صفحات العالمميشيل كيلو

حرب من نمط جديد؟

ميشيل كيلو
تتشكل منذ قرابة عقد ونيف ظروف حرب من نمط جديد، وسيلتها العلم كأداة عسكرية مباشرة، تستخدم ما في نظمه المتفوقة من قدرة على تعطيل نظم العمل والعيش والحرب لدى البلدان الأخرى: بتعطيل إدارتها والسيطرة عليها من دون تدميرها مادياً بالضرورة، أي مع بقائها قائمة وسليمة كنظم خام .
خلال حرب البلقان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، استخدم الأمريكيون وسائل الحرب الجديدة لتعطيل قدرة القيادة اليوغسلافية السابقة على إدامة حياة السكان الطبيعية، وعمل الدولة ووظائفها، وإدارة عمليات الدفاع العسكرية عن النفس . وقد أطلق المهاجمون موجات ضباب أحدثتها قنابل صوتية أدت إلى تعطيل مولدات الكهرباء، وانقطاع التيار الكهربائي عن مناطق معينة وحتى عن الدولة بأسرها، من دون تدمير محطات توليد الطاقة أو مسها بأذى . ثم مع تطور نظم المعلوماتية وتحولها إلى “بنية فوقية” كاملة للمرافق والمنشآت الصناعية والزراعية والتجارية، وللنظام المصرفي ونظم المواصلات، وللتواصل الحكومي والإداري، تركز نمط الحرب الجديد والمختلف على هذه القطاعات، وخاصة منها نظام المعلوماتية، وانتقلت الحرب من ساحة القتال إلى شاشات الكمبيوتر الشخصي والرسمي، وبدأت حرب سرية لا يعلنها أحد، تدور حتى في جيب أي شخص أو داخل سيارته، تنخرط فيها أو يمكن أن تنخرط فيها الدول والشركات والأفراد، بهدف شل الجهاز العصبي لدى الخصم أو العدو وتعطيل جسدية بلده المادية، التي يقودها هذا الجهاز العصبي . والنتيجة، يستسلم العدو أو الخصم لعجزه عن إدامة السير العادي للحياة العامة، وتأمين الخدمات الأولية لمدنه وقراه وصناعته وتجارته، وصيانة وحفظ التواصل داخل الحكومة والشعب وبينهما، وتالياً صيانة التسلسل الهرمي: الإداري والطبيعي، الذي يشكل قوام الدولة ويضمن عملها ونظامها الخاص وأمن مواطنيها، فتجد نفسها مجبرة على الاستسلام، كما حدث في يوغسلافيا، التي أجبرها انقطاع الكهرباء والماء عن المدن، وتوقف التواصل بين أجهزة الدولة العليا والدنيا، وتوقف قطاراتها وسفنها النهرية وناقلاتها الضخمة، وتاليا قدرتها على إمداد سكانها بالماء والغذاء، رغم أن جيشها بقي سليماً ومن دون خسائر تستحق الذكر (دمرت الغارات الجوية الأطلسية  الأمريكية 13 دبابة صربية فقط لا غير، كما أعلن الأمريكيون بعد الحرب) .
يبدو أن هذا النمط من الحرب بدأ منذ بعض الوقت ضد إيران، مع إطلاق موجات الكترونية تستطيع، عند تفعيلها، تعطيل الدولة، أي إلغاء وجودها لبعض الوقت في حياة الشعب وتقويض قدرتها على إدارة العمليات العسكرية، وتالياً للسيطرة على حركة ومعارك جيشها، فهي حرب علم وليست حرب جنود، بلغت مرحلة متقدمة قبل أسابيع، عندما تم توجيه فيروس متطور إلى محطة بو شهر النووية، قالت إيران أول الأمر إنه أصاب بالشلل ثلاثين ألف كمبيوتر شخصي للعاملين في المحطة وإدارة واقتصاد الدولة، لكنه لم يعطل المحطة نفسها، ثم أصدرت إعلاناً رسمياً يؤجل تغذيتها بالوقود المخصب إلى أجل غير محدد، بعد أن كانت قد حددت موعداً له في أجواء احتفالية تتسم بالتحدي . ومع أن مسؤولاً رفيعاً قال يوم الرابع عشر من شهر اكتوبر/ تشرين الأول الماضي إن إيران نجحت في التغلب على الفيروس، وأعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي، فإن أحداً في الجبهة الأخرى من الحرب  وهو طرف مجهول إلى اليوم  لم يعلق على الأمر، فضلاً عن أن أحداً لم يعلن تبني أو امتلاك السلاح الجديد، الذي قيل إنه على درجة من التطور تفتقر إليها معظم دول العالم، بما في ذلك المتطورة جداً منها، وأن مصدره يجب أن يكون الولايات المتحدة الأمريكية بالذات .
هل تعطلت محطة بوشهر؟ يكاد يكون من المسلّم به أن شيئاً ما وقع فيها لا يعرفه غير طرفي الحرب: إيران والجهة صاحبة الفيروس . وبغض النظر عن هذه المسألة التفصيلية، التي تتصل بفاعلية الحرب الجديدة وأدواتها وليس بواقعة حدوثها، فإن ما يثير الاهتمام هو هذا النمط المختلف وغير المسبوق من الحرب، الذي سيتزايد نشوبه وتتعاظم فاعليته في الصراعات والعلاقات الدولية، وسيزداد تأثيره باطراد في واقع الدول، بالنظر إلى إمكانية شنه وخوض غماره من دون إعلان، ومن دون قطع أو توقف علاقات البلدان المتحاربة على أي صعيد، بل ومن دون سقوط قتلى وجرحى أو تدمير مدن وقرى وطرق مواصلات وجسور ومصانع وموانئ ومطارات . . . الخ، ومن دون أن تطاله المنظومة القانونية التي تضبط علاقات الدول، أو تتمكن منظمات الشرعية الدولية التدخل فيه أو معرفة مجرياته . وللعلم، فإن هذه الحرب دائرة على أشدها بين أكبر دولتين في العالم: أمريكا والصين من دون أن يأتي أحد من قادتهما على ذكرها أو يبدي الرغبة في وقفها أو يتذمر منها . وقد قيل مؤخراً إن أمريكا تجري تدريبات، وتتخذ إجراءات لحظية وتطور برامج يومية لوقف هجوم إلكتروني صيني يخشى أن يعطل نصفها الغربي أو يصيبه بالشلل . وتفيد المعلومات القليلة، التي تتسرب بين حين وآخر حول هذه الحرب أن نتائجها لا تقل فتكاً بالخصم من النتائج التي تترتب على استخدام القنابل والصواريخ والطائرات، بل إنها تفوق الحرب التقليدية تأثيراً وقدرة على التدمير، لأنه لا يمكن صدها بأية عمليات تحصين أو تمويه مادية، على الأرض أو في البحر والجو، فهي حرب أثيرية قادرة على اختراق سائر العقبات والموانع والعوائق المادية وغير المادية .
هذا النمط من الحرب سيؤسس لحاضنة مختلفة للعلاقات الدولية، وسيفتح حدود جميع الدول أمام غزو إلكتروني/ معلوماتي شامل لا يعرف التوقف، وسينزل الهزائم بعدد غير محدود من الدول في وقت واحد، وربما في سويعات قليلة، وسيوفر أجواء تسمح للقوى الدولية المتقدمة أن تسيطر على بقية العالم عن بعد، من دون أن تريق نقطة دم واحدة من أي جندي من جنودها، مع أن كسبها سيكون مضموناً، على عكس ما هو حاصل اليوم . أخيراً، فإن هذا النمط من الحرب لن يبطل فقط الحروب النظامية، حروب الجيوش، بل سيقيد كثيراً الحاجة إلى الجيوش النظامية وسيقلص أعدادها، وسيحل التقني والعالم محل الضابط، والخبير في الإلكترونيات والمعلوماتية محل الخبير في الأرض والخرائط الميدانية والأسلحة التقليدية، وسيفضي إلى ابتكار أجيال من السلاح ذاتية العمل، لا تحتاج إلى من يشغلها، فهي تستطيع تشغيل نفسها بنفسها، وأخيراً، فإنه سيحد كثيراً من فاعلية حروب العصابات وربما إبطالها في زمن منظور، علماً بأن من سينتصر في هذه الحرب لن يكون الأقوى عسكرياً بالمعنى التقليدي بل الأكثر علماً وحرية واستثماراً في الذكاء والحرية: أي في أعظم وسيلة قتالية خلقها الله، ألا وهي العقل: عقل الإنسان، الذي سيتمكن من خوض الحرب الجديدة وكسبها بقدر ما يكون عقلانياً، حراً وقادراً على التفتح في شروط تقدم غير مقيد أو محدود، هو تقدم المجتمع الذي يوظف إمكاناته لتحقيق تنمية رأسمالها الإنسان الحر وعقله الطليق .
يقال: من يحسب يسلم . يجب أن نأخذ نحن العرب هذا النمط من الحرب بكل جدية، وأن نعمل لحماية بلداننا وشعوبنا ودولنا منه، لأننا أحد أهدافه المفضلة، ليس فقط لأنه يمحو الفوارق المادية الهائلة بيننا وبين العدو “الإسرائيلي”، بل ولأنه يمكنه من خوض حرب ضدنا نحن فيها مجرد ضحايا، لا يفيدهم عدد أو مال أو انتشار جغرافي واسع أو مخابرات أو عسكر . ويزيد من حاجتنا إلى ملاقاة هذه الحرب عبر تأمين مستلزماتها السياسية والاجتماعية، وعلى رأسها المواطن الحر والعقل الذي لا قيد عليه . إن العدو “الإسرائيلي” متقدم جداً في المجالات العلمية، ويحتل مراتب أولى على صعيد العالم في تقنيات هذه الحرب ووسائلها، وفي المعلوماتية والصناعات الإلكترونية، وأن بلدانا متقدمة كثيرة تشتري أسلحة تنتجها صناعاته، منها أمريكا وروسيا . والسؤال هو: إلى متى ستظل بلداننا في ذيل قائمة الدول في البحث العلمي والتقدم الفكري والحرية .
خسرنا في الماضي حروب المدافع والصواريخ والطائرات، فهل نكون مصممين اليوم على خسارة الحرب الجديدة أيضاً: حرب الفيروسات والكمبيوترات، التي نحذر منها، لأنها ستمكن “إسرائيل” من إركاعنا، فلا تفيدنا المساحات الواسعة الشاسعة، ولا الطائرات والدبابات، ولا ينجينا من الهزيمة النهائية فيها غير النعم الكبرى التي منحها الله لعباده: العقل والحرية وصدق الإرادة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى