صفحات الناس

من سيلان الى دمشق

null
عناية جابر
في رؤية يريد لها أن تتفق مع الواقع، كتب الإسباني أدولفو ريفادينيرا كتابه: ‘من سيلان الى دمشق’ تاركاً مشاعره وذاتيته خارج الكتابة، مُتفرّغاً فحسب الى نقل ما يراه. هذا تماماً ما فعله ريفادينيرا في كتابه الذي ذكرنا، عن دار ‘المدى’ مُوجهاً صفعة الى الرومانسية التي كانت تلفظ أنفاسها في مرحلة كتابته، وتُضجر القارىء من بحثها عن مشاهد أكزوتيكية، سواء في الجمال أو الحرّية، وفي الطبيعة الموحشة والتأمل على الأطلال، والمغامرات وقصص الحب المستحيلة.
رومانسية مُحتضرة في زمن كتابة ريفادينيرا كتابه، كما أن ما يُسمّى بالأدب الواقعي كان بدأ بإحداث فجوة مع كتّاب أمثال تولستوي في روسيا، وديكنز في إنكلترا، وزولا في فرنسا، وغالدوس في اسبانيا، اسباب حدت بالكاتب الى استخدام أسلوب واضح وبسيط لسرده، ينأى – بحسب رغبة الكاتب – عن أساليب الرحّالة الرومانسيين (ألا يجدر بالرّحال أن يكون رومانسياً)! من أمثال شاتوبريان، ولورد بايرون، ولامارتين، ونيرفال، وغوته، ممن جعلوا من شرق البحر المتوسّط مكاناً خيالياً، وحصيلة أحلام يقظتهم أكثر مما هو حصيلة الواقع برأي الكاتب.
في ‘من سيلان الى دمشق’ أوضح ريفادينيرا غايته من هذه المذكرات: ‘اننا قلة قليلة نحن الاسبان الذين نخرج من أوروبا، وكل ما نعرفه عن البلدان البعيدة علينا قراءته في كتب ألفها اجانب، هم فرنسيون في معظم الأحيان، والواقع أن مؤلفاتهم تلك، لا تتميّز بدقتها، كما وتعكس بصورة مُبالغ فيها شخصية مؤلفيها الإنفعالية’.
كتاب ماتع في فكرته، فكرة الرحلة أساساً من سيلان الى دمشق عبر الخليج الفارسي وبلاد الرافدين، وفكرة، يُدين بها ريفادينيرا لوالده الذي رغب في القيام بتلك الرحلة، على غرار رحلات كثيرة له سابقة، قاده شغفه اليها وشملت اماكن مختلفة من العالم.
إعتلال صحة الوالد حال دونه ودون مشروعه المُغري، وبالتالي تخلّيه عن الرحلة، ليحققها في ما بعد ابنه ريفادينيرا الوافر الصحة، وصاحب الميل الطبيعي مثل والده الى الترحال. رحلة ليست في وارد التباهي بكثرة العلم والمعرفة، بل هدفت الى توثيق ما يرى الكاتب في رحلته، من دون تأملات مُطولة وأحكام شخصية وأشبه بالإلتزام بالقول العربي المأثور: ‘أفضل وصف يُروى هو ذاك الذي يجعل من الأذن عيناً’.
الحقيقة والدّقة اذن عند أدولفو ريفادينيرا، بدائل عن الأسلوب واللغة عند سواه من كاتبي أدب الرحلات. مع ذلك يعترف الكاتب أن ما هو أصعب من رحلته تلك، هو وصفها.
من بالبارايسو الى بومباي، ومنها الى البصرة، ومنها الى بغداد فالموصل، فديار بكر، فحلب ودمشق وتدمــــر، كتب ريفادينيرا المولود في بالبارايسو (تشــــــيلي) 1841 وكان والده أحد أهم الناشرين في القــــرن التاسع عشر، ومؤلف بيبلوغرافيا الكتّاب الاسبان التي أكملها ابنه أدولفو ريفادينيرا بعد موته.
الواقع ما نجده في الكتاب بحسب متابعتنا كقراء سرد أدولفو الجاف، ولا شيء آخر وعلى حسب ما اشتهى هو نفسه. كتابة حيادية ترجمها صالح علماني، المتخصص بالأدب الاسبانو امريكي، والصديق لمعهد ثربانتس في دمشق. هي المرّة الأولى التي تُترجم فيها هذه الشهادة القيّمة في ما احتوته من مشاهدات (لسنا نتكلم في المشاعر هنا) الى العربية، اللغة التي أحبّها ريفادينيرا وأتقنها. شهادة أو مذكرات قيّمة، لكن حياديتها مُستفزّة في رحلة الكاتب (لخلطة) بلدان عربية، وحيادية اكتفت بإنعاش ذاكرة مُسطحة لقارىء مثل هذه السير من دون ادنى تفاعل.
إذا كانت الرحلة، رحلة أدولفو، هي لإعلان شغف (على ما ذكر) بمثل هذه البلاد وناسها، فهو لم يُصب. ولا أشك ان بعض العاطفة للبشر والحجر سوف لن تتجاوز وصف الواقع الذي يلحّ عليه الكاتب، فالواقع ناشفاً لا يعدو أن يكون صورة (فوتو).
والواقع بحذافيره لا يصنع من أدب الرحلات، ادباً مؤثراً. وصف حيادي يطمس الواقع الفعلي، فتستحيل الكتابة، رتابة فادحة. هكذا يقرأ أدولفو ريفادينيرا مُدننا وناسنا وعاداتنا، إذ من يكتفي مثلاً بقراءة مثل هذا الوصف لمدينة حلب من دون أن يشعر بنقص في روحه: ‘حلب’، أو ‘بريا’ القديمة كانت في البدء مدينة شبيهة بكركوك وأربيل. حلب كلمة عربية، وعبرية أيضاً تعني الحليب الطازج. مئات المآذن وقباب الحمامات، وأراض مقفرة في جانب، وفي جانب آخر بساتين وحقول شاسعة ضاربة الى الحمرة، حيث تكثر أشجار الفستق الحلبي. سرد طويل بالطبع في وصف حلب وسواها، لكنها كلّها على التقشّف ذاته، ما يُمرض الروح
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى