صفحات ثقافية

اعتـــذار غويتســـولو

null
عباس بيضون
حين قامت الضجة حول ترؤس المندوبة الليبية للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ردت الجماهيرية بإعلان جائزة القذافي لحقوق الإنسان واليوم هناك جائزة القذافي العالمية للآداب، كان من اوائل تباشيرها رفض ابراهيم الكوني، الروائي الليبي، ترؤس لجنتها ببيان خجول قال فيه إنه اعتذر عن ترؤس لجنة عربية لجائزة أدبية لأن ليس من عادته أن يدخل في عداد لجان كهذه. اعتذار مهذب ولا نريد ان نذهب في تفسيره الى أبعد. فكفى الكاتب إحراجاً. لا نذهب الى أبعد لكننا نقدر نزاهة الكاتب واستقلاله وترفعه، فمن هو في مكانه لا يستسهل ان يتخذ قراراً كهذا، إيثاره حريته وأدبه على أي شيء آخر هو بحد ذاته موقف وهو بحد ذاته تشريف للأدب والفكر. لا نستطيع ان نقول الشيء ذاته عن صلاح فضل الذي يبدو وكأنه متعهد الموضوع او عرّابه. سرعان ما بدا كذلك بعد ان اعتذر الكوني واعتذر، كما سنرى، غويتسولو. بدأت المسألة هكذا باعتذارين. أحدهما حيي لكن حيــاءه لا يضعــف من دلالــته أما الثاني فصريح.
لكن هذا يجعلنا امام روايتين، أولاهما فورية وثانيتهما منقحة. الأولى تقول إن الكوني اعتذر وغويتسولو اعتذر ايضاً حين اتصل به صلاح فضل (الاسم الوحيد المتواتر في المشروع) وعرض عليه الفوز بجائزة القذافي للآداب، لكن غويتسولو أجاب بأن حبه للعرب ودفاعه عنهم صريحان معلنان، انحيازه للفلسطينيين في صراعهم معروف، انه التزام بالحرية والعدالة لا يخفيه لكنه للسبب نفسه يرفض جائزة القذافي، لقد ايد العرب والفلسطينيين تأييداً لا يزجيه لديكتاتوريهم ومستبديهم. تقول الرواية إن نقاشاً جرى حول اسم الجائزة وتوصية الى تغييره الى الجائزة العالمية للآداب، لكن صلاح فضل رفضها محتجاً بأن بقاء اسم القذافي في الجائزة سيشجع غيره من القادة على تبني جوائز مماثلة فيستفيد الأدب من ذلك ويستفيد الأدباء.
تلك هي الرواية الأولى التي تبعتها رواية منقحة صاحبها هذه المرة هو صلاح فضل نفسه. تقول الرواية إن صلاح فضل لم يعرض على غويتسولو الفوز بالجائزة ولكن الترشيح لها وإنه اتصل به للحصول على البيانات الضرورية لترشيح كهذا. لا نفهم من صلاح فضل جليّة اعتذار الكوني، لكننا من الاسم الذي ذكره للجائزة نعرف انها الآن الجائزة العالمية للآداب وليست بعد جائزة القذافي العالمية للآداب. جرى إذن تعديل في اسم الجائزة. لا بد ان جواب غويتسولو أثمر. يعرفون الآن ان ما من كاتب يحترم نفسه يرضى بجائزة تحمل اسم القذافي ومبدئياً تحمل اسم أي رئيس. ما بالك مثلا بجائزة تحمل اسم بوش او بن علي او علي عبد الله صالح او… او… اما اذا كان الرئيس هو القذافي فإن السجون والاغتيالات ولوكربي والكتاب الاخضر والنهر الصناعي الكبير وحرب تشاد ودعم الجيش الجمــهوري الإيرلــندي وتنظــيمات أخــرى، إضافة الى صفة القائد. هذه جميعها لا تجعل كاتباً صحيــح الضمير يرضى بجائزة تحمل اسم القذافـي مــن دون حرج او سؤال.
بين رواية غويتسولو ورواية صلاح فضل المنقحة لا نتردد في قبول رواية غويتسولو. غويتسولو عندنا اوثق من متعهد جوائز كصلاح فضل. متعهد جوائز رؤساء وما يستتبعها او يسبقها من خدمة الرؤساء وتجميلهم. غويتسولو، كما قال في رسالته، محب للعرب بلا تحفظ. شأنه من نواح كثيرة شأن جان جينيه. يحب العرب ذاكرة وحاضراً، ناساً وتراثا وقضايا. غويتسولو فضلاً عن ذلك أديب كبير (سبق لكاظم جهاد ان ترجم مقتطفات له) ولا مطمع له في مال القذافي ولا جائزته. إن صدقه وتعففه لا يحتاجان الى دليل. لا نستطيع أن نقول الشيء نفسه في صلاح فضل، لا أدبه يعصمه ولا غير أدبه. حين يقول إنه اتصل بغويتسولو ليحصل على بيانات ترسيخه لا نصدقه، مثل غويتسولو في مثل هذه المناسبة لا يسأل عن اسمه الثلاثي ورقم هويته وعدد كتبه، ولا يتوخى منه ان يقدم طلباً وأوراقاً رسمية. كلام كهذا يرتد على قائله، إنه مضحك فحسب، إن لم نقل شيئاً آخر. لا نشك في ان غويتسولو لا يملك سبباً ليدّعي او يزوّر. لقد قال ما قال في معرض الاعتذار، كان يهمه أن ينال جائزة عربية لكن ليس هذه الجائزة. لو منح جائزة فلسطين لقبلها بلا تردد او تحفظ، لكن جائزة القذافي! الا يجدر به ان يرفضها تضامناً مع كثير من الليبيين على الأقل. حكايات البيانات هذه شطارة وصلاح فضل شاطر بالتأكيد لكن الشطارة التي تناسب متعهداً لجوائز الرؤساء ولا تناسب كاتباً ولا أدباً.
ليس صلاح فضل الوحيد الذي لا نستطيع ان نقرر فيه المتعهد من الكاتب ولا ندري أيهما يخدم الآخر. لكن الرجل جزء من ظاهرة ممثلها الأبرز هو الرئيس القائد نفسه. إن تصحير مجتمع وثقافة وحياة يتم بقدر كبير من الاحتفــالية والتهــريج والإنفــاق الاسطوري والمظاهر الامــبراطورية والــجوائز العالمية ايضاً. إنه ســيرك كبيــر وقــد لا ينتج تاريخنا الحالي، من هذه الناحية، سوى القرود.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى