المسألة الكرديةصفحات العالم

كردستان في زمن ال”خراب”

هوشنك بروكا
“ويران” أي “خراب” هو إسم مجلة كردية أدبية شبه فصلية متخصصة بالحداثة والأدب المعاصر، تصدر في أربيل كل شهرين مرة، يشرف على تحريرها الكاتب والشاعر الكردي، خريج السوربون الأستاذ في جامعة صلاح الدين فرهاد بيربال.
بيربال، المعروف بين العامة والخاصة من أكراده، بتغريده خارج السرب، وإختلافه وتمرده على كل ثابتٍ، يواجه هذه الأيام في كردستان أحكاماً بالسجن جراء “خراب”ه.
بحسب الأخبار الواردة من كردستان، أن رئيس تحرير ال”خراب” بيربال يواجه حكماً بالسجن لمدة ستة أشهر، إلى جانب غرامة مالية قدرها خمسة ملايين دينار عراقي، لنشره “مقالاتٍ تسيء إلى الدين والذات الإلهية”.
أما المنشور الذي اعتمدت عليه السلطات القضائية الكردية في حكمها على بيربال، فهو نص مترجَم إلى الكردية من كتاب “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب” للعلامة شهاب الدين أحمد التيفاشي(1184ـ1253)، علماً أنّ الكتاب متداوَل في الكثير من الدول العربية والإسلامية.
الكتاب مقارنةً مع كتب أخرى “محظورة”، هو كتاب أقل من عادي، حيث يتناول فيه واضعه “أخبار إتيان الإناث كما في الذكور وما قيل فيه من نوادر الأخبار وملح الأشعار”، و”آداب السحّق والمساحقات ونوادر أخبارهن وملح الأشعار فيهن”، و”أخبار الخناث والمخنثين وما جاء فيهم من نوادر وأخبار وملح الأشعار”(يُنظر: الدين أحمد التيفاشي: نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، حزيران 1992، لندن&قبرص).
الكتاب، كما هو معروف، موضوع من قبل علامة إسلامي كبير مشهورٌ في الأدبيات الإسلامية بثقافته الواسعة، وإلمامه الكثير بعلوم عصره، وسعة مطالعته، وجمال لغته، رشاقة إسلوبه، فضلاً عن أنه مترجمٌ في الكثير من كتب السير والتراجم الإسلامية، بإعتباره “علامة وقاضٍ وطبيب وعالم وأديب لغوي”.
بعد حوالي 800 سنة من وضع الكتاب الذي يعتبر واحداً من أهم كتب التراث “الإيروتيكي” في الإسلام، يستفيق القضاء الكردستاني الآن في هذا الزمان المفتوح، على بعض ترجمةٍ من نصوصه، المنشورة في العدد الأخير من “خراب” الصادرة في هولير، ليحكم على رئيس تحريرها فرهاد بيربال بالسجن، بتهمة “الإساءة لدين الله”، و”خدش الحياء والذوق العام”، و”نشر الأفكار الهدّامة والصور الخلاعية”، و”الترويج للبوهيمية كسلوك مخلٍّ بالآداب العامة”.
والأنكى أنّ المحكمة “المؤمنة” الغاضبة على الترجمة الكردية ل”نزهة” التيفاشي، لن تنفذّ حكمها الصادر مبدئياً على بيربال(السجن ستة أشهر مع غرامة مالية)، وإنما “بدلاً من تنفيذ قرار المحكمة، سيتم تقييد قلمه الادبي لمدة ثلاثة اعوام، ولا يحق له التعبير عن آرائه بحرية بأي شكل من الاشكال، وفي حال تقديم اي شكوى ضده الى المحكمة خلال الاعوام الثلاثة المقبلة فسيتم تنفيذ قرار المحكمة بسجنه ستة اشهر”(آكانيوز، 22.12.10).
هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها بيربال وزملاؤه من المشتغلين في حقول السياسة والثقافة والفكر والكلمة الحرة، أحكاماً كيفيةً بالسجن في كردستان، تحت يافطة هذا القانون أو ذاك. بعضاً من هؤلاء لقوا حتفهم في ظروف غامضة، وراحوا إلى المجهول.
منهم مثلاً، سوران مامه حمه الذي قُتل في تموز 2008 أمام بيته، إثر نشره مقالاً اشتبه فيه تورط مسؤولين أكراد، في شبكات دعارة، وسردشت عثمان الذي اختطفه مجهولون في الرابع من أيار العام الجاري، من أمام جامعته في أربيل، بعد نشره مقالاتٍ انتقد فيها عائلة بارزاني الحاكمة، وتم العثور عليه في الموصل مقتولاً، وعلى الجسد علامات تعذيب ورصاصتين في الرأس، حسبما ذكرته تقارير لمنظمات إنسانية وحقوقية محلية ودولية.
هذا فضلاً عن تهديداتٍ تلقته مئات الصحفيين وكتاب الرأي، من جهات أمنية واستخبارتية كردية، كما تقول تقارير منظمة ال”هيومان رايتس واتش”، وال”أمنستي إينترناشيونال” ومنظمات أخرى.
ففي تقريرٍ سابق لأمنستي صدر العام الماضي، “قال مالكوم سمارت مدير برنامج المنظمة في الشرق الوسط وافريقيا إن حكومة إقليم كردستان بحاجة إلى سرعة معالجة مشكلات التعذيب والاعتقال العشوائي والهجمات على الصحفيين والعنف ضد المرأة”(البي بي سي، 14 أبريل 2009).
وطبقاً لما جاء في تقرير حديثٍ ل”هيومان رايتس واتش”، فقد حذّر نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة جو ستورك(الذي وصف قضية سردشت عثمان بأنها ليست أكثر من قمة الجبل الجليدي)، من مغبة “نشر بعض الأحزاب الكردية الحاكمة دعوات صريحة للعنف، في صحفها الرسمية”، قائلاً: “: “أن ينشر أحد الأحزاب السياسية الأساسية في كردستان دعوة صريحة للعنف، في صحيفته الرسمية، هو أمر غير مقبول بالمرة ويعرض الصحفيين لخطر مباشر. وأضاف: المسؤولين عن أعمال التحريض على العنف يجب أن يُلاحقوا قضائياً”.(يُنظر الموقع الرسمي للمنظمة، 29 أوكتوبر 2010: http://www.hrw.org/de/news/2010/10/28-0 )
أما القانون الذي عوقب عليه بيربال، فهو قانون يعود إلى حقبة عراق صدام، حسب تصريحٍ لبيربال نفسه أدلاه لإذاعة صوت أميركا.
ف”هل قاتلنا صدام من كردستان وثرنا على عراقه، لتأكلنا اليوم ثورتنا وتحكمنا قادتها بقانون صدام نفسه؟”، يتساءل بيربال.
على الرغم من صدور قانون الصحافة الجديد لعام 2008 عن حكومة الإقليم، إلا أنّ السلطات القضائية في كردستان لا تزال تستند في الكثير من أحكامها، على موادٍ من قانون العقوبات العراقي لعام 1969.
ف”طبقاً لمركز مترو للدفاع عن الصحفيين، المرصد العراقي لحرية التعبير الذي يُركز على شمال العراق، فإن حزب كردستان الديمقراطي وحده رفع أكثر من 10 قضايا على مدار الشهريين الماضيين بموجب قانون 1969″(تقرير هيومان رايتس ويتش 29 أوكتوبر 2010)
سبق وأن عبّرت منظمات إنسانية وحقوقية كثيرة عن قلقها لما يتعرض له الصحفيون وكتاب الرأي والناشطين الحقوقيين والسياسيين، من تهديدات ومضايقات.
بحسب تقرير منظمة هيومن رايتس واتش، المشار إليه آنفاً، هناك “تهديد حقيقي لحرية الرأي والتعبير في كردستان، إذا تجاوزت الإنتقادات الخطوط الحمراء،خصوصاً انتقاد قيادات الحزبين الحاكمين، أو الكتابة عن برزاني وأفراد عائلته”.
بيربال لم ينتقد لا عائلة بارزاني ولا طالباني، وإنما نشر بعض ترجمةً كردية لما كتبه علامة إسلامي قبل حوالي 800 سنة.
هو، كرئيس تحرير مجلة، نقل ما هو مكتوبٌ ومتداول في العالم الإسلامي منذ ثمانية قرونٍ.
ناقل الكفر، أي الذي “يحكي” الكفر، حسب الإسلام ليس بكافر، فكيف ب”ناقل” نصٍ متفق عليه إسلامياً، على أنه جزء لا يتجزأ من التراث الإسلامي ومكتبته؟
أقل ما يمكن أن يقال في هذا الحكم المستوحى من قانون عقوبات عراق زمان صدام، على “خراب” بيربال،، هو أنه حكم سلفي أكيد، يعيد بكردستان وتجربتها التي طالما تسمى ب”الديمقراطية”، إلى أكثر من وراء، وأكثر من سلفية دينية.
إنّ حكم المدعي العام في هولير العاصمة، الذي حكم على بيربال و”خراب”ه ب”إسم الشعب”، كما حوكم آخرون من قبل، هو حكمٌ إن دلّ على شيء، فأنه يدلّ على أن الدين في كردستان، ليس مجرد علاقة روحية بين العابد وربه، أو بعض شهادة لله ورسوله، أو بعض صلاةٍ، أو صومٍ أو زكاةٍ أو بعض حجٍ إلى بيت الله الحرام، كما يقول دعاة “دستور كردستان” وأحزابها “العلمانية”، وإنما الدين في كردستان، كما في أية دولة دينية أو شبه دينية، هو دولةٌ وحكمٌ وملك وقضاء.
الحكم بالدين هكذا سلفياً، على الثقافة وأهلها، هو قتلٌ للدين قبل الدنيا، وقتلٌ للدين في الدنيا قبل قتل الدنيا في الدين.
الدين ليس دولةً، والدولة المدنية لا دين لها.
والسؤال الذي يبقى بعد هذا “الحكم الخراب” على رئيس تحرير “خراب”، وسواها من “أخبار ووقائع الخراب”، هو: إلى أيّ خرابٍ تنحدر كردستان بعد كل ما أصاب أبناءها من ويلاتٍ، وذاقوه من خرابات؟
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى