صفحات من مدونات سورية

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

تنقل رواية ( القوقعة : يوميات متلصص ) للكاتب ( مصطفى خليفة ) قارئها إلى سراديب المعتقلات والسجون العربية ليلمس الذل والتعذيب حيث عاش الكاتب نفسه فترة طويلة من حياته .
تلقي الرواية الضوء على تفاصيل حياة ما وراء القضبان والتغير الفكري والنفسي الذي يطرأ على السجين واختلاف نظرته إلى الحياة بعد إطلاق سراحه وصعوبة اندماجه بالواقع وإبراز جانب المعاناة الإنسانية للمعتقلين من الناشطين السياسيين التابعين لحزب الأخوان المسلمين داخل السجون السورية أثناء أحداث الشغب التي أثارها ذلك التنظيم في المجتمع السوري ( فترة الثمانينات من القرن الماضي .)

تتحدث الرواية عن حياة الكاتب نفسه ، قدمها بشكل مذكرات شاب سوري الهوية مسيحي الديانة ملحد الإيمان والعقلية والتفكير ، درس الإخراج الفني في فرنسا ، ودّع صديقته هناك عائداً إلى وطنه حيث تلقفته الأجهزة الأمنية في المطار ليُسجن بعدها طيلة الثلاث عشرة سنة التالية معتقداً انه خلف القضبان لاتهامه بالانتساب إلى حزب الأخوان المسلمين بينما كان في الحقيقة مسجون بسبب تقرير كتبه أحد المخبرين عليه بعد اجتماعهم على طاولة عشاء سرد الشاب فيها مجموعة من النكات السياسية التي طالت شخص الرئيس .
محاولاته المتكررة في بداية فترة اعتقالاته للتواصل مع المعنيين بهدف توضيح استحالة انتماءه لتنظيم الأخوان المسلمين كونه لا يدين بالإسلام – إبطال التهمة التي ظن نفسه مسجوناً بسببها – باءت بالفشل التام وأكثر من ذلك فإعلانه حقيقة كونه غير مسلم غير واقعه نحو الأسوأ ـ فاعتبره السجناء جاسوساً كافراً قَتْله واجب عليهم ، ولعدم قدرتهم على قتله داخل السجن قرر السجناء عزله عنهم – لنجاسته – قرب باب المهجع . مجبرين إياه طوال الفترة التي قضاها في المعتقل على الانزواء على ذاته داخل قوقعته .آخذا دور المتلصص على مجتمع الضباط والمجندين من جهة – بواسطة ثقب وجده صدفة في زاوية عزلته يطل على الساحة الخارجية للسجن – وعلى جماعة الأخوان المسلمين بمختلف مشاربها وتياراتها الفكرية المتملثة بالمعتقلين داخل المهجع ومن جهة أخرى .

اعتمد الكاتب أسلوب عرض المذكرات اليومية بطريقة السرد التقريري لأحداث اليوم ، فأخذت عناوين الفصول والأقسام أسماء التواريخ التي جرت فيها الأحداث ، لم يتم عرض التاريخ بشكل احترافي يتناسب مع أسلوب المذكرات الذي اختاره الكاتب ، فاقتصر التاريخ على ذكر الجانب الشهري فقط( 20 نيسان – 25 كانون الأول … الخ ) الأمر الذي انعكس سلبا على استيعاب القارئ لتسلسل أحداث الرواية وخاصة عند القراءة بشكل متقطع على جلسات منفصلة، زاد من المعمعة وتداخل الأحداث في ذهن القارئ اختيار الكاتب للتواريخ المكررة (تاريخ 24 شباط تم استخدامه كعنوان لثلاثة أحداث منفصلة ومتباعدة زمنيا ! )

في بداية الرواية وعند نقل الأحداث إلى السجن الصحراوي وضحّ الكاتب أن كلمة “التنفس” تعني لكل السجناء فترة استراحة يتريضون فيها تحت الشمس ويستنشقون الهواء النقي في الساحات العامة المنشأة داخل السجن ، أما مجموعتهم فكانت كلمة “التنفس” تعني فترة جحيمية يخرجون فيها بالضرب واللبط الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه وينفذ الأوامر الموجهة له . سبب اعتماد إدارة السجن المعاملة الاستثنائية لهذه المجموعة بالتحديد يعود إلى انتماء أفرادها إلى حزب الأخوان المسلمين .
يعود الكاتب في منتصف الرواية تقريباً ليتحدث عن بنية المجموعة والاختلافات التي فيها ، موضحاً أن المجموعة التي سجن معها ليست جماعة واحدة بل منقسمة إلى مشارب متعددة مختلفة ايدولوجياً فيما بينها ، وقد يصل الاختلاف والانقسام لمرحلة التخوين والتكفير ، فمنهم من كان ينتمي إلى أحزاب متشددة تعتبر الجهاد فريضة ، ومنهم من كان سلمي ينتمي إلى أحزاب سلمية لم تحمل سلاحاً ولم تشارك في العمليات العسكرية كحزب التحرير الإسلامي ، أما الخطأ الكبير الذي وقع فيه الكاتب هو ذكر الجماعات التصوفية كأحد الجماعات المسجونة في المهجع الذي سجن فيه !
الجماعات التصوفية بكثرتها وتشعبها لم تعمل يوما في المضمار السياسي ولم تشكل يوما حزبا سياسيا ويعلم الجميع حقيقة كونها مذهباً دينياً لا حزباً سياسياً .
إن تم إدراج الصوفية ضمن الجماعات المشكلة لسجناء المهجع انطلاقا من اعتبارها المتصوف جزءا من مجموعة “للإسلاميين” فتلك مصيبة كبيرة ، لأن لقب “الإسلاميين” ضمن نطاق الأحزاب السياسية لا يجوز إطلاقه على كل من يدين بالإسلام ، لوجود اختلاف بين العقيدة الدينية والتوجهات السياسية بين الإسلام والأحزاب الإسلامية .
أما إذا كان الكاتب على علم بالاختلاف القائم بين فكر العقيدة الإيمانية وفكر الأحزاب السياسية واعتبر الجماعات التصوفية جماعات سياسية التوجه … فالمصيبة أعظم .

لم يقم الكاتب بتحريك الشخصية الرئيسية – شخصية الكاتب نفسه – ضمن محيطها الطبيعي، واقصد هنا شخصية المعتقل المسيحي-الملحد ضمن جماعة إسلامية متدينة .فلم يذكر بأي جزء من الرواية تفاصيل أو إحداث أو حتى مجرد أفكار متعلقة بشخصية بطل الرواية .
أحترم رغبة الكاتب بالتكتم عن معتقداته ومنهجية تفكيره والتعتيم التام على ما وارده من أفكار وآراء في معتقله كون الرواية تتحدث بشكل مباشر عن حياته الشخصية .
إلا أن غياب الفكر الديني المسيحي أو الفكر الإلحادي – والذي كان عاملا أساسيا في قوقعة الشخصية على نفسها وعزلتها عن المجموعة – غياباً تاماً عن الشخصية خلق فجوة في الرواية وأعتقد انه أخسر الرواية بعضاً من اللمسة الحقيقية التي يتعمد الروائيين وضعها في رواياتهم لإكسابها الطابع الواقعي .
استعارة الكاتب لغة المعتقلات بما فيها من شتائم وكلمات نابية -بحسب تقديري : شتيمة لكل نصف صفحة – لم تعجبني إطلاقا واعتبرها نوعا من أنواع الضعف في التعبير عن الفكرة بأسلوب أدبي متميز ، فرسالة الأدب وقوته تتجلى بقدرته على وصف الواقع بدقة وموضوعية تجعل القارئ يعيش الواقعة أو الحادثة ، فتنقل له الكلمة كل الأحاسيس والمشاعر والأفكار دون التدني إلى مستوى الحادثة ومصطلحاتها ، كان على الكاتب البحث عن أسلوب آخر لإيصال فكرته – فكرة اعتماد السجّانين منهجية اهانة السجناء – بعيداً عن استخدام الشتائم بحرفيتها .
ألبس الكاتب السجناء الطابع الملائكي وحصرهم في خانة “المظلومين” فالطبيب سجن لأدائه الصلاة ، والأخ سجن لأن أباه تستر على ابنه الهارب من بطش الحكومة ، والبدوي سجن لأنه ارشد مجموعة من الضالين على الطريق الصحيح ، تبين فيما بعد أنهم هاربون من الحكومة واتهم البدوي بالخيانة والعمالة
وقام أيضاً بتحويل كلمة سجين إلى : معتقل -فدائي – شهيد واستخدم في أكثر من حادثة كلمة “الرهائن” .
شخصية واحدة فقط من السجناء ( أبو القعقاع ) أظهرها بالطابع العدواني المجرم بحق المجتمع السوري وبالغ الكاتب في وصف ردة فعل السجناء واستنكارهم لها ووقوفهم بوجهه !
استخدام آلية الوصف السابق حققت نجاحاً للرواية من الناحية الأدبية ، إلا أن ثوب النجاح يحمل في ثناياه تجنّي على الواقع والتاريخ والمنطق فان يكون السجن بكامله من الأبرياء أمر لا يتقبله العقل ولا يستوعبه المنطق !خصوصاً أننا نتحدث على فترة نشاط سياسي إرهابي من قبل ذلك الحزب . قد يكون الكاتب بحد ذاته ضحية لكنه تعميم صفة الضحية على كل السجناء أمر غير مقبول بالنسبة لي .
معاناة الكاتب ومأساته موجعة إلى حد كبير ولا أعتقد أن احد ما سيمر أمام الأحرف التي خطتها دون لمس عمق الوجع والمعاناة الكاتب ، لكن تصوير الواقع بهذا الشكل يحمل بعض المغالاة في الدفاع عن الناشطين ضمن حزب الأخوان المسلمين . فشخصيات الرواية ليسوا من معتقلي الرأي أو من الناشطين فكرياً وسلمياً ليصح تسميتهم بالشهداء والفدائيين .

http://www.syriel.net/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى