صفحات العالمما يحدث في لبنان

عن مستقبل كالماضي في لبنان

سليمان تقي الدين
تتسع مساحة الافتراق بين الجماعات اللبنانية كل يوم . هناك اتهامات بسفك الدماء ولو عن طريق التلميح والإيحاء . هناك استعداد معلن لمواجهة دموية فيها كل أشكال العنف المادي .
غادر اللبنانيون مواقعهم في الاحتكام إلى السياسة وإلى المؤسسات وإلى مرجعية القانون والدستور . الرفض المتبادل لقاعدة واحدة مشتركة يجعل البلاد في انقسام عميق يتعذّر معه التعاقد مجدداً على الاستقرار .
في منظور كل من الفريقين أن التناقض بين المشروعين هو تناقض أساسي . في التوصيف الحاد هناك مشروع “إسرائيلي”  أمريكي، وهناك مشروع هيمنة مذهبي إقليمي مسلح . مشروعان لاغيان . سلبيتان يستحيل التعايش بينهما . كل الأطراف السياسية مسؤولة بشكل أو بآخر عن بلوغ الصراع هذا المستوى من الانغلاق . هذه الأطراف قدمت نفسها أصلاً لجمهورها ولجمهور الآخر بوصفها كيانات مغلقة . أضاعت جميعها كل الهوامش الممكنة للتمييز بين دورها الوطني العام ودورها الفئوي الخاص . حين تتصرف الجماعات السياسية كطوائف معزّزة بلغة عقائدية، لا تقدم للآخر الكثير من فرص التفكير بما تهدف إليه وما تسعى له، وما هي نواياها الحقيقية . كلما تعملقت هذه الجماعات في أي ميدان زاد الاحساس لدى الآخر بأنها ذاهبة إلى أن تكون محور المجتمع والنظام وقطب رحاه وقيادة تشكيله . هذه أزمة المجتمعات التعددية التي لم توفر بعد مساحات مشتركة قوية راسخة وحرَّة . حين تصادر الأحزاب السياسية طوائفها في مشروع سلبي أو إيجابي، وطني أولاً، تقدمي أو رجعي، تكون قد رسمت سلفاً حدودها للفعل في العام والأوسع . من التفصيل عندها أن تتعرّى اللغة السياسية من السياسة ومن المجاملة ومن التورية .
يرسم كل فريق خطاً أحمر على موقعه السلطوي أو الجغرافي أو مقدساته، لا حوار بين المقدسات ولا تفاوض بين ما يعتبر حقوقاً مكتسبة، تتدرج الحصانة الطائفية من أعلى الهرم إلى أدناه، من الموقع الرئاسي إلى موقع الموظف، من الموقع اللبناني إلى الموقع المديني . هذه لغة القتل الوطني التي تبدأ بتصفيف المدن والسواحل والجبال والأدوار باسم زعيم أو طائفة أو تيار أو جماعة . لم ينجُ فريق واحد من هذا الشطح، ولم ينجُ فريق من الإملاء على البلد كله شروطه الخاصة، في تقديس زعيم أو شعار أو مهمة أو علاقة أو مصلحة . أخذت البلاد وتؤخذ كلها رهينة موقف من زعيم أو شهيد أو عداوة أو تحالف . هذا المستوى القبلي من ممارسة السياسة ينسحب على كل تجربتنا في العام والخاص، إذا غضبت عليك بنو تميم/حسبت الناس كلهمو غضابا .
لسنا في معرض التجريد جزافاً، هذا كلام يقود إلى القول إن اللعبة السياسية الصبيانية أو الدموية التي تحكم حياتنا الوطنية لا يمكن أن تخرج من خفتها أو مأساويتها من دون تصحيح قواعد اللعبة . إذا كان اللبنانيون يصرّون على واقعهم الطائفي فعبثاً نبحث عن قيم وطنية وإنسانية . لن تقوم دولة تحت وطأة سياسات احتوائها من الطوائف أو الهيمنة عليها، ولن تقوم مسالمة بين اللبنانيين أو يقوم عيش حقيقي إذا تمادى هذا الترابط بين السياسة والدين والطوائف، ليعذرنا الجميع المشارك في هذه الوصلة السياسية إذا قلنا إن للطوائف سعراً واحداً فلا تتميز كطوائف ولو تميّزت كأدوار . جميع الطوائف مدينة للبنان، وليس لبنان مديناً لها في شيء، وهي لا تعرف كيف تجد له صيغة لإدارته . يستطيع “اللبناني” أن يكون مع هذه الطائفة أو تلك في موقف أو قضية، لكنه لا يستطيع أن يكون مع طائفة بالجملة وبغير شروط . ومن أسف كل الطوائفيات السياسية التي لا ننكر عليها مساهماتها التاريخية في المشروع اللبناني انتهت أو تنتهي إلى تقليص أدوارها حين ترفض منطق التجاوز للنظام الطائفي . إذا كانت هذه هي التجربة التاريخية فلماذا نكررها اليوم ولا نستدرك هذا الخلل البنيوي في أي مشروع سياسي؟ سياسة الاختراقات الطائفية التي يتقنها جميع الفرقاء بالمال أو بغيره ليست قادرة على تغيير صورة البلد ومشهده الفعلي اليائس المستقطب حول مجموعة صغيرة من الزعماء الذين يختصرون طوائفهم . لا شيء تغيّر أو يتغيّر في هذا المشهد إلا بالمزيد من ازدواجية اللغة، المعلن والمخفي، لإدارة أزمة العلاقات المستمرة بين الجماعات . نحن لسنا أبداً دولة قانون ولا نحن في نظام ديمقراطي، ولا نحن في صراع بين التقدم والتخلّف . نحن مجتمع “متخلّف” عن كل هذه المفاهيم ويدار بواسطة القوة والقوة وحدها . في هكذا مجتمع تسود لغة هجينة مثل الهذيان والثرثرة عن “العدالة”، وعن “مرجعية القضاء”، وعن القانون الذي صار عجينة بين أيدي البقّالين . نحن لسنا قادرين على مواجهة “إسرائيل” بما هي مشروع، وليس بما هي “قوة عسكرية”، إذا كنّا نحرر الأرض لنعيد تسليمها إلى منظومة من التبعية لمركز قرار عالمي “إسرائيل” شريكة رئيسية فيه . طردنا “إسرائيل” عام 2000 من بيروت، كما طردنا الاستعمار كله من قبل في بلداننا، ثمّ مازلنا نتحدث عن “وديعة إسرائيل” هنا أو هناك، وعن “الأدوات الصغيرة” التي لا تسمح لنا في أن نمضي في خيار التقدم نحو المستقبل الذي صار اسماً لفعل ماضٍ، كما هو حال الكثير من المسمّيات العربية .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى