحدة والحصار والعجز. لكن الأمر الأكثر إيلاماً كان حرمانها من رائحة القهوة الأثيرة إلى قلبها. لم يكن لصباحات الزنزانة معنى الصباحات وهي تمضي دون رائحة خرجت من ذاكرتها لتحاصرها في كل دقيقة. انحصرت كل رغباتها في لحظة برشفة من القهوة تفوح منها رائحة الهيل المنكّه. رشفّة واحدة قد تختصر كل رغباتها، تكثّفها. تجرأت ذات صباح وقالت للسجان:
ـ أنا على استعداد أن أعطيك كل ما معي من نقود. فقط اجلب لي فنجاناً من القهوة.. أيام طويلة مرت لم أتنشق فيها رائحة القهوة.. فنجاناً واحداً فقط.

كانت تملك في ذلك اليوم حوالي المئة ليرة.
لكن السجان لم يستجب لها في المرة الأولى، نظر إليها لا مبالياً، رمى لها القصعة، وخرج مغلقاً الباب.

صارت تطالبه بالقهوة كلما أدخل لها الطعام، أو أخرجها إلى التواليتات، أو فتح عليها الزنزانة.. تحاصره بحنينها العاصف لرشفة.

ذات يوم جاءني ظهراً، سألني عن كاسة الستانلس التي أشرب فيها.

ـ وين كاستك يا 36؟
همس برقم زنزانتي وقد صار هو اسمي.
لدهشتي أخرج من وراء ظهره إبريقاً معدنياً، سكب سائلاً بنياً له رائحة القهوة ولونها البنيّ المعتق في كأسي، لتصعد الهبلة حولها، وتعبق الرائحة في الزنزانة الضيقة. رائحة نفاذة تفتّح الروح حتى أني خشيت أن يشمّها من في الخارج. كانت تلك أثمن هدية قد تتلقاها امرأة في زنزانة: كأس كامل من القهوة الساخنة.. يا إلهي كم كانت ساخنة وشهية ومليئة بالغواية! ظللت أرتشف من القهوة حتى المساء. رشفة فرشفة.. كأني كنت أخشى أن تنتهي. كلما فُتح باب الزنزانة أخبئ كنزي وراء الفرشة التي أتوسدها، لأعود إليه من جديد، أتوحد مع لذته، حال انغلاق الباب.

بعد تسعة أشهر في المنفردة، بلا زيارات ولا أغراض، ومع توقف التحقيق منذ وقت طويل كان الكيل قد فاض بهند، ولم تعد تقوى على الاحتمال. ذات صباح حين جلبوا لها الفطور صاحت بالسجان، بكل ما أوتيت من قوة وحزم جمّعتهما طيلة الشهور الماضية:

ـ أنا مضربة عن الطعام.. اذهب وقل لمديرك.
ما كان من السجان إلا أن ذهب من فوره، ليأتي رئيس السجانة. أجابته الجواب نفسه فما كان من الأخير إلا أن ذهب مسرعاً ليأتي ضابط جديد، ويسأل عن السبب.
ـ إما اعطوني كتب أو جرايد.
قالت هند وهي تتكئ على الحائط في زاوية الزنزانة.
ـ أنت سجينة وتريدين أن تطلبي وتتغنجي؟ أنسيت أنك سجينة؟
ـ انقلوني إلى مهجع النسوان إذاً.
ـ ومن قال لك أن عندنا نسوان؟!!
ـ لا.. عندكم نسوان..
ـ وهل نجلب لك نساء من الشارع حتى تفرحي؟!

صرخ الضابط ساخراً بتكشيرة مرعبة على وجهه الغاضب. لكنها كانت مصرّة فقد فاض الكيل بها حقاً. تسعة أشهر في منفردة لم تكن لعبة بالمرة. في الساعة الثالثة ظهراً قالوا لي أن أضبّ أغراضي. لم يكن لدي الكثير: بشكير ومحارم تواليت وكاسة ميلامين ودخان حمرا. خلال دقائق كانوا ينقلونني إلى مهجع اسمه: المهجع 11. تناهى إلى سمعي، وأنا أقترب في الكوريدور، صوت وشوشات ناعمة كانت تتصاعد والسجان يفتح لي الباب. وانسفحت أمام ناظري مجموعة نساء مبعثرات في المهجع.

كان مهجعاً للمعتقلات الإسلاميات! لم أكن أتصور البتة أن هناك سبع إسلاميات معتقلات قربي في قبو الفرع وطيلة شهور. الآن أصبحت أنا المعتقلة الثامنة بينهن.

لكن السجن يدمّر البشر بالمعنى الداخلي. السجون أساليب لقتل البشر في البشر. يُغلق الباب فيفيض الأسوأ، وكل ما عمل المرء خارجاً على إخفائه أو مداراته، أسوأ ما في الإنسان أي الجانب الذي لم يفكر به يوماً، يخرج بكل وضوح. الناس عارية هناك أمام بعضها، عارية تماماً، والعري صعب أمام النفس فما بالك أمام الغير. في اليوم الثاني لمجيئها إلى مهجع الإسلاميات طلبها (المعلم): اسم كانت الإسلاميات يطلقنه على مدير السجن. خاطبها (المعلم) بلهجة هادئة غير مألوفة بعد أن طلب من الحاجب أن يقدم لها كأساً من الزهورات الساخنة. كانت المرة الأولى التي تراه هند فيها، لأنها المرة الأولى التي تصعد إلى مكتبه دون أن تكون الطميشة على عينيها.

ـ ارتحت في المهجع؟
ـ كله سجن.
ـ طيب.. ما رأيك أن تناضلي بين الإسلاميات؟
ـ هذه ليست شغلتي.

كان جواب هند على اقتراح المعلم أن تعمل مخبرة وسط الإسلاميات. لكن مع ذلك ظل المدير طويلاً يشرح لها كيف يجب أن يعاقب المرء حين يخطئ، والإسلاميون أخطؤوا، وعليهم أن يعاقبوا. وربما كانت هذه وسيلة كي تكفّر هند عن أخطائها بحق الوطن.. وما إلى ذلك من خطبة طويلة استمعت إليها هند مرغمة. نصف ساعة كاملة وهو يتكلم فيما تستمتع هند بدفء السائل المحلى ينزل متهادياً إلى جسدها. نهاية الحديث كان واضحاً أن المعلم أسقط في يده.

ـ هل تريدين شيئاً؟
سألها بجفاء هذه المرة، واعتقدت هند أنه سيعيدها على الفور إلى المنفردة.
ـ أريد تشعيلة للدخان فقط.
ـ اطلبي من السجانة عندما تحتاجين إليها.
ـ كلما طلبت منه يتمايع ويتغالظ.. في الحقيبة التي جئت بها تشعيلة.. بدي إياها بس.
ـ وماذا أيضاً؟
ـ كتب أو جرايد ومجلات.. سأصبح أمية بعد فترة إذا ظللت هكذا.
نزلت هند من مكتب المعلم، لكن إلى المهجع 11 وليس إلى الزنزانة، معها التشعيلة فقط، دون كتب ومجلات بالطبع.. لتظل حوالي الشهرين قبل أن يطلق سراحها من اعتقالها الأول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى