صفحات مختارةمازن كم الماز

دفاعا عن اليسار العربي ؟؟

مازن كم الماز
في الحقيقة لن أحاول هنا أن أدافع عن اليسار العربي , بل عن ضحية أكثر أهمية بكثير , تصوب عليها البنادق اليوم بحمية أكثر مما تصوب إلى اليسار العربي نفسه و لذلك تنتهي الأمور للأسف بإعادة الاعتبار علنا أو ضمنا لأسوأ ما في ذلك اليسار العربي تاريخا و حاضرا , هذا الأسوأ هو ازدراء الجماهير بالتحديد و الوصاية عليها , و تلك الضحية هي الجماهير و بالتحديد تلك الجماهير التي كان يفترض باليسار العربي أن يمثلها أو على الأقل أن يعبر عن صوتها طوال العقود الماضية . يقول الشيوعي الإنساني الأمريكي الأفريقي سي . ل . ر . جيمس في تحليله للعلاقة بين الستالينية و القضية الزنجية , أن موقف الستالينية الحقيقي من الجماهير هو التلاعب , و أن أساس هذا الموقف هو ازدراء الجماهير , لكن في نفس الوقت , كان على الستالينية , كي تنصب نفسها وصيا على هذه الجماهير , أن تعلن نفسها كحامي لمصالح هذه الجماهير , مصالحها “الحقيقية” بعيدة المدى و الآنية في نفس الوقت ( 1 ) . يفترض ناقدو اليسار العربي أن هذا اليسار كان يحمل مشروعا تحرريا جديا بالفعل ( 2 ) , أو تصورا عن هذا المشروع على الأقل , و هم يعتبرون أن العديد من المفاهيم أو الأفكار أو التصورات التي قام عليها هذا المشروع , و بالتالي أي مشروع تحرري بالضرورة , هي التي كانت وراء تهافت مشروع اليسار العربي و انتهائه بدعم صريح مخجل لحالات شمولية من القمع و النهب المنفلتين في كثير من الأحيان . الحقيقة هي أن هذه النهاية إن صح القول قد نتجت عن وعي اليسار نفسه و عن أسلوب تفكيره و بالتالي جوهر مشروعه التاريخي و وريثه الراهن أيضا و ليس عن صفته التحررية المزعومة , مشروعه الذي كان يعبر عن رؤية شمولية للواقع و لموضوعة التغيير , و خاصة العلاقة مع الجماهير . كان اليسار العربي قد بدأ بالتشكل بعد أن كان اليسار العالمي في مراكزه ( الاتحاد السوفيتي و بالتتابع في كل مكان تقريبا مع تقدم الكومنترن الظافر ) قد أصبح تحت هيمنة القراءة الشمولية للماركسية , عدا عن ذلك , كانت ظروف صعود اليسار امتدادا , أو انعكاسا في أضعف الأحوال , لظروف النهضة التي اعتبر فيها مثقفون “متنورون” إلى جانب سياسيين , من منابت و أصول اجتماعية تقليدية أو برجوازية صغيرة في وقت لاحق , أنهم “ممثلون” “طبيعيون” عن مجتمعاتهم المتخلفة و مارسوا بالتالي عملية وضع مشاريع فوقية نخبوية تحمل حسب زعمهم هدف و هاجس النهضة , نهضة “المجتمعات” بالطبع الأمر الذي يفترض أن يعني أساسا نهضة “الشعوب” أو “الجماهير” , كان يجب “تحضير” مجتمعاتنا و لا سيما “الإنسان” في مجتمعاتنا هذه من فوق , و في مرحلة لاحقة حتى “تثويرها” , بالقوة إن لزم الأمر , بقوة الأمر و القمع , في النهاية لن يجري أي تحضير أو تحديث أو تنوير أو تثوير جدي أو عميق أبعد من القشور الشكلانية و السطحية , سيجري فقط بناء ديكتاتوريات نخبوية فوقية تحمل مظهرا “متحضرا” أو “متنورا” أو “ثوريا” خارجيا , أما شعبيا , على مستوى الشارع فستحدث ردة ” مستحقة معادية للحداثة” السلطوية و النخبوية على حد سواء كنتيجة طبيعية لتهافت مشاريع “التنوير” و “التحضير” و “التثوير” من أعلى , الأمر الذي يثبت من جديد صحة الموضوعة القائلة بأنه يمكن إخضاع الجماهير و إكراهها لبعض الوقت , لكن لا يمكن استغباؤها طوال الوقت . لقد كان هناك بالطبع تصورات لمشروع تحرري حمله بعض المثقفين و عدد أقل من السياسيين , بضعة أفراد , سواء من الطبقات الفقيرة أو المتوسطة و حتى الكبيرة أحيانا , لكنها كانت ذات وضعية هامشية و استخدمت في كثير من الأحيان كجزء من الدعاية للمشروع السياسي الفعلي لقيادات اليسار العالمي و العربي , بينما كان المشروع اليساري الأساسي الذي جسدته قيادات الأحزاب اليسارية العربية ( القومية و الماركسية على حد سواء ) و منذ وقت مبكر جدا مشروعا تسلطيا , أو حتى شموليا . من الصحيح أن صعود اليسار العربي في مراحل معينة ارتبط بحراك استثنائي في الشارع تجاوز حدود تسلط النخب الاجتماعية , و في وقت لاحق المثقفة , على هذا الشارع و وصايتها , لكن اليسار العربي لم يسع في معظم الأحيان وراء حراك كهذا , و فضل , بمعظم فصائله , المساومات الفوقية مع القوى السائدة أو , في حالة اليسار الأكثر راديكالية , أي الذي كان يسعى وراء تغيير جذري بالفعل , أشكال “النضال” الفوقية ( كالعمل في الجيش مثلا ) على العمل المباشر في الشارع . و عندما ظهرت المقاومة الفلسطينية على سيبل المثال كتتويج لحراك جماهيري غير مسبوق في حجمه و استقلاليته في نفس الوقت , ليس فقط عن الأنظمة و التيارات الفكرية و السياسية المعادية أو ما كانت تسمى بالرجعية , بل حتى عن تلك اليسارية و القومية السائدة , بل و على النقيض منها أو على الأقل انطلاقا من موقف نقدي تجاه تجربتها , و في نفس الوقت كتعبير عن حالة غضب جماهيرية على الأوضاع السائدة التي كشفتها و عرتها هزيمة يونيو حزيران و فعل و مبادرة جماهيريتين أقرب إلى حالة الخلق منها إلى حالة تكرار أنماط مقاومة سابقة ( أو تطويرها الخلاق في أضعف الأحوال ) , عمل الجميع ( من كل الجهات , من الغرب الرأسمالي إلى الاتحاد السوفيتي , من دول الخليج إلى دول الصمود و التصدي ) على بقرطتها و أدلجتها و رشوتها باتجاه إلغاء استقلالها كحركة للجماهير الفلسطينية تتمتع بعطف شديد من الجماهير العربية و إخضاعها للوصاية من مراجع إيديولوجية و اقتصادية و سياسية معينة , و أخيرا فصم عرى العلاقة بينها و بين الجماهير العربية أولا ثم الفلسطينية ثانيا .
إن هذا النقد النيوليبرالي للمشروع اليساري التقليدي ( صفة النيوليبرالية مستحقة كما أزعم ليس فقط فكريا بل و سياسيا أيضا مع ملاحظة أنه يمكن أيضا تسميته بنقد ما بعد يساري لأنه جاء من صفوف اليساريين السابقين غالبا ) لا يرى مأزق المشروع اليساري التقليدي في فوقيته و نخبويته و بالتالي ازدراءه بالجماهير , و لا في اعتماده على بيروقراطية الدولة كرأس حربة لتنفيذ هذا المشروع بالاعتماد أساسا على قوتها و وظيفتها القمعية “الشرعية” فوق المجتمع أو بالوصاية المطلقة عليه بل في تهافت قيم العدالة و المساواة نفسها أي تلك التي ميعها و زورها اليسار الرسمي و لفقها لصالح ستالينية متعطشة للهيمنة خاصة على الفقراء و المضطهدين أو مشاريع رأسمالية دولة بيروقراطية محلية . هنا بكل بساطة يعيد النيوليبراليون إنتاج كل هذا لكن تحت شعارات إيديولوجية مختلفة أو معادية . و ليس غريبا لذلك أن نجد أن الليبراليين العرب , و هم نتاج من نتاجات هذا اليسار إلى حد كبير , لا يسعون أيضا وراء حراك جماهيري على مستوى الشارع . إن مفهومهم عن المجتمع المدني لا يعني بأي حال من الأحوال إطلاق حراك جدي في المجتمع , و لا مفاهيمهم الأخرى عن الديمقراطية التمثيلية أو المواطنة و غيرها , إنها مثل مفاهيم و أطروحات اليسار الذي جاؤوا منه أطروحات فوقية نخبوية معادية للجماهير بمعناها الواقعي أو الفعلي , كل هذا هو جزء من عملية إنتاج “حقيقة””تمثيلهم” للجماهير و بالتالي إلغاء هذه الجماهير و استلاب صوتها و مصيرها , نسخة جديدة لما قامت به الستالينية اليسارية و القومية في الواقع ذات يوم تجاه نفس الجماهير , أعني آباءها و أجدادها . إن الدولة المدنية الحديثة في الخطاب النيوليبرالي هي النسخة الأخيرة من “ديكتاتورية البروليتاريا” النخبوية الفوقية , إنها تطوير لها و ليست نقيضها , أما ما تسمى بمنظمات المجتمع المدني فهي تطوير “عصري” أو نيوليبرالي للطليعة اللينينية السابقة , و هي مثل تلك الطليعة ليست مسؤولة أمام من تدعي تمثيلهم , هي فقط مسؤولة أمام نفسها , و هي تفرض عليهم تعريفها لهم و تعريفها لنفسها كممثل “وحيد و شرعي” و كحامل لفكرة الديمقراطية التي تعني هيمنتها هي كما كانت الاشتراكية تعني هيمنة الحزب الطليعي على الجماهير , و هي كما يقول ديفيد هارفي في كتابه عن النيوليبرالية ( التي صدرت ترجمته العربية عن العبيكان , 200 ) نتاج للسياسات النيوليبرالية إلى حد ما و نتيجة لتكيف النخبة مع سياسات الطغم المالية و الاجتماعية السائدة , إنها لا تبرر فقط انسحاب دولة الرفاه من واجباتها الاجتماعية و إلغائها لمنظومات الأمان الاجتماعي السابقة لصالح تعزيز أرباح و حرية رأس المال في النهب فقط , بل و تدعو و تحاول تكييف الطبقات المهمشة و المعدومة و التي تزداد فقرا مع تلك السياسات بمحاولة ملئ الفراغات التي تركها ذلك الانسحاب و إلغاء منظومات حماية المعدومين و المهمشين لصالح الحفاظ على الوضع القائم و تلطيف مساوئه أو نتائجه الكارثية على الناس . و مع سيادة الإحساس بالتفوق على الجماهير و احتقارها و الارتياب بها في نفس الوقت , و بضرورة دمقرطتها و لو بالقوة ( إن لم يكن بالقوة أساسا ) فإننا أمام نخبة لديها نموذج – مثال مسبق جاهز , متكامل و تفصيلي و مدرسي في تفاصيله و وضوحه و سهولة استهلاكه و بالتالي عرضه و ترويجه , بقدر ما هو مجرد و مغترب عن واقع الجماهير الفعلي , لتلك “الديمقراطية” المطلوبة – و هو النموذج الرأسمالي الغربي , و مفعمة بالعزم على فرضه من أعلى . هذه هي الوصفة المطلوبة لبناء ديكتاتوريات جديدة ( أو إعادة بناء الديكتاتوريات القديمة ) , الشعارات تلعب هنا دورا مخادعا فقط بل و حتى ديماغوجيا , فالشعارات تتغير لكنها لا تشترط تغيير المضمون أو النظرة الفوقية أو الموقف من الجماهير . إن النيوليبراليين هم بلاشفة أيضا بهذا المعنى , بل هم ربما أكثر سوءا , أي ستالينيون جدد .
لذلك لا يستحق تاريخ اليسار العربي الدفاع عنه بحماسة , بل انتقاده بحماسة , فهذا هو الدفاع الأمثل عن الجماهير العربية نفسها … تماما كما أن أفضل دفاع عن حرية الشعوب و المجتمعات , التي تعني أساسا حرية الطبقات الأكثر تهميشا سواء اقتصاديا و اجتماعيا و بالتالي سياسيا و فكريا , هو انتقاد واقع الخطاب النخبوي الجديد , النيوليبرالي …..
باختصار , عند الحديث عن يسار عربي , و الأهم عن مشروع تحرري يخص الجماهير العربية , ليست القضية في الدفاع عن صحة ما كتبه قادة أو سياسيون أو منظرون “يساريون” بعينهم , عربا كانوا أو غير ذلك , فما كتبه هؤلاء قد يصيب و قد يخطأ , القضية في الدفاع عن شرعية المشروع التحرري ذاته , عن ضرورته , و عن جوهره الضروري و الوحيد , و هو تحرر البشر الواقعي , و عن الحقيقة المغيبة , القديمة التي تعود إلى أيام الأممية الأولى , و هي أن تحرر البشر لن يكون إلا نتاج نضالهم هم بالذات …..
( 1 ) C.L.R.James 1949 , Stalinism and Negro History , from
//www.marxists.org/archive/james-clr/index.htm
( 2 ) عندما سئل الشيوعي المجالسي باول ماتيك عام 1938 فيم إذا كانت ثورة أكتوبر قد حققت أهدافها البروليتارية أجاب : “إنني أرفض فرضية السؤال الأول أنه كانت للثورة البلشفية أهدافا بروليتارية . الطبيعة البروليتارية للثورة الروسية هي ظاهرية فقط . من الصحيح أن العمال الثوريين كانوا يتطلعون بحماسة لشكل مفهوم بصورة غامضة من الاشتراكية , لكن في كل ثورة برجوازية يشارك فيها العمال , كانت الأهداف البروليتارية واضحة ( أيضا )” .
نقلا عن www.marxists.org/archive/mattick-paul/index.htm
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى