صبحي حديديصفحات مختارة

باطن الظاهر

صبحي حديدي
أخبار ذكرى هجمات 11/9 الإرهابية لم تقتصر، هذا العام، على وقائع التهديد بحرق المصاحف، ثمّ تمزيق بعضها، أو اشتداد النزاع حول موقع المركز الإسلامي الجديد في ‘غراوند زيرو’، أو المفارقة العجيبة التي شاءت أن يتصادف عيد الفطر مع الذكرى إياها. ثمة خبر بهيج، واحد على الأقل، هو أنّ 362 من الألواح الأثرية العراقية، والتي يعود تاريخها إلى 4000 سنة مضت، كانت مخزّنة في قبو، أسفل أحد البرجَيْن، ولكنها نجت من الخراب، وتمّ ترميمها، وأُعيدت بالفعل إلى العراق مطلع هذا الشهر.
وكانت هذه الألواح الفخارية الصغيرة قد سُرقت، وهُرّبت من دبي إلى ميناء نيوارك، ولاية نيوجيرسي، حيث أفلحت سلطات الجمارك الأمريكية في ضبطها، وخُزّنت في ذلك القبو تمهيداً لإعادتها إلى العراق. سعرها يُقدّر بـ 330 ألف دولار، في أسواق تهريب الآثار بالطبع، وأمّا قيمتها التاريخية فلا تُقدّر بثمن، لأنها تتضمن معلومات قيّمة حول السلالة الثالثة في مدينة أور، والتي اقامت ما يُعرف باسم ‘الإمبراطورية السومرية الثالثة’، خلال القرنَيْن 21 و20 قبل ولادة المسيح. وهناك رأي، واسع الانتشار في صفوف علماء الآثار، يقول إنّ الصيغة السومرية الكلاسيكية من ملحمة غلغامش قد دُوّنت خلال هذه الحقبة.
في جانب آخر من حديث الآثار هذا، تناقلت وكالات الأنباء تقريراً لافتاً من العاصمة الإيرانية، طهران، يقتبس دعوة أطلقتها صحيفة ‘كيهان’ المتشددة، تحثّ السلطات على الاحتفاظ بقطعة أثرية ثمينة أعارها المتحف البريطاني للمتحف الوطني الإيراني لتُعرض هناك طيلة ثلاثة أشهر؛ للمرّة الثانية في الواقع، لأنها كانت قد زارت إيران سنة 1971، خلال الاحتفالات التي أقامها الشاه محمد رضا بهلوي بالذكرى 2500 لقيام النظام الشاهنشاهي. والحال أنّ هذه القطعة ليست سوى أسطوانة الملك قورش الشهيرة، التي تعود إلى القرن السادس قبل المسيح، ويعتبرها البعض أوّل شرعة حول حقوق الإنسان وحرّية المعتقد في التاريخ البشري، وتنصّ على سلسلة حقوق استنّها الملك الفارسي قورش الثاني في أعقاب غزو بابل سنة 539 قبل الميلاد، ونجاحه في أسر نابونيدوس، آخر الملوك البابليين، بمعونة مردوك إله بابل. والأسطوانة تسرد وقائع قيام قورش بإقامة نُصُب لآلهة تعبدها شعوب شتى غير فارسية، تمّ في الماضي استعبادها وجلبها إلى بابل (بينهم اليهود، الذين رجعوا إلى أورشليم بموجب شرعة قورش هذه، بعد أن كان نبوخذ نصّر الثاني قد طردهم منها، فأعادوا بناء الهيكل).
‘أليس صحيحاً أنّ أسطوانة قورش عائدة لإيران؟ أليس صحيحاً أنّ الحكومة البريطانية سرقت هذا الأثر القيّم والقديم الذي هو ملكيتنا؟’، تتساءل صحيفة ‘كيهان’ قبل أن تتابع: ‘إذا كان الجواب إيجابياً، وهو كذلك، فلِمَ نعيدها إلى الطرف الذي سرقها؟’. والحال أنّ الجواب ليس إيجابياً تماماً في الشطر الأوّل من السؤال، ولا ريب أنه محلّ أخذ وردّ وإشكالات شتى في الشطر الثاني. ذلك لأنّ الأسطوانة، رغم انتمائها إلى ميراث ملك فارسي، لم تُكتشف في بلاد فارس، بل في بابل العراق، سنة 1879، وهي بالتالي ملكية عراقية بالمعاني التاريخية والأركيولوجية والحقوقية. كذلك يساجل البريطانيون، كما تفعل الجهات الثقافية الغربية عادة، وكلما تعالى حديث عن سرقة آثار الشعوب خلال أطوار الإستعمار المباشر والإنتداب العسكري، أنهم لم يسرقوا الأسطوانة بقدر ما ‘عثروا’ عليها ضمن عمليات تنقيب ذات أغراض ‘علمية’ و’تاريخية’. ولأنها ليست سرقة، فقد وافق المتحف البريطاني على إعارتها في الماضي، حين كانت العلاقات البريطانية ـ الإيرانية طيبة، ويعيرها اليوم أيضاً رغم تدهور العلاقات.
أغلب الظنّ أنّ أسطوانة قورش سوف تعود إلى لندن عند انتهاء مدّة إعارتها، ولن يقطع حامد بقائي، نائب الرئيس الإيراني ورئيس منظمة السياحة والتراث الثقافي، تلك الشعرة الدبلوماسية، والقانونية الصرفة أيضاً، التي تربط منظمته مع المتحف البريطاني. ولكنّ اللافت الثاني في الأمر، بعد دعوة ‘كيهان’، هو تلك اللغة الفارسية حقاً، المفعمة بالفخار القومي والاعتداد بأمجاد الماضي السحيق، التي صدرت عن كبار المسؤولين الإيرانيين، بصدد الأسطوانة. فالرئيس الإيراني نفسه لم يتردّد في وصف قورش بـ’ملك العالم’، الأمر الذي يبدو مستغرباً من رأس نظام حرص على تخفيض نبرة التغنّي بماضي الفرس قبل الإسلام، وذلك على نقيض ـ مقصود، ومنهجي، ومدروس ـ ممّا كان يفعل الشاه.
لا أحد، سوى السذّج، غاب عنه المغزى السياسي ـ الشعبوي خلف حرص أحمدي نجاد على زيارة أسطوانة قورش، وإسباغ أوصاف تفخيمية على ملك وثني في نهاية المطاف، كما يقول المنطق البسيط (وكما يؤكد آية الله صادق خلخالي، الذي لم يتردّد في القول إنّ قورش كان ‘مثلياً’ و’عابداً للنار’). كذلك لم تغب عن الرئيس الإيراني ضرورة ‘الموازنة’، التي لا تقلّ شعبوية بالطبع، بين الاحتفاء بملك فارسي حرّر اليهود من أسرهم البابلي، وبين موقف إيران الراهنة من دولة إسرائيل، فكان أن وصل أحمدي نجاد إلى المعرض وقد أرخى على كتفيه… كوفية فلسطينية!
وبين ما تصنعه رموز التاريخ، البابلية أو الفارسية، الطالعة من باطن الأرض، وما يسجّله التاريخ في حوليات البشر على سطح البسيطة… ثمة موازنة أخرى راجحة بين الاختلاف والافتراق، والتآلف والاتفاق!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى