الأزمة المالية العالمية

الأزمة المالية العالمية الراهنة

نذير جزماتي
الامبريالية هي عهد الرأسمال المالي، والاحتكارات التي تحمل في كل مكان النزعة إلى السيطرة، لا إلى الحرية. ونتائج هذه النزعة هو الرجعية على طول الخط ”
(لينين، الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)
كتب المفكر اليساري الفرنسي روجيه غارودي قبل أكثر من عقد في كتاب بعنوان”الولايات المتحدة طليعة الانحطاط”: أن الأميركيين تحولوا من دائن إلى مدين رئيسي ، كجبار بقدمين من صلصال بسبب هشاشة الاقتصاد المموه لبعض الزمن، بالمضاربات المالية التي حولت المصارف إلى كازينوهات، وحيث تضاعف إفلاسها”(1) ويتمثل أحد القدمين من الصلصال بالمبالغ الهائلة التي كانت تصرف من أجل إظهار رفاهية تنعم بها جماهير عريضة من العاملين في ألمانيا وغيرها من الدول المجاورة لما كان يسمى الاتحاد السوفياتي وباقي دول المنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية خصوصاً . ولم يكن ذلك كله، “سوى تنازل اقتضته ظروف الحرب الباردة ، وحتمته الرغبة في عدم تمكين الدعاية الشيوعية من كسب موطئ قدم (2)
أما القدم الأخرى من الصلصال فتتمثل بالامبريالية الإعلامية الأميركية التي تكلم عنها بالتفصيل الكاتب الأميركي هيربرت أ. شيللر في كتابه بعنوان “المتلاعبون بالعقول” الذي بدأه بالقول: “أن مديري أجهزة الإعلام يقومون في أميركا بوضع أسس عملية التداول ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا نحن الأميركيين ومواقفنا، بل تحدد سلوكنا في النهاية. فتضليل عقول البشر..”أداة للقهر” تسعى إلى “تطويع الجماهير لأهدافـــــها (أهداف النخبة الخاصة)…وحيث يكون التضليل الإعلامي هو الأداة الأساسية للهيمنة الاجتماعية ، كما هو الحال في الولايات المتحدة. وينتهي الأمر بالدارسين الموهوبين من حاملي الدكتوراه في الأدب الانكليزي إلى وظيفة محرر إعلانات لأن شارع ماديسون يدفع أضعاف ما تدفعه أقسام اللغة الانكليزية في الجامعات.”(3) وهكذا بلغــــت ميزانية الدعاية والإعلان (في تسعينات القرن الفائت) 250مليار دولار، وهي الآن لا تقل عن 500 مليار دولار، و الشمس لا تغيب عن إمبراطوريات شركات الإعلام العظيمة”(4)
ولاحظ موريس ألياس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن الرصيد المالي يرتفع في المتوسط إلى ألف ومائة مليار دولار في اليوم ( في الفترة نفسها)، أي أربعين مرة أكبر من التدفق المالي المتصل بالقواعد التجارية أي بالقوى المنتجة والإنتاج. في حين يبلغ حجم التداول بالمخدرات في الولايات المتحدة وقتئذٍ من الضخامة ما يعادل أرقام التعامل مع صناعة السيارات، أو صناعة الفولاذ (5)
وهكذا دخلت مسرح القوى العالمية طبقة سياسية جديدة من خلال البورصات وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وصناديق معاشات التقاعد.و لم يعد بوسع أحد أن يردعها، مثل الحكومة أو المجالس النيابية التي انتزعت الطبقة المذكورة منهما كل سلطة وكل مراقبة، وراحت تسرح وتمرح بوحشية في غابة رؤوس الأموال. وتستطيع هذه الطبقة التي تشكل الخمس الثري في المجتمع، التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها ، لا بل تستطيع أن تغير حدود الدول فتزيل عن وجه الأرض دولاً بكاملها وتقيم دولاً غيرها.
وقبل أن يشتد خطر وحوش الغابةً قال رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر في نيسان عام 1995أنه لا يجوز ترك العمليات في أسواق المال “تتم بسرعة وبحجم كبير، بحيث لم تعد تخضع لرقابة الحكومات أو المؤسسات الدولية”. وقال رئيس الوزراء الايطالي لامبرتو ديني: انه ” يجب منع الأسواق من تقويض السياسة الاقتصادية لبلد بأكمله”.وقال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في الفترة نفسها: “إن القطاع المالي بأجمعه مدعاة للاستنكار “، و سمّى المضاربين”وباء الايدز في الاقتصاد العالمي” (6)
و يجب أن لا يغيب عن البال أن انفلات وانفلاش أسواق المال هو الحصيلة المنطقية للسياسة التي انتهجتها حكومات الدول الصناعية التي أطلقت المارد من القمقم، قمقم الالتزام بقرارات الحكومات، أو برلماناتها. وقد بدأ كل ذلك مع إلغاء أسعار الصرف الثابتة لعملات البلدان الصناعية الكبرى في عام 1973. وقبل ذلك كانت قواعد نظام بريتون وودز لعام1944 هي السائدة. وقد دعت هذه القواعد لتحرير العملة الأميركية من الأرصدة الذهبية. ووعد البنك المركزي الأميركي بتحويل الدولار إلى ذهب عند الطلب. وكانت رقابة الحكومات صارمة على مبادلة مبالغ كبيرة أو تحويلها ، رداً على حالة الفوضى التي سادت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وما رافقها من سياسات اقتصادية تهدف إلى الحصول على حصة الأسد في التجارة الخارجية. ولم تنقذ الرأسمالية من ورطتها وقتئذٍ إلا الحرب العالمية الثانية .
وتم تحرير أسواق المال من الرقابة الحكومية في عام 1970في كل من الولايات المتحدة وألمانيا، وكندا وسويسرا.وألغت بريطانيا آخر ما لديها من قيود عام 1979 ولحقتها اليابان بعد عام. ولحقت فرنسا وايطاليا بالأولين عام 1990 ثم لحقت بالركب كل من اسبانيا والبرتغال عام 1992، وبدأ العزف الجماعي على وتر استقلال سوق المال الذي تحول شيئاً فشيئاً إلى وحش لا قدرة للبشر على مواجهته. وشيئاً فشيئاً خسرت الجماهير العاملة أعمالها (شغلها) في صالح من يأخذ أجراً أقل في الهند مثلا. وتنامت يوماً بعد يوم صفوف العاطلين عن العمل. وخسرت أوسع أوساط الجماهير كل الضمانات بدءاً من التعليم وانتهاء بالضمانات الصحية، بسبب عجز الحكومات التي عانت أيضاً من نقل أموال الرأسماليين من بلدانهم إلى بلدان صغيرة هنا وهناك تعفي الرأسماليين من الضرائب التي تأخذها المصارف. ولم يعد يربط مختلف أنحاء العالم ببعض غير أموال المصارف، وشركات التأمين، وصناديق الاستثمار المالي وما تستخدم من شبكات الربط الالكترونية..حتى بلغت الأزمة الذروة في إعلان الإفلاسات في أكبر المصارف الأميركية ، مثل مصرف ليمان برذرز الذي أشهر إفلاسه بعد 158سنة على تأسيسه. ثم تم الإعلان عن الصعوبات التي تواجه شركة التأمين العملاقة (أيه آي جي) أكبر مجموعة تأمين في العالم.. وبقدر ما كانت الإعلانات عن الإفلاس تكثر بقدر ما أخذت الحكومات تهرع لاستخدام أموال ميزانية الدولة في حفظ ما يمكن حفظه إن كان في تقديم
المساعدات المالية التي تبلغ مئات مليارات الدولارات، في أميركا وأوربا واليابان، أو في اللجوء إلى التأميم الذي استخدم قبل فترة في بريطانيا لإنقاذ أصحاب مؤسسات صناعية من الإفلاس.
ويدعو الآن رئيس جمهورية فرنسا نيقولا ساركوزي إلى إقامة أسس جديدة للرأسمالية، أي إلى إقامة نظام مالي جديد يتمثل في العودة إلى أيام زمان حين كانت الحكومات التي فرضها الرأسماليون خدمة لمصالحهم الأنانية الخاصة، تتدخل وتراقب أيضاً لصالحهم..حتى إذا ما قوي عظم الرأسماليين في الدول الصناعية الكبرى السبع أو الثمانية، عاد الرأسماليون إلى التحرر من أية رقابة حكومية، و بلغت الأمور حد الإعلان عن إفلاس أكبر المصارف مثلما جرى في 9/15/ 2008.
ولو كانت الأحزاب اليسارية ومن ضمنها الأحزاب الشيوعية في البلدان الصناعية الكبرى بصحة جيدة ولا تعاني من الأمراض لكانت انتزعت زمام المبادرة من الرأسمالية المهترئة، ووفرت على البشرية الكثير من الآلام، ليس شرطاً بإسقاط أنظمة الحكم القائمة وإقامة الأنظمة الاشتراكية، بل في النضال على الأقل، من أجل فرض الحلول المناسبة للمشاكل التي تواجهها البشرية هنا وهناك.
الشواهد
1-روجيه غارودي،الولايات المتحدة طليعة الانحطاط،،ت مروان حموي، دارالكاتب دمشق 1998، ص 3
2-هانس بيترمارتين وهارالد شومان، فخ العولمة:الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية، عالم المعرفة، الكويت،8 199 ، ص 45.
3-هربرت أ. شيللر، المتلاعبون بالعقول، عالم المعرفة، الكويت/ 1999، ص 57
4-المصدر رقم 2، ص 46.
5- المصدر رقم 1، ص 48،
6- المصدر رقم 2، ص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى