صفحات سورية

“أمطار سورية” تستحضر السياسة و… لا تطمئن الدين

null
أسعد العيدان
الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الإستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق وإمام المسجد الأموي الكبير في دمشق وأبرز ممثل لتيار الإسلام السني الرسمي في سورية، شخصية دينية ونجم أول في الإعلام الديني في سورية وخارجها. لا ينسى السوريون إطلالته على التلفزيون السوري منذ حوالي عشرين عاماً عندما “بشَّرهم” أن “الفرحة ستدخل كل بيت في سورية”، في سبق “إعلامي” عن عفو عام سيصدره الرئيس الراحل حافظ الأسد عن آلاف المعتقلين السياسيين، ولا ينسون الطريقة الوعظية التي خاطب بها الأسد الأب لدى تشييع ابن الأخير، باسل، عقب وفاته في حادث سيارة، ولا إمامته المصلين على جثمان الأسد الأب في القرداحة، الأمر الذي أثار وقتها دهشة مكتومة لدى الكثيرين وامتعاض صريح من البعض.
كما ان السوريون لن ينسوا لفترة طويلة ما صرح به الشيخ البوطي في درسه المعتاد في المسجد الأموي قُبيل صلاة الاستسقاء الجمعة الماضية، بل سيذكرونه، غالباً، باعتباره نقطة انعطاف في مسيرة رمز أساسي لما سُمي، لفترة طويلة نسبياً، تيار إسلامي معتدل ووسطي” في سورية، إن لم تكن بداية نهايتها.
ويبدو أن الدور الذي أُتيح للشيخ البوطي وتياره، خلال العقود القليلة السابقة، جاء سداً للفراغ الناشيء في الجسم السياسي والاجتماعي للكتلة السنية المدينية المحافظة والتقليدية في المجتمع السوري إثر هزيمة تنظيم “الأخوان المسلمين”، الممثل الأبرز لهذه الكتلة، أمام النظام في المواجهات التي جرت بينهما أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. إلا أن آخرون يرون أن التقارب بين البوطي والأسد الأب جاء على خلفية دعم حركات المقاومة في وجه إسرائيل في وقت يقف فيه معارضو أفكاره موقفاً سلبياً من تلك الحركات!
وبالتحليل، فإن هذا الدور المناط بالتيار، وهو أشعري في جوهره الفكري وصوفي في طرائقه وغاياته، يؤهله أبعاد جماهير غفيرة من عامة السوريين عن العمل السياسي، بخلاف ما تفعله حركات وتيارات إسلاموية أخرى (الأخوان، السلفيون، حزب التحرير) ما لم يكن مسخراً لخدمة سياسات وحاجات النظام.
حمل كلام الشيخ البوطي، الذي لم يتقلد قط منصباً رسمياً، نقداً لصلاة الاستسقاء التي دعا إليها رئيس الجمهورية وأُجريت يوم الجمعة الفائت 10-12-2010؛ فقال في معرض تبريره لعدم هطول الأمطار أن “هناك أسباب لهذه البلية إذا ارتفعت ستنهمر الأمطار من دون صلاة الاستسقاء، وإذا بقيت ستجدون أن هذه الحالة ستستمر وتتطور”. والسبب الأول الذي قدمه الشيخ لتفسير شح الأمطار هو مسلسل “ما ملكت أيمانكم”، الذي “بعث الشؤم في هذا البلد، وانتقاد أصحابه للقرآن، من خلال اسمه… ثم وجد من احتضن هذا المسلسل ونشره ونثره خلال ثلاثين حلقة”، حسب تعبير البوطي.
والسبب الثاني هو تحويل 1200 معلمة ومدرسة منقبة من سلك التعليم إلى وظائف في قطاعات حكومية أخرى، “لكن لماذا طُردن؟ لأنهن متدينات ولأنهن حريصات على دينهن”. أما السبب الثالث فهو ما اسماه “معاداة لمظاهر الدين في المدارس الخاصة”، حيث فرض الاختلاط بين الذكور والإناث في المرحلة الابتدائية بهذه المدارس ومنع اقتناء سجادات الصلاة و المصاحف.
كما انتقد الشيخ البوطي الطريقة التي جرت بها الدعوة إلى صلاة الاستسقاء لجهة افتقادها للشروط الشرعية الواجب مراعاتها في مثل هذه الأحوال. وذَكَّر بحادثة مماثلة في عهد الأسد الأب جرت وفق الأصول والشروط المتفق عليها بين فقهاء المسلمين “صيام ثلاثة أيام” تسبق صلاة الاستسقاء، والصلاة “جماعياً في مكان واحد”، بدلاً من الصلاة في مساجد متعددة. ومن دون توافر هذه الشروط وارتفاع تلك الأسباب “لن يُستجاب الدعاء، وعندئذٍ ستكون نتيجة هذه الصلاة أن نسمع الاستهزاء بنا”.
وفي المقابل، بدأ صحافيون سوريون، ومعظمهم يعمل في وسائل إعلامية رسمية أو شبه رسمية، حملة مقالات في صحف ومواقع إلكترونية طالت موقف البوطي وتجاوز بعضها حدود ما طُرح في ظاهر كلام البوطي. فكتب مصطفى البقجة جي مقال “رأي” تحت عنوان “إنه الخرف أيها الشيخ” أن الشيخ البوطي “كشف عن سر أخفاه عنّا طويلاً وهو أنه الناطق باسم الله عز وجل! لكن الطبيعة قالت غير ذلك من دون أن يسحب وزير التربية قراره ومن غير المتوقع أن يرفع المخرج التلفزيوني وفريقه أصبع التوبة”. ويسأل كاتب المقال: “أهكذا ترى الله…؟ إن الله أيها الشيخ الذي ضرب الخرف عقله ليس أداة بيدك لتقول باسمه ما ترغب”. ويواصل مخاطباً البوطي “بكل ما تزعم من علم لا تعرفه (الله) ولن تعرفه ما دمت تتمترس خلف هذه اللغة المتطرفة التي تغلفها بالزهد الكاذب… مالك والأعمال الفكرية؟ لماذا تتصرف وكأنك وصي على عباد الله وتحتكر الطريق إليه؟ إن قصتك تشبه قصة الملك العاري! آن لك أن تذهب إلى بيتك”.
مقال البقجة جي هذا ظهر على موقع “شام برس” الذي يوصف أنه “وكالة أنباء خاصة، تملكها وتديرها مجموعة الإعلام المستقلة بدمشق” ويرأس تحريره علي جمالو، الذي يُشار إليه بالصحافي “المقرب من أصحاب” القرار في سورية. وقد كتب زوار الموقع، خلال يومي 14 و15 كانون الأول/ديسمبر عشرات التعليقات على المقال إثر ظهوره، لكن المقال والتعليقات أُزليت في اليوم الثالث.
وفي مقال لديانا جبور بعنوان “أهل سلطان لا أصحاب دين”، نُشر في صحيفة “الثورة” الحكومية بتاريخ 13-12-2010، تكتب “هل أنزل سبحانه بأهل الشام عقوبة احتباس المطر لأن جماعة فنت فمثلت وغنت؟ إنه تفسير من يريد أن يتحكم بخيارات البشر بحثاً عن سلطة دنيوية تجعله سلطاناً في الحياة بدل أن يكون رجل دين، أي، محبة وتسامح”. وتضيف: “لو سلمنا أن الدنيا ميدان للعقاب والثواب الفوريين، فإن أحداً لم ينل تفويضاً لتحديد أشكال وأزمان عقابهم”. وترى أن “قساة الدنيا يعرفون أن الإيمان الذي يأتي به التخويف يذهب به العقل فهل هو الخوف من العقل؟ أنا لا أؤمن أن (الله) سبحانه وتعالى قد فوّض البعض بمهام المدعي العام الذي يقتصر دوره على حشد الاتهامات والمطالبة بإنزال أقسى العقوبات”.
وفي مقال يوحي عنوانه بروح توافقية: “أخطأ البوطي… وأساء وزير التربية”، كتب محمد عربي كاتبي: “نحن في سورية عشنا على التنوع، وعلى قبول كافة المعتقدات طالما أن كل ما يحصل من حوار هو تحت السقف الوطني وفي مصلحة الوطن”. ويرى كاتبي أن ثمة ماكينة إعلامية، من الإعلام العام والخاص، تحركت “لاقتناص زلة لسان الشيخ البوطي، كالعادة بأسلوب انتهازي وليس تحليلي أو توضيحي، فتم قص ولصق بعض مما قاله الشيخ، وتم تحريفه بأسلوب متعمد… وطبعاً في الإعلام السوري هذا الأمر قد اعتدنا عليه”.
ويصب كاتبي اهتمامه في مسألتي المدارس الخاصة وطرد المنقبات من قطاع التعليم. ويرى أن الفساد والمحسوبية وغياب القضاء هي العلل في تصنيف مدارس خاصة كمدارس “متشددة” وأن تعسف وزير التربية هو السبب وراء طرد المنقبات من التعليم.
إلا أن رجال دين سنة أيضاً خالفوا الشيخ البوطي في تفسيراته؛ إذ لم ير الداعية محمد حبش “في مسلسل ما ملكت أيمانكم تهجماً على الدين ولا إساءة للقرآن”. وأضاف أنه “لا يجوز لأحد أن يجزم بمعرفة الغيب”، على ما جاء في صحيفة “القدس العربي” بتاريخ 15-12-2010. وربما في مؤشر على التنافس بين الشيخ والداعية، عضو مجلس الشعب السابق، “دعا حبش لأن يعود المسجد الأموي إلى استيعاب كل العلماء، أي عدم ربطه بإمام واحد هو الشيخ البوطي”. وفي الصحيفة ذاتها قال الشيخ د. محمد البغا، الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق، “إن المعاصي تمنع القطر من السماء، لكننا لا نستطيع التكلم عن الله”. داعياً إلى الحرص على ” وحدة صفنا ووحدة الألم والأمل والإيمان بأن ما يؤذي البلد عموماً يؤذي كل فرد”.
كان يمكن لهذه الانتقادات أن تُدرج، بحق، في سياق الحق في التعبير عن الرأي، لو لم يكن للرأي “ثمنه”، ولو لا أن طبقات من الرقابة في الإعلام السوري تحول دون نفاذ ما لا يُراد قوله من جانب أصحاب القرار، ولو لم يكن العشرات من أصحاب الرأي نزلاء في المعتقلات السورية. ألا ان الظاهر أن “زلة لسان” البوطي كشفت الحدود التي يمكن حتى لشريك في السلطة أن يصل إليها. ربما لم يدرك البوطي مغزى التعارض بين خشية الأسد الأبن على العلمانية في سورية، الخشية التي أبداها لوفد أمريكي، ودعوته المتعجلة إلى صلاة الاستسقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى